ذلكم عيسى ابن مريم
  • عنوان المقال: ذلكم عيسى ابن مريم
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 5:25:59 2-9-1403

ذلكم عيسى ابن مريم

المسيح عيسى ابن مريم عليه وعليها السّلام.. ذلك الرجل الطيّب المبارك، والنبراسُ المشرق النيّر. المسيح.. كان منارَ هدايةٍ إلى طريق الحبّ والخير والفضيلة، ورسول السلام والوئام والإنسانيّة. وفي الوقت ذاته.. كان عليه السّلام ذلك العبد المتواضع، وقد عرّف نفسه قائلاً:
إنّي عبدالله، آتانيَ الكتابَ وجعَلَني نبيّاً * وجعَلَني مباركاً أين ما كنتُ، وأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دُمتُ حيّاً (1).
ووصَفَه أمير المؤمنين عليٌّ عليه السّلام فقال:
لقد كان يتوسّد الحَجَر، ويلبس الخَشِن، ويأكلُ الجَشْب. وكان أدامُه الجوع، وسِراجُه بالليل القمر، وظلالُه في الشتاء مشارقَ الأرض ومغاربها، وفاكهتُه وريحانه ما تُنِبت الأرضُ للبهائم،.. دابّتُه رِجْلاه، وخادمُه يداه(2).
هكذا كان عليه السلام في زهده وتواضعه، بالرغم من أنّ حياته تحفُّها الكرامات والمعجزات، وقد خاطبه الله تبارك وتعالى:
إذ قالَ اللهُ: يا عيسى ابنَ مريمَ آذكُرْ نعمتي عليكَ وعلى والدتِكَ إذ أيّدتُك بروح القُدُسِ تُكلِّم الناسَ في المَهْدِ وكَهْلاً، وإذ علّمتُك الكتابَ والحكمةَ والتوراةَ والإنجيلَ، وإذ تَخلُق مِن الطينِ كهيئةِ الطيرِ بإذْني، فتنفخُ فيها فتكونُ طيراً بإذْني، وتُبرئُ الأكمهَ والأبرصَ بإذْني، وإذ تُخرِجُ الموتى بإذني.. (3).
وقال عزّوجلّ يبيّن بعضَ ما مَنّ به عليه:
ويُعلِّمُه الكتابَ والحكمةَ والتوراةَ والإنجيلَ * ورسولاً إلى بني إسرائيلَ أنّي قد جئتُكُم بآيةٍ مِن ربِّكم أنّي أخلُقُ لكُم مِن الطينِ كهيئةِ الطيرِ فأنفخُ فيه فيكونُ طيراً بإذن اللهِ، وأُبرِئُ الأكمهَ والأبرصَ وأُحُيِي الموتى بإذنِ الله، وأُنبّئُكُم بما تأكلُون وما تَدّخِرونَ في بُيوتِكم، إنّ في ذلك لآيةً لَكُم إنْ كنتُم مؤمنين (4).

* * *

وكان النبيُّ عيسى عليه السّلام قد بدأت حياته الطيّبة بمعجزة، وغادر عالَمَ الأرض بمعجزة، فقد خلَقَه اللهُ تعالى مِن غير أب، فقال الله عزّوجلّ: إنّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كَمَثَلِ آدمَ خَلَقَه مِن تُرابٍ ثمّ قالَ له كُنْ فيكون (5).. وعلى ذلك باهَلَ النبيُّ صلّى الله عليه وآله بأهل بيته عليهم السّلام نصارى نجران، حيث جاءه الأمرُ الإلهيّ: فمَن حاجَّكَ فيهِ مِن بعدِ ما جاءَك مِن العلمِ فقُلْ: تعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفُسَنا وأنفسَكم ثمّ نَبتهِلْ فنجعلْ لعنةَ اللهِ على الكاذبين (6).
ثمّ رفَعَه الله تعالى إليه؛ منقذاً إيّاه من أيدي القَتَلةِ التي امتدّت إليه، فكانت مغادرته معجزة، فقالوا ما قالوا بعد أن فعلوا ما فعلوا.. وتلك آيات القرآن تروي ذلك:
فبِما نَقضِهم ميثاقَهم وكُفرِهم بآيات اللهِ وقَتلِهمُ الأنبياءَ بغيرِ حقٍّ وقولِهم قلوبُنا غُلْف، بل طَبَع اللهُ عليها بكُفرِهم فلا يُؤمنونَ إلاّ قليلاً * وبكفرِهم وقولِهم على مريمَ بُهتاناً عظيماً * وقولِهِم إنّا قتَلْنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ اللهِ، وما قَتَلُوه وما صَلَبوه ولكنْ شُبِّهَ لهم، وإنّ الذينَ آختلفُوا فيه لَفي شَكٍّ منه، ما لَهُم بهِ مِن عِلْمٍ إلاَّ اتّباعَ الظَّنِّ، وما قَتلُوه يقيناً * بل رفَعَه اللهُ إليهِ، وكان اللهُ عزيزاً حكيماً (7).
ثمّ أخبر الله جلّ وعلا عن معجزةٍ أخرى قادمة، ذلك أنّه عليه السّلام سيظهر مرّةً أخرى بنزوله إلى الأرض بعد ظهور الإمام المهديّ عليه السّلام، فيصلّي عيسى المسيح خَلْف المهديّ.. قال تعالى: وإنْ مِن أهلِ الكتابِ إلاّ لَيُؤمِنَنَّ به قبلَ مَوتهِ، ويومَ القيامةِ يكونُ عليهم شهيداً (8).
وقد حيّرت هذه الآية الحجّاج، فسأل عنها شهر بن حَوشَب قائلاً له: واللهِ إنّي لآمرُ باليهوديّ والنصرانيّ فيُضرَب عنقُه، ثمّ أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتَيه حتّى يخمد. فأجابه ابن حوشب:
ليس على ما تأوّلت.. إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهلُ ملّة: يهوديّ ولا نصرانيّ إلاّ آمنَ به قبل موته، ويصلّي [ أي عيسى عليه السّلام ] خلف المهديّ.
قال الحجّاج: ويحك! أنّى لك هذا، ومِن أين جئتَ به ؟
فأجابه: حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( أي الإمام الباقر عليه السّلام ).
فأذعن الحجّاج قائلاً: جئتَ بها ـ واللهِ ـ مِن عينٍ صافية(9).
وتتظافر الروايات تُجمِع على أن عيسى المسيح سلام الله عليه ينزل من السماء ليلتحق بالإمام المهدي عليه السّلام.. هكذا جاء في مصادر المسلمين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامُكم منكم ؟!(10) أي من المسلمين. وعنه صلّى الله عليه وآله أيضاً: منّا الذي يصلّي عيسى ابنُ مريمَ خلفَه(11).

* * *

ويمضي نبيُّ الله عيسى عابداً طيّباً، يهدي إلى الله تبارك وتعالى، ويدعو إلى سبيله القويم، ويظهر دائماً بمظهر العبوديّة لله جلّ وعلا، والله جلّ شأنه أكّد أن عيسى مخلوقُه وعبدُه، فخاطب أمّةَ الغلوّ والتلثيث:
يا أهلَ الكتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكُم، ولا تقولوا على اللهِ إلاّ الحقَّ، إنّما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسولُ اللهِ وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ مِنه، فآمِنُوا باللهِ ورسُلِهِ، ولا تقولوا ثلاثةٌ آنتَهُوا خيراً لكُم، إنّما اللهُ إلهٌ واحدٌ سبحانَه أن يكونَ له وَلَد، له ما في السماواتِ وما في الأرضِ وكفى باللهِ وكيلاً * لن يَستنكِفَ المسيحُ أن يكونَ عبداً للهِ، ولا الملائكةُ المُقرَّبون، ومَن يَستَنكِفْ عن عبادتِهِ ويَستَكبِرْ فسيَحَشُرُهُم إليه جميعاً (12).
ما المسيحُ ابنُ مريمَ إلاّ رسولٌ قد خَلَتْ مِن قَبلِه الرُّسُلُ، وأُمُّه صِدّيقةٌ، كانا يأكُلانِ الطعامَ آنظُرْ كيف نُبيّنُ لهمُ الآياتِ ثمّ انظُرْ أنى يُؤفَكُون ؟! (13).

* * *

كان السيّد المسيح عيسى عليه السّلام نبراساً مضيئاً يهدي إلى التوحيد والعبادة، ويرسم الطريق إلى الراغبين في الكمال والساعين لنيل السعادة الأبدية والرضوان، وكانت سيرته دستور خيرٍ وفضيلة..
وكان السيّد المسيح عليه السّلام رسولَ محبّةٍ وسلام، جاء لإرساء العدالة والأمان في الأرض، وإنقاذِ العالم من الأحقاد والخصومات والحروب، لكنّ المدّعين أنّهم أتْباعه جاؤوا في مواقفهم التاريخيّة بخلاف ما جاء به عيسى عليه السّلام، بل وكذّبوه فيما بشّرهم به مِن قدوم نبيٍّ في آخِر الزمان يهديهم إلى الحقّ:
وإذ قالَ عيسى ابنُ مريمَ يا بَني إسرائيل إنّي رسولُ اللهِ إليكُم مُصدِّقاً لِما بينَ يَدَيَّ من التوراةِ ومُبشِّراً برسولٍ يأتي مِن بعدي آسمُه أحمدُ، فلمّا جاءهم بالبيّنات قالوا: هذا سِحرٌ مُبين! (14).
وفي إنجيل يوحنّا وغيره أنّ المسيح عيسى عليه السّلام قال: أنا أسأل الآب ( أي الخالق ) فيُعطيكم ( بارِقْليطا ) آخر، ليُقيمَ بينكم إلى الأبد..
وبارقليطا صيغة أفْعَل من كلمة ( الحمد ) ـ بمعنى: أحمد، وهذا يطابق ما جاءت به الآية الكريمة: ومُبشِّراً برسولٍ يأتي مِن بعدي آسمُه أحمد ..
وقد جاء في الحديث القدسيّ الشريف خطابُ الله جلّ وعلا لعيسى عليه السّلام: أُوصيك ـ يا ابنَ مريمَ البِكْر البتول ـ بسيّد المرسلين وحبيبي صاحبِ الجمَلِ الأحمر، والوجهِ الأزهر، المُشرِقِ بالنور، الطاهرِ القلب، الشديد البأس، الحَيّيِ المتكرِّم؛ فإنّه رحمةٌ للعالمين، وسيّد وُلْد آدمَ يوم يلقاني، أكرمُ السابقين علَيّ، وأقربُ المسلمين منّي. العربيُّ الأُمّي، الديّانُ بديني، الصابر في ذاتي، المجاهد للمشركين بذبّهِ عن دِيني. وأن تُخبِر به بني إسرائيلَ وتأمرَهم أن يُصدّقوه وأن يومنوا به، وأن يتّبعوه وينصروه.
قال: إلهي، مَن هو حتّى أُرضيَه ذلك الرضى ؟
قال: هو محمدٌ رسول الله إلى الناس كافّة، وأقربُهم منّي منزلة، وأحضرُهم شفاعة. طُوبى له مِن نبيّ، وطُوبى لأمّته،.. يَحمَدُه أهلُ الأرض ويستغفر له أهل السماء، أمين ميمونٌ طيّب، خير الباقين عندي، يكون في آخِر الزمان، إذا خرج أرْخَت السماء عَزالَيها، وأخرجت الأرض زهرتها حتّى يَرَوا البركة، وأُبارك لهم فيما وَضَع يدَه عليه..(15)
 

* * *

وقف عيسى ابن مريم عليهما السّلام يدعو إلى التوجّه نحو الباري جلّ وعلا، والعزوف عن التعلّق بالدنيا، ويذكّر بالمستقبل البعيد والمآب الذي لابدّ منه، والمصير الخطير.. إمّا إلى نعيم الأبد أو عذاب الأبد، فقال لهم::
« يا بني آدمَ آهربوا من الدنيا إلى الله، وأخرِجوا قلوبكم عنها؛ فإنّكم لا تصلحون لها ولا تصلح لكم، ولا تبقَون فيها ولا تبقى لكم، هيَ الخدّاعةُ الفجّاعة، المغرور مَنِ اغترّ بها، والمغبون مَن اطمأنّ إليها، فتوبوا إلى بارئكم، واتّقُوا ربَّكم. فكم تُوعَظون.. وكم تُزجَرون وأنتم لاهونَ ساهون ؟! أما تَسْتَحْيون ممّن خلَقَكم ؟! وقد أوعَدَ مَن عصاه النار، ولستم ممّن يَقوى على النار، ووعد مَن أطاعه الجنّةَ ومجاورتَه الفردوسَ الأعلى، فتنافسوا فيه وكونوا مِن أهله، وأنصِفُوا من أنفسكم، وتَعطّفُوا على ضُعفائكم وأهلِ الحاجة منكم، وتوبوا إلى الله توبةً نصوحاً »(16).
 


1 ـ سورة مريم: 30 ـ 31.
2 ـ نهج البلاغة: الخطبة 160.
3 ـ سورة المائدة:110.
4 ـ سورة آل عمران:48 ـ 49.
5 ـ سورة آل عمران:59.
6 ـ سورة آل عمران:61.
7 ـ سورة النساء:155 ـ 158.
8 ـ سورة النساء:159.
9 ـ تفسير القمّي 186:1، المحجّة فيما نزل في الحجّة للسيّد هاشم البحراني 62.
10 ـ صحيح البخاري 158:2 ـ عن أبي هريرة. كذا صحيح مسلم وعقد الدرر في أخبار المهديّ المنتظر، ليوسف بن يحيى المقدسي الشافعي السلمي ـ الباب العاشر.
11 ـ عقد الدرر ـ الباب الأوّل.
12 ـ سورة النساء:171 ـ 172.
13 ـ سورة المائدة:75.
14 ـ سورة الصف:6.
15 ـ تحف العقول عن آل الرسو