مع اللحظة الأُولى من فجر اليوم الأوّل من شهر رمضان.. تبدأ ثلاثينيّة النور: رحلة من النور، وعبر النور، وإلى النور.
رحلة خاصّة متميّزة في مسيرة الإنسان.. من واقعه اليوميّ المألوف إلى الآفاق العالية، وإلى عوالم القرب الإلهيّ المُشبَع بنورانيّة روحيّة شفيفة مؤنسة، هي ما يَهَب الإنسان سعادته ويمنحه كرامته، ويفتحه على مدى إنسانيّته الفسيح.
ثلاثون نهاراً رمضانيّاً من المصابرة في مواقع الامتناع الاختياريّ عن حاجات الطعام والشراب والرغبات، لتكون دورة تدريبيّة في الاستعلاء على مطالب الغريزة ورغائب الجسد.
وثلاثون ليلة من ليالي الانفراد مع الله جلّ وعلا: ضراعةً ومناجاة. وثلاثون ليلة من الأُنس بالقرآن: كتاب الهدى والبصائر.. حيث الاتّصال بفيض ربّانيّ سخيّ، زاخر بالجمال والجلال، ومفعم بالفرح الروحيّ الغامر.
إنّه التطوير المستمرّ للإنسان، والتثبيت الدائم للمعرفة وللإيمان والإخلاص في الحياة، والتخفيف اليوميّ من غلواء النفوس والأهواء، والتخشيع المتواصل لمشاعر القلب ورفّات الفؤاد.
من هنا ـ أيّها الأعزّاء ـ يغدو الصوم حِصاً وجُنّة ووقاية. ومن هنا أيضاً يغدو الصوم تزكية وتطهيراً للجسد والعقل والروح. ومن هنا تكون للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربّه.
يفرح عند إفطاره لِما يجده في داخله من تخفّق من ثقلة الجسد ومن شفاقيّة في القلب. ويفرح عند لقاء ربّه لأنّه يلقاه بعد أن تزكى وتطهّر وتوهّج بالإيمان واليقين.. وعندئذ يجد ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وهذا كلّه من ميراث الصوم. في حديث المعراج: قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: يا ربّ، وما ميراث الصوم ؟ قال: الصوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين؛ فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح: بعسر أم بيسر.
هو إذن ـ أيها الإخوة والأخوات ـ ميراث الحريّة الحقيقيّة، والانفلات الباطني من سلطة العالَم.. إلى اليقين بالله، الذي هو غاية الغايات، والأساس الأرسخ لنهضة الإنسان فرداً وجماعة، وهو النَّسخغ الحيّ المحيي الذي يُفتّح أزاهير الحياة.
* * *
ثلاثون يوماً رمضانيّاً تفتح لنا أبوابها الوسيعة، منذ فجر اليوم الأوّل من هذا الشهر الكريم المجلَّل بالخير والبركات.
فرصة نفيسة متاحة لندخل في التجربة الصِّياميّة: نمارسها، ونتذوّقها، ونعيش ساعاتها وأيّامها.. لنخرج منها ـ حين نخرج ـ ونحن أوفر حكمة وأكثر عافية.
منذ الآن ـ أيّها الأعزّاء في كلّ مكان ـ نشدّ على أيديكم،ي ونبارك لكم هذه التجربة القيمّة، ونتمنّى لكم فيها الفوز والرضوان.
بطاقة تهنئة نقدّمها لكم معطّرة بنفحات القرآن، ومغسولة بأنوار العذوبة الإيمانيّة، ومصبوغة بصبغة الله ومَن أحسن من الله صبغة، ونحن له عابدون .
من شبكة الإمام الرضا عليه السّلام نرحّب بكم مرةً أخرى، ونلتقي بكم دائماً على مائدة المعرفة والصداقة والتعاون المستمرّ.
طابت أوقاتكم، ودمتم بخير