قراءة نقديّة لنظريّة عماد الدين باقي
تمهيد
ثمّة أفكار تُطرح حول حركة الإمام الحسين عليه السلام، تتناول تفسير حركته وثورته والموقف الذي وقفه في سنة (61) من الهجرة النبويّة، ومنها: ما طرحته كلمات بعض الباحثين المعاصرين، وهو الباحث الأستاذ عماد الدين باقي، والتي حاول من خلالها الدفاع عن فكرة أنّ الإمام الحسين لم يقم بأيّ ثورة، ولم يكن لديه أيّ مشروع تغييريّ بالمعنى الواسع للكلمة، ولم تكن لديه أيّ فكرة حول حرب أو قتال أو دم أو ما شابه ذلك، وأنّ المسلمين وأتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام هم الذين صوّروا لأنفسهم عبر التاريخ أنّ هناك ثورة وحرباً وجهاداً ومشروعاً كبيراً أراده الإمام الحسين بحركته هذه.
بدوري، سوف أحاول تقسيم الحديث ـ اختصاراً وبنحو الإجمال ـ إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى: عرض القراءة التي قدّمها الاستاذ عماد الدين باقي، وشرح أسسها.
المرحلة الثانية: مناقشة أطروحة الأستاذ باقي، والتعليق النقديّ عليها.
أولاً: عرض قراءة الباحث عماد الدين باقي وتحليل أسسها وبنيتها
تبدأ هذه القراءة بتفحّص سلامة التقسيم السائد في الأوساط الشيعيّة بين الموقف الحسني والموقف الحسينيّ؛ حيث إنّ الذائع على الألسن بين الشيعة هو التمييز بين موقف الإمام الحسن عليه السلام وجعله رمزاً للصلح والسلم واللا حرب واللا عنف، وبين موقف الإمام الحسين عليه السلام وجعله رمزاً للثورة والمقاومة والبسالة والتضحية وسفك الدم والحرب؛ وبالتالي فإنّ هناك افتراضاً ينطلق منه الموقف الشيعي يقرّر وجود فرق جوهريّ بين الحركتين والموقفين؛ فحركة الحسن حركة سلميّة صلحيّة، فيما حركة الحسين حركةٌ ثوريّة مقاومة نضاليّة، تختزن كلّ معاني الشهادة والدم والحرب والقتال.
وهكذا يقرّر صاحب هذه القراءة من البداية عدم سلامة هذا التصنيف؛ فلا يوجد منهج حسنيّ يختلف عن المنهج الحسينيّ في إدارة الأمور وتحرير قضايا المسلمين.
وفي ضوء هذا التأسيس ينتقد عماد الدين باقي أيضاً تصنيف الناس والعلماء والحركيّين وأصحاب المشاريع السياسيّة إلى: حسنيين وحسينيين، ويصفه بالتصنيف الخاطئ؛ إذ لا يوجد لدينا هذا الانقسام من البداية حتى نصنّف الناس وحركاتها ومشاريعها على أساسه.
وهو يرى أنّ شعار الإمام الحسين شعار ثوريّ، لكنّه من صنف الثورة على الحرب، بمعنى أنّ صاحب هذه القراءة يريد أن يقدّم صورةً مختلفة تفيد أنّ الحسين ثار ضدّ الحرب واللا سلم والعنف والقتال وسفك الدم، لا أنّه ثار وكانت ثورته عنفيّةً حربيّة، مختزنةً للقتال وسفك الدم.
ويضيف الأستاذ باقي بأنّنا ـ في المذهب الإمامي ـ نعتقد بأنّ أهل البيت النبوي كلّهم نور واحد، والمفهوم من كلمة (نور واحد) هو عدم الامتياز فيما بينهم، فلماذا وضعنا جداراً، بحسب تعبيره، بين الإمام الحسن وأخيه الحسين؛ حينما جعلنا الحركة الحسنيّة حركةً سلميّة، وجعلنا الحركة الحسينيّة حركةً عنفيّة كما يُصوّر؟! لقد اختلقنا بهذه الطريقة حاجزاً بين هذين الإمامين العظيمين، مع أنّ المفترض أن يكونا نوراً وضوءاً واحداً يشعّ على العالم، ولا امتياز ولا تمايز بينهما، فلماذا صوّرناهما على أنّهما يملكان خطّين سياسيّين، وكل خطّ يسير باتجاهٍ معاكس للخط الأوّل؛ حيث لكلّ منهما منطقٌ خاصّ في العمل السياسي يتغاير عن الآخر بدرجة مئويّة؟! وما هذا التصوير إلا مناقض للمبدأ العقديّ الذي يؤمن به الشيعة من أنّ أهل البيت عليهم السلام نورٌ واحد ومنهج وخطّ واحد.
وإذا سألنا الباحث باقي عن الهدف الذي كان يتوخّاه الإمام الحسين من حركته التي كان واقعها في نهاية المطاف حرباً وسفكاً للدماء؟ فإنّه يجيب بأنّ الذي حصل في عام (61) من الهجرة ليس هو الذهاب للاستشهاد كما هي النظريّة السائدة، وليس هو الذهاب لخوض حربٍ لاستلام سلطةٍ، كما هي النظريّة التي يختارها بعض العلماء مثل الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي صاحب كتاب الشهيد الخالدالإمام على السفر إلى الكوفة إلى حين لقائه بالحرّ بن يزيد الرياحي في إطار المرحلة الثانية:الهدف الأوّل المتوخى للإمام ـ مضافاً إلى رفض بيعة يزيد ـ هو تشكيل حكومة إسلاميّة قويّة كما هو مطمح رؤى الأحرار في العراق، وكسر سيادة الظلم والفساد وقلعها من الجذور، وبذلك ينجّي المسلمين ويحيي سنّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.أمّا الهدف الثاني فهو الانصراف، أي بعد أن تضعضعت الأوضاع في العراق وتسلّط عبيد الله بن زياد على الكوفة؛ بحيث أدّى ذلك إلى عدم إمكانيّة الانتصار العسكري، فوجد الإمام نفسه مضطراً للدعوة للانصراف.أمّا الهدف الثالث فهو الشهادة؛ وذلك لأنّ الإمام عليه السلام بعد ما رأى إصرار عمّال حكومة يزيد على عدم قبول طلبه بالانصراف، وتيقّن أيضاً أنّ خضوعه يعني التعامل معه بذّلة ومهانة، كما هو الأمر مع مسلم بن عقيل، حينها كان الدفاع أمام هجوم الأعداء ضرورياً، فقدّم نفسه شهيداً بعزّ وافتخار، فالانتصار العسكري هو الهدف الأوّل؛ والصلح مع الكرامة هو الهدف الثاني؛ والاستشهاد هو الهدف الثالث، راجع: صالحي نجف آبادي، حسين جاويد: 157 ـ 159." href="#footnote1_321zybh">1، وإنما مبايعة يزيد بن معاوية كانت أمراً مرفوضاً بالنسبة إليه وهكذا لاحقوه إلى حدّ القتل، فهو لا يريد أن يقاتل أصلاً؛ ولكن حينما هجموا عليه يريدون قتله؛ لأنه لم يبايع، اضطرّ لإشهار السيف دفاعاً عن نفسه، وهذا كلّ ما حصل، فلا يوجد هناك مشروع انقلاب على السلطة وعلى الهويّة الحاكمة انطلاقاً من العراق، ولا هناك مشروع حرب ومواجهة، ولا هناك مشروع تضحية شاملة بعشرات من الشهداء حتى تكون هذه التضحية موجبة لهزّة على مستوى الأمّة وإحياءً لضميرها كما كان يقول الشهيد الصدر مثلاً، كلّ ما في الأمر أنّ الحسين عليه السلام لم يرد أن يعطي شرعيّةً للسلطة الحاكمة من خلال مبايعة يزيد بن معاوية، ففرّ من المدينة كي لا يبايع، ولحقوه إلى مكّة، ففرّ من مكّة إلى الكوفة، ولحقوه إلى الطريق، وكلّ ما طلبوا منه المبايعة أنكر ذلك ولم يطلب الحرب والقتال والمواجهة، وحينما رفعوا السيف يريدون قتاله في وسط الصحراء أشهر السيف حينذاك دفاعاً شخصيّاً عن نفسه.
ولذلك نجد أنّ الإمام الحسين قد طلب في عدّة مرات أن يَدَعوه للذهاب إلى أيّ مكان في ديار الله الواسعة كما ينصّ صاحب هذه النظريّة (عماد الدين باقي)، والذي عنده مشروع سياسي أو استشهاديّ أو ثوريّ لا يمكن أن يتفوّه بمثل هذه الكلمات، كأن يختفي في كهف من كهوف الجبال أو يعيش في بطن الصحراء مثلاً، فما معنى أن يطالب بمثل هذه المطالب لأكثر من خمس أو ستّ مرات كما تشير الشواهد الروائيّة والتاريخيّة.
ومن خلال هذه الشواهد، نستنتج أنّ الإمام الحسين قام بذلك لكونه داعية صلح وسلم، ولكونه لا يريد أن يتحمّل مسؤوليّة الدماء التي ستسفك كما يقول هذا الباحث، ولم يكن شخصاً يود سفكّ الدماء أصلاً، فحركته نظير بعض الثورات التي شهدها القرن العشرين والتي أطلق عليها ثورات اللا عنف كالثورة الهنديّة مثلاً.، فالإمام الحسين هو رمز ثورة اللا عنف إذا أردنا أن نسعف هذا الباحث بهذه التسمية. ثورةٌ تقوم على أن نرفض ممارسة العنف لا على أن نمارسه.
ويخلص الباحث باقي في نهاية المطاف إلى النتيجة التالية: إنّ الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام كانا يريدان إذا خاضا حرباً أن تكون عقلائيّة، ومعنى عقلائيّة الحرب أن يكون فيها توازن قوّة، وحينما لا يكون في الحرب مثل هذا التوازن فلن تكون حرباً عقلائيّة، والحسين يعلم بعدم وجود توازن قوى بينه وبين جيش يزيد بن معاوية أصلاً؛ حيث يمتلك الأخير البلدان الإسلاميّة بأجمعها، وهذا معناه ـ بحسب رأي هذا الباحث ـ أنه من غير الممكن أن يخوض هذه الحرب؛ لأنّه إنسان عقلائيّ، ومثل هذا الإنسان لا يخوض حرباً لا تكافؤ فيها.
ولذلك يجد هذا الباحث الكريم أنّ الإمام الحسن حينما شعر بعدم وجود توازن قوى مع معاوية بن أبي سفيان أقدم على إجراءات السلم والصلح؛ لأنه لا يمكن لحرب أن تخاض دون وجود توازن في القوى، وإلا اعتبرت انتحاراً وتهوّراً وعبثيّةً وسفكاً للدم يتحمّل مسؤوليّته هذا الفاعل أمام الله سبحانه وتعالى.
كانت هذه عصارة الروية والتحليل الذي قدّمه لنا الباحث الكريم الأستاذ عماد الدين باقي2.
ثانياً: وقفات ومناقشات وتعليقات على قراءة الأستاذ عماد الدين باقي
في سياق المرحلة الثانيّة من هذا الحديث المجمل، نريد أن نعلّق على هذه القراءة التي حاول البعض أن يدافع عنها وأن يروّج لها ويتبنّاها، وعلينا في بداية الأمر الإلماع إلى ملاحظة عامّة على البحث برمّته على السؤال التالي:
لماذا كلّ هذا الإصرار الدائم في الفترة الأخيرة من بعض التيارات الثقافيّة بغية الهروب من فكرة العنف بكل أشكاله؟! فهناك حالة واضحة مسيطرة على الجوّ الثقافي العام في العالم الإسلاميّ تدعو دائما ً إلى نبذ العنف والتخلّص منه، ويُصوّر التراث الإسلامي على أنّه تراث عنفي، وأنّ هذا التراث العنفي يجب التخلّي عنه تركه وإهماله، وأوّل وسيلة تبدأ منها هذه المحاولة هي قراءة التأريخ قراءة غير عنفيّة، وفهم كلّ ما فعله النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم والإمام علي عليه السلام في حروبهما على أنّه ليس بعنف، وأنّ ما فعله الإمام الحسين عليه السلام في حركته ليس بعنف، فهناك إصرار عند شريحة كبيرة من المفكّرين ومن العلماء على نبذ العنف؛ لأنّه يحمل أضراراً كبيرة في العالم الإسلامي والتي تلوح آثارها السلبيّة للمتابع.
ويبدو لي أنّ هؤلاء أرادوا أن يتخلّصوا من كلّ نبع يضخّ العنف، أو يفيض به على هذه الأمّة؛ فأدخلوا قراءتهم للتاريخ ضمن هذا السياق، فكانت قصّة الإمام الحسين واحدة من هذه المفردات؛ أيّ لأنّ قصّة الإمام الحسين تشكّل أساساً لمفهوم الثورة العنفيّة في الثقافة الشيعيّة أراد هؤلاء أن يجفّفوا هذا النبع ليقولوا: ليس لدينا مصادر لمفهوم الثورة، ومن ثمّ علينا أن نتخلّى في حياتنا ونشاطنا السياسي عن العنف.
والملفت للنظر أنّ بعض هؤلاء الباحثين الكرام حينما يقرأون التاريخ ـ وربما يكون خصومهم متورّطين في هذه الإشكاليّة أيضاً ـ يحاولون تصفية حسابات الحاضر من خلال التاريخ نفسه، وسأعطي بعض الأمثلة السريعة:
أ ـ فحينما تكون لديهم مشكلة مع الحركة الإسلاميّة في أكثر من بلد إسلاميّ، وحينما يكون الحجاب هو شعار الحركة الإسلاميّة في بعض البلدان الإسلاميّة، فإنّ كسر فكرة الحجاب تعبير آخر عن إضعاف الوجود السياسي للحركة الإسلاميّة، ولذلك صرّح بعضهم بأنّ الحجاب هو عبارة عن مشروع سياسيّ جاءت به الحركة الإسلاميّة، وليس له أيّ عمق دينيّ.
ب ـ وحينما تكون لديه مشكلة في حاكميّة الفقيه، فإنّه يريد أن يصفّي حسابه مع هذا التيار المختلف معه، وذلك من خلال نسف فكرة الإمامة، كما حصل مع بعض الباحثين، فنسف فكرة الإمامة اقتلاعٌ جذريّ لفكرة نيابة الإمام، أي لحكومة الفقيه والفقهاء.
ج ـ وحينما تكون لديه مشكلة مع المرجعيّة الدينيّة، فإنّه يعود للنظر فيما يتعلّق بقضيّة الاجتهاد والتقليد؛ ليلغي دور الفريق الآخر في موضوع المرجعيّة الدينيّة.
إنّ بعض هؤلاء الباحثين الذين نحترمهم، لديهم مشكلة مع السلطة الدينيّة والتيار الديني الحركي الذي كانت له نشاطات سياسيّة وكان له نفوذه السياسيّ، فأرادوا أن يجفّفوا واحدة من أهم منابع شرعيّة هذا المشروع السياسي الإسلامي في الفترة الأخيرة من خلال فكرة الثورة؛ لأنهم شعروا بأنّ المشروع السياسي الإسلاميّ الحالي يقوم على مبدأ المقاومة والمواجهة والثورة والممانعة والتضحيّة وبذل الدم، فأريد تصفية هذا الحساب السياسيّ من خلال العودة إلى نفس التاريخ أو الفكر الديني أو القضايا الدينيّة؛ لإلغائها وتجفيف منابعها، ومن خلال ذلك تصفية الحساب مع هذا التيار الذي يستفيد من تلك الفترة الدينيّة3.
وهذا الموضوع من المواضيع المهمّة جداً فإن ما ينتج عنه هو أنّ السياق الذي تولد فيه بعض هذه الأفكار ـ وهذا لا يلغي شرعيّتها طبعاً ولا يجعلها غير صائبة في مطالعتها للأمور ـ هو سياق صراعاتٍ سياسيّة أريد لها أن تستند إلى إلغاء شرعيّة الطرف الآخر القائمة على بعض المعطيات الدينيّة.
وبعد هذه الملاحظة المدخليّةن علينا الدخول إلى المكوّنات الأساسيّة لهذه النظريّة التي تتحدّث عن إلغاء التمايز بين المنهج الحسني والمنهج الحسيني، وإلغاء فكرة العنف والثورة في مشروع الإمام الحسين؛ إذ يمكن التحدّث عن بضع نقاط إشكاليّة سريعة:
أولاً: ما أعتبره الإشكاليّة المنهجية وورطة المفارقات، فإنّ الباحث الكريم وغيره من الباحثين الذين ينتمون إلى تيار النقد الحداثي ـ إذا جاز التعبير ـ من أشدّ الناس إيماناً في الفكر الدينيّ بالنزعة التاريخيّة، أي النزعة التي تتحدّث عن أنّ ظروف الزمان والمكان تؤدّي إلى اختلاف المواقف والتقويمات والآراء والأفكار، فمثلاً يمتلك هذا الفريق توجّهاً دائميّاً يرون من خلاله أنّه لو واجه الإنسان حكماً معيّناً مثلاً، وهذا الحكم الفقهي لا ينسجم مع الواقع الحاضر، فإنّه يقول بأنّ هذا الحكم الفقهيّ يتناسب مع ذلك الزمان، ولذلك أصدره الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ليحلّ مشكلةً زمانيّة مكانيّة ظرفيّة حاليّة في لحظة تاريخيّة معيّنة، ومن ثمّ فهذا الحكم لا يخاطب الحاضر بنفس الطريقة التي يخاطب بها الماضي.
هذه النزعة موجودة، وليست في أصلها أمراً باطلاً، بل إنّني دافعت عنها في غير موضع، ولكنّني أتحدّث الآن عن مدى صحّة توظيفها في هذا المكان الذي نتحدّث عنه، وإلا فأصلها يلتزم به حتى بعض الفقهاء المسلمين.
وما يبدو لي غريباً هو أنّ الباحث الكريم تعاطى مع الموضوع محلّ البحث بذهنيّةٍ لا تمتّ إلى هذا التفكير التاريخي بصلة على الإطلاق، أي إنّه وبدل أن يدرس ظاهرتين مختلفتين في التاريخ، إحداهما وقع فيها صلحٌ بين شخصين كانا يتحاربان، والثانية وقعت فيها حربٌ أدّت إلى مجزرة رهيبة في التاريخ، أقول: بدل أن يقرّر أنّ المواقف المختلفة بين الظاهرة الأولى والثانيّة تعود إلى اختلاف الظروف، ثمّ يقوم بدراسة الظروف التي برّرت هذه الاختلافات في المواقع، ألغى هذا الأساس في طريقة التفكير الذي يتبنّاه في أمكنة أخرى كثيرة، ليذهب فوراً إلى القول بأنّ الأئمة عليهم السلام نورٌ واحد، وكونهم كذلك يعني أنهم نسخة واحدة، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، فهل ينسجم هذا النمط من التفكير مع منطق القراءة التاريخيّة الذي يعدّ أحد أهم أساسيّات تفكير هذا الفريق الذي يشتغل على قراءة الأحداث التاريخيّة بنظرة تاريخيّة زمكانيّة؟!
وإذا كان أهل البيت نوراً واحداً، فإنّ ذلك لا يعني عدم وجود اختلافات في المواقف تبعاً للاختلافات القائمة في الظروف التاريخيّة، وكون الباحث منتمٍ إلى تيار النقد الديني يجعل أحد أهم أساسيّاته هو القراءة التاريخيّة للمواقف وللأحداث، فما هو الحدث الذي حصل فأوجب التخلّي عن أساسيّات التفسير التاريخي الذي طبّقه في أكثر من مكان في فهم الدين؟! ولم يكلّف هذا الباحث نفسه بدراسة الامتيازات التاريخيّة بين التجربة الحسنيّة والتجربة الحسينيّة، ليقرّر بعد ذلك أنّ هذه الامتيازات التاريخيّة هي التي تبرّر اختلاف المواقف، وأنّ ذلك لا يناقض مبدأ: كلّهم نور واحد.
ثانياً: إذا كان أهل البيت النبوي نوراً واحداً، فنحن نسأل الأستاذ باقي: كيف يمكن لهم أن يفسّروا لنا الاختلاف ما بين التجربة العلويّة والتجربة الحسنيّة، مع إغماض النظر عن التجربة الحسينيّة؟ فالتجربة العلويّة هي التي بادرت في حرب الجمل لقتال جيش البصرة، لا أنّها كانت تدافع عن نفسها دفاعاً شخصيّاً، فأين هو منطق المصالحة والمسالمة الذي تتحدّث عنه هذه النظريّة؟ وإذا كانوا نوراً واحداً فلماذا حصلنا على اختلاف في الأداء؟
ومهما جاءت الإجابة، فنحن نخلص إلى أنّ مبدأ (نور واحد) والذي ركّز عليه الكاتب العزيز، لا ينفي اختلاف المواقف السياسيّة التاريخيّة بين الأئمة، تبعاً لاختلاف الظروف والمتغيّرات الزمانيّة والمكانيّة.
ثالثاً: نصّ الباحث الكريم على أنّ الحرب عقلائيّة، وهي بطبيعتها تقوم على توازن القوى، وهو ما لم يكن متوفّراً في التجربة الحسنيّة؛ ولذلك أحجم الإمام الحسن عنها وأقدم على الصلح، وكذا الحال في التجربة الحسينيّة، حيث إنّه لمّا لم يكن توازن القوى قائماً لم يصرّ الحسين على الحرب، بل دعا للذهاب في الأرض.. إذا كان هذا الأمر صحيحاً وأن توازن القوى مفقودٌ، فهنا سؤال: لماذا لم يبايع الإمام الحسين، وبذلك يتخلّص من المجزرة التي حصلت على أقلّ التقادير؟! ألم يكن الإمام الحسن قد وقّع على عريضة الصلّح التي تنصّ على أنّ معاوية هو إمام المسلمين لمصالح اقتضتها المرحلة كما يقال؟
وعليه، إذا كان عدم توازن القوى يسمح للإمام الحسن أن يوقّع صلحاً يعطي الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، فلماذا لا يكون هذا الأمر مبرّراً يعطي للإمام الحسين مجالاً للتوقيع على مبايعة يزيد بن معاوية؟ ولماذا أصرّ على الامتناع إلى اللحظة الأخيرة؟ ألا يُعدّ هذا الأمر غير عقلائيّ، كما يفيد منطق باحث العزيز هنا؟!
رابعاً: ومن خلال منطق التحليل السياسي، إذا كان الإمام الحسين قد جاءته في مكّة المكرّمة تلك الرسائل الكثيرة تطالبه أن يأتي إلى الكوفة من وجوه القوم وعيونهم، فما معنى أن يأتي إلى الكوفة جرّاء ذلك؟! ألا يعني ذلك أنّ الحسين تحرّك إلى هناك لأنّ هؤلاء قالوا له: إنهم سيعزلون الوالي، وسوف ينصّبون والياً على خلاف إرادة الدولة المركزيّة في الشام، أي سيشكّلون باصطلاحنا المعاصر دولةً انفصاليّة؟ وهل هذا إلا إعلان حرب على السلطة المركزيّة بالمدلول السياسي الذي لا نفهم لإعلان الحرب معنى غيره؟! فلو كان هناك دولة وفي داخلها إثنيّات وقوميّات وأعراق متعدّدة، وتقوم واحدة من هذه القوميّات بإعلان الانفصال عن الدولة المركزيّة، فهل من المعقول أن تصمت الدولة المركزيّة حيالهم؟
إنّ نفس موافقة الإمام الحسين على تلك الرسائل التي جاءته من العراق لتعلن موالاة جميع وجوه العشائر والقبائل له لاستتباب الأمر له في الكوفة.. أقول: إنّ نفس الموافقة هو إعلان انفصال عن الدولة المركزيّة، وهو بمثابة إعلان حرب، وإذا لم يكن مثل هذا الموقف إعلاناً للحرب، فما هو إعلان الحرب إذن؟ ولا أقلّ من أنّه المرحلة الأولى لإعلان الحرب، فكيف يقدم الحسين على خطوة من هذا النوع لا تعبّر غلا عن إعلان حرب ثنم بعد ذلك نقرأ تجربته على انّه معارضة للحرب؟ ألا يصحّ أن نقول بأنّ خطوته هذه انفصالٌ يعلن فيه أيضاً استعداده للحرب لو وقعت، وهي بالتأكيد سوف تقع كما رأينا؟ فهل هذا الشخص داعية سلام بالمعنى الذي أراده الباحث العزيز؟
خامساً: إنّ الباحث الكريم ركّز على تلك النصوص التي نقلت في التاريخ ـ كتاريخ الطبري واليعقوبي ـ وهي خمسة أو ستة نصوص، والتي يقول فيها الإمام الحسين: اتركوني أذهب إلى أيّ مكان في الأرض، وفي بعضها إنّه عرض عليهم الذهاب إلى يزيد، كما احتمل السيد المرتضى، وعلّل ذلك بأنّ الإمام الحسين يحتمل أن يكون يزيد أرأف به من عبيد الله بن زياد4..
لا نريد في هذه النقطة أن نتحدّث عن سلامة هذه النصوص، وما هو الوجه في تفسيرها، ولكن نريد أن نسأل: لماذا لم يأخذ الباحث الكريم هنا مجموع النصوص والوثائق التاريخيّة التي صدرت عن الإمام الحسين عليه السلام، ليقارن بينها؛ إذ هناك نصوص صدرت منه يعلن فيها مبادئ ثوريّة، ويمهّد للانفصال عن الدولة وأنّه سيواجه السلطة المركزيّة، أي هي نصوص إقدام على ما من شأنه إعلان حرب، فلِمَ لم تؤخذ هذه النصوص بعين الاعتبار؟!
ومن باب المثال سنقتصر على ذكر نصّين منها:
النصّ الأوّل: ما ذكره الطبري نقلاً عن أبي مخنف: إنّ الحسين خطب أصحابه قائلاً: «مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلاً لِحرَمِ اللَّهِ، نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ، مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ الله، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلا قَوْلٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلَهُ، أَلا وَإِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ من غيري»5.
فهذا النصّ يحمل مضامين كثيرة يمكن أن يطول الحديث في شرحها؛ لأنّ كلّ فقرة منه لها مداليلها بمفاهيم السياسة المعاصرة؛ حيث إنّه يحمل اعتراضاً على السياسة الاقتصاديّة للدولة وعلى السياسة الجزائيّة والجنائيّة لها، ويعترض على هذه الطبقيّة القائمة في البلاد، كما يعترض على عدم تطبيق الدولة للدستور حينما حرّموا حلال الله وحرّموا حلاله.. وبعد ذلك يقول: أنا أحقّ من غيري... فإذا لم يكن هذا النصّ الوارد في تاريخ الطبري وغيره دليلاً على إعلان مشروعٍ سياسيٍّ وإعلان مواجهة ورفض يدرك أنّه يؤدّي إلى مواجهة مسلّحة فأيّ نصّ يفي بهذا الأمر؟! ولا ندري حينما يطلب الإمام ـ في ظلّ طبيعة الحياة السياسية آنذاك ـ التغييرَ بالفعل (فلم يغيّر عليه بفعل)، فكيف يمكن أن لا يكون ذلك إعلاناً للحرب؟!
فهذا كلّه معناه أنّ السلطة الحاكمة سلطة غير شرعيّة، وأنا الذي أستطيع أن أمثّل السلطة الشرعيّة دون غيري، فهل يعني هذا النصّ أنّه يريد أن يقول لأصحابه بأنّه لا يريد المواجهة وأنّ غرضه الاعتراض السلمي مثلاً؟! وهل يعني ذلك أنّ مقتله واستشهاده في العاشر من المحرّم هو دفاع شخصيّ؟!
النصّ الثاني: ما نقله لنا الطبري أيضاً، عن الحسين عليه السلام انّه قال: «أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللَّهِ مُحِقّاً؛ فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَلَا الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَما»6.
فلو كان الشخص يريد أن يذهب إلى أيّ مكان في ديار الله فلِمَ يقرّر أنّ الموت شهادة وسعادة؟!
إذن، علينا حينما نريد استخراج صورة عن التجربة الحسينيّة أن لا نقوم باجتزاء النصوص والاقتصار على بعضها وترك سائر النصوص الأساسيّة التي وردت في المصادر الرئيسة، هذا فضلاً عن أنّ النصوص التي تتحدّث عن أنّه طلب الخروج إلى أيّ مكان في الأرض أو طلب أن يذهب إلى يزيد بن معاوية هي نصوص بينها تناقض ـ ولا نريد الدخول في هذا الموضوع حاليّاً ولا يمكن استعراضها في هذه العجالة ـ وبينها تهافت في الجملة، وغير ثابتة من الناحية التاريخيّة، بل بعضها لم يرد في المصادر التاريخيّة القديمة، وإنما جاء في المصادر المتأخّرة.
فلا يصحّ لي ـ وفق هذا النظرة الموجزة ـ الخروج بتفسير يقول: لا يوجد فرق بين حركة الإمام الحسن والإمام الحسين، وأنّ منهجهما معاً صلحٌ، ولا يمتّ إلى الثورة والعنف والمواجهة بصلة، ومن ثمّ يكون تقسيم التيارات إلى حسنيّة وحسينيّة لا أساس له من الصحّة، إنّ هذه المعطيات وغيرها وغيرها ـ ممّا نتركه إلى مجال أوسع ـ كفيلة في تقديرنا بأن تضعنا أمام تشكيك أساسي في تلك الصورة التي قدّمها الاستاذ باقي، وأعتقد بأنّنا بحاجة إلى دراسة أكثر موضوعيّة في قراءة التاريخ، وأن لا نجعل قراءته وقراءة المصادر الدينيّة وسيلة لدخول أيّ صراع سياسي بالمعنى العام لهذا الوصف؛ لإسقاط جماعة أو تصفية حساب مع جماعة أخرى؛ فإنّ هذه القيم الدينيّة والقيم التاريخيّة الدينيّة أيضاً من الأفضل أن نجعلها أعلى وأسمى من تلك الصراعات السياسيّة الجزئيّة في بعضها على الأقل، والتي ربما نسعى من حيث لا نشعر كي نميّع تلك القيم في داخل تلك الصراعات الجزئيّة7.
___________
1. يذهب الشيخ صالحي نجف آبادي في كتابه الشهير: «الشهيد الخالد» إلى أنّ لحركة الحسين عليه السلام ثلاثة أهداف بينها ترتيب طوليّ، بعد أن يقسّم الثورة الحسينيّة وتحركات الإمام إلى مراحل أربعة، ويضع الفترة الواقعة بين عزم الإمام على السفر إلى الكوفة إلى حين لقائه بالحرّ بن يزيد الرياحي في إطار المرحلة الثانية:
الهدف الأوّل المتوخى للإمام ـ مضافاً إلى رفض بيعة يزيد ـ هو تشكيل حكومة إسلاميّة قويّة كما هو مطمح رؤى الأحرار في العراق، وكسر سيادة الظلم والفساد وقلعها من الجذور، وبذلك ينجّي المسلمين ويحيي سنّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
أمّا الهدف الثاني فهو الانصراف، أي بعد أن تضعضعت الأوضاع في العراق وتسلّط عبيد الله بن زياد على الكوفة؛ بحيث أدّى ذلك إلى عدم إمكانيّة الانتصار العسكري، فوجد الإمام نفسه مضطراً للدعوة للانصراف.
أمّا الهدف الثالث فهو الشهادة؛ وذلك لأنّ الإمام عليه السلام بعد ما رأى إصرار عمّال حكومة يزيد على عدم قبول طلبه بالانصراف، وتيقّن أيضاً أنّ خضوعه يعني التعامل معه بذّلة ومهانة، كما هو الأمر مع مسلم بن عقيل، حينها كان الدفاع أمام هجوم الأعداء ضرورياً، فقدّم نفسه شهيداً بعزّ وافتخار، فالانتصار العسكري هو الهدف الأوّل؛ والصلح مع الكرامة هو الهدف الثاني؛ والاستشهاد هو الهدف الثالث، راجع: صالحي نجف آبادي، حسين جاويد: 157 ـ 159.
2. انظر رؤيته وتحليله في مقاله: صلح الإمام الحسين عليه السلام، بين المنطق الحسني والعمل الحسيني، والمنشور مترجماً إلى العربيّة في مجلّة: نصوص معاصرة، العدد 28، خريف عام، 2012م.
3. وما أقوله ليس تكهنّاً أو اتهاماً، بل تراه بوضوح من ثنايا البحث الذي نتحدّث عنه، والذي اقتطعنا منه القسمَ المختصّ بالإمام الحسين بن علي فقط، وإلا فالبحث كلّه منصب على تصفية حساب سياسي.
4. السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء: 229، دار الأضواء، ط2، 1989م.
5. الطبري، تاريخ الأمم والملوك 5: 403؛ وابن الأثير، الكامل في التاريخ 3: 159.
6. الطبري، مصدر سابق 5: 404. وفي النصّ اختلافات يسيرة في بعض النسخ.
7. محاضرة ألقيت في حوزة الثقلين بتاريخ 2 ـ 12 ـ 2011م، تحرير: مركز إجابات للبحوث الدينية