خاتمة
تلكم كانت أخبار وصفات وأقوال عمر بن الخطاب كما ذكرها أولياؤه وأتباعه، و كتبوها طائعين غير مكرهين، فهي حجّة عليهم؛ و قد تفنّنوا في محاولات التبرير والتعذير، حتى ذهبوا إلى إعطاء عمر ما لم يعطوه رسول الله(ص). ولئن كانوا صارمين في الرّد على كل قائل بعصمة رسول الله(ص)، فإنّ لديهم انفتاحا ورحابة صدر لكلّ من يقول إنّ عمر بن الخطاب كاد أن يكون نبيّا، مع في ذلك من الاستخفاف بالدّين وتعظيم شأن الجاهلية، لأنّ عمر بن الخطاب عاش في الجاهليّة أكثر ممّا عاش في الإسلام، وبقيت ملامح الجاهليّة بادية في كلامه وسلوكه إلى أن خرج من الدّنيا. و الذي أراه مهمّا في ما جاء عن عمر بن الخطاب هو ما يتعلّق بحقوق الإنسان، مسلما كان أو غيره. وقد ثبت لديّ وسيبقى ثابتا فيما بيني وبين الله تعالى ـ حتى يثبت العكس ـ أنّ عمر بن الخطاب لم يكن يقيم لحقوق الإنسان أدنى اعتبار، كما ثبت لديّ أنّ عبارة " متى استعبدتم الناس.. " المنسوبة إليه تكذّبها أقواله وأفعاله.
إنني أقصد بحقوق الإنسان ما جاء في قول الله تعالى{ ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطّيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا }([1])، ولا معقّب لحكم الله تعالى وأمره، إذ لا شريك له ولا منازع، لكنّ ثقافة الكرسيّ التي لا تزال إلى اليوم تذيق المسلمين أنواع الأذى والإهانة في النّفس والعقل والدّين تأبى إلا أن تقدّم قول قريش على قول الله تعالى، وذوق قريش على حكمة الله تعالى، وقسوة قريش على رحمة الله تعالى ولطفه بعباده. ولن أستغرب أن يتّهمني من يقرأ هذه السطور بقسوة على عمر في الحكم أو حساسية قباله، ولا ألوم من يفعل ذلك وأنا عارف بالسّبب، لأنّ هناك فرقا كبيرا بين من يتحرّك من صميم حرّية المعتقد في الحكم على الأشياء واتّخاذ المواقف، وبين من يعيش في دفء ما نسجه السّلف ظنّا منه أّن ذلك هو الطريق السليم إلى الجنّة. وإذا كنت أعتقد فعلا بصحّة كلّ ما جاء في القرآن الكريم، وأنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإنّه ينبغي عليّ أن أجسّد ذلك الاعتقاد عند حكمي على الأشياء واتّخاذ الموقف من الحوادث في ظلّ قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون}، وما أبعد تراثنا المكتوب عن الالتزام بهذه الآية الشريفة، وإلاّ فمتى قال الله تعالى: إنّي جعلت جيل الصّحابة مدلّلا بعد أن قال {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}؟ ومتى قال الله تعالى:إنّ الذين قضوا شطرا كبيرا من أعمارهم في الشرك أفضل عندي من سائر خلقي لأنّهم عاصروا النبيّ الذي أرسلته إليهم بعد أن قال {إنما المشركون نجس}؟ ومتى قال الله تعالى: إنّي أذنت لشيوخ قريش أن يجتمعوا وينصّبوا أحدهم ليكون خليفتي في أرضي ويتحكّم في عبادي باسمي؟
تراثنا المكتوب يساهم ـ على حدّ فهمي ـ في خلق العقليّات المنحرفة التي تتمرّد على الإسلام باسم الحرّية وتتحوّل إلى وسائل تدمير بيد أعداء الإسلام، وهو أيضا يساهم في تدجين عقليّات في وسعها أن تتحوّل إلى طاقات فكريّة بنّاءة تواجه التمرّد والإرهاب بالحكمة و الموعظة الحسنة، وتضع الأمور مواضعها. وليس في هذا الكلام مبالغة كما قد يتبادر لمن يسمعه، لأنّه مبني على تدبّر كلام النبي (ص) والأئمّة من عترته، وهم الذين جعلهم الله تعالى عدل الكتاب الكريم. والدّليل على صحّة ذلك سيرة النبي(ص) والأئمة من بعده، فإنّها كانت سيرة رحمة ولطف بقيت معالمها عبر القرون تنير الدّرب للسائرين، وكانت السّيرة المقابلة أبعد شيء في.الوحشية والهمجية والدموية وهذا بشهادة أكثر من شاهد من أهلها. ولو أنصفَنا السّلف لما دوّنوا باسمنا قرارات متعلّقة بزمان لن يكونوا من أهله، فإنّ في ما أقدموا عليه تعدّيا على حقوق الأجيال. وربّما كانت العبارة المناسبة أن نقول عن تراثنا المكتوب: إنه تراث الوصاية الفكرية. يكفي فيه أن يرى الرجل رسول الله(ص)ويسمع صوته ويسير في ركابه أياما أو سنين كيما يصبح فوق الشريعة وفوق الحق وفوق كل منطق يخطر ببال الإنسان. ويجد ذالك المعاين للنبي (ص) جنودا مجنّدة من المدافعين عن أخطائه وسيئاته باسم الله والرسول والإسلام والقرآن! وكلّ من تسوّل له نفسه أن يكون قرآنيا في الحكم على الأشياء فويل له ثم ويل له من تلك الجنود. تراثنا الفكري لا يبالي أن يمدّد عمر الخطيئة ويقول عن رجل تجاوز السّتين يكشف عورته بين جيشين عظيمين :إنه عبقريّ ! ويقول عن رجل قارب السّتّين يشبّه نفسه حال الفرار بالأروى إنّه عبقري! ويقول عن رجل يخفر الذمم وينقض العهود ويصرّح بالاستخفاف بشخص رسول الله (ص) :إنّه حليم! ويقول عن رجل استسلم لشهوة فرجه حتى تجاوز البهائم:إنّه داهية. ويجمع هؤلاء جميعا بغض علي بن أبي طالب (ع).
نعم، بغض على(ع) جعل الفرّار شجاعا، وكاشف عورته عبقريا، والغدّار حليما، والزاني صاحب فتوّة، والأحمق حكيما، و كل ذلك لسبب بسيط في ظاهره عميق في جوهره، وهو أن تراثنا المكتوب كتبته الأيدي التي تبغض عليّاً(ع)، وباركته القصور التي تبغض عليا(ع)، فاجتمع الحاكم والعالم على الجيفة، في دين يصرّح بلعن الكاذبين. وفي أيامنا أيضا تنفق ملايين الدولارات النفطية في بغض علي(ع) وتوزّع رسائل دكتوراه وماجستير على أشباه الباحثين الذين ينتقصون عليا(ع)وأهل بيته ويحاولون أن يرفعوا من شأن مناوئيه. والزمن كفيل ببيان الحقيقة للتمييز بين من خدم الإسلام ومن استخدم الإسلام؛ وفي انتظار ذلك، على الباحثين أن يصغوا إلى أصوات ضمائرهم، ويتجاوزوا العقبات الموروثة، ويستمعوا إلى من يخالفهم لأنهم في أعماق أنفسهم يعلمون أنّ عمر بن الخطاب لم يكن نبيّا، ولا وصيّ نبيّ، وإنّما صنعته السّقيفة فيما صنعت، كما يعلمون أنّ معظم ما يتعرض له المسلمون اليوم إنما هو من آثار السقيفة وجماعة السقيفة.{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}([2]).
________________________
[1]) الإسراء70.
[2]) التوبة : 105 .