هذه الإجابة هي نص ما أجاب بها الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) ، على سؤال الإمام الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر الأسبق .
الإجابة على هذا السؤال تقع في النقاط التالية :
1. إن تعبدنا في الأصول بغير المذهب الأشعري و في الفروع بغير المذاهب الأربعة لم يكن لتحزب أو تعصب ، و لا لريب في اجتهاد أئمة تلك المذاهب ، و لا لعدم عدالتهم و أمانتهم و نزاهتهم و جلالتهم علماً و عملا ، لكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقنا إلى الأخذ بمذهب الأئمة من أهل بيت النبوة و موضع الرسالة و مختلف الملائكة ، و مهبط الوحي و التنزيل ، فانقطعنا إليهم في فروع الدين و عقائده ، و أصول الفقه و قواعده ، و معارف السنة و الكتاب ، و علوم الأخلاق و السلوك و الآداب نزولا على حكم الأدلة و البراهين ، و تعبداً بسنة سيد النبيين و المرسلين ، صلى الله عليه و اله و عليهم أجمعين .
و لو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من آل محمد ، أو تمكنا من تحصيل نية القربة لله سبحانه في مقام العمل على مذهب غيرهم ، لقصصنا أثر الجمهور ، و قفونا إثرهم ، تأكيداً لعقد الولاء ، و توثيقاً لعرى الإخاء ، لكنها الأدلة القطعية تقطع على المؤمن وجهته ، و تحول بينه و بين ما يروم .
2. على أنه لا دليل للجمهور على رجحان شئ من مذاهبهم ، فضلا عن وجوبها و قد نظرنا في أدلة المسلمين نظر الباحث المحقق بكل دقة و استقصاء ، فلم نجد فيها ما يمكن القول بدلالته على ذلك ، و إن اجتهاد أربابها و أمانتهم و عدالتهم و جلالتهم لا يسبب حصر الاجتهاد و الأمانة و العدالة و الجلالة فيهم فحسب ، فكيف يمكن ـ و الحال هذه ـ أن تكون مذاهبهم واجبة على سبيل التعيين ؟
و ما أظن أحدا يجرؤ على القول بتفضيلهم ـ في علم أو عمل ـ على أئمتنا و هم أئمة العترة الطاهرة و سفن نجاة أئمة ، و باب حطتها ، و أمانها من الاختلاف في الدين ، و أعلام هدايتها ، و ثقل رسول الله ، و بقيته في أمته ، و قد قال ( صلى الله عليه و آله و سلَّم ) : فلا تقدموهم فتهلكوا ، و لا تقصروا عنهم فتهلكوا ، و لا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم ، لكنها السياسية ، و ما أدراك ما اقتضت في صدر الإسلام .
ثم إن الخلف و السلف الصالحين من شيعة آل محمد ـ و هم نصف المسلمين في المعنى ـ إنما دانوا بمذهب الأئمة من ثقل رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلَّم ) ، فلم يجدوا عنه حِوَلا ، و انهم على ذلك من عهد علي و فاطمة إلى الآن ، حيث لم يكن الأشعري و لا واحد من أئمة المذاهب الأربعة و لا آباؤهم ، كما هو واضح .
3. على أن أهل القرون الثلاثة الأولى لم يدينوا بشيء من تلك المذاهب أصلا ، و أين كانت تلك المذاهب عن القرون الثلاثة ؟ ـ و هي خير القرون ـ و قد ولد الأشعري سنة : سبعين و مئتين (270هـ) ، و مات سنة : نيف و ثلاثين و ثلاث مائة ، و ابن حنبل ولد سنة : أربع ستين و مئة (164هـ) ، و مات سنة : إحدى و أربعين و مئتين (241 هـ ) ، و الشافعي ولد سنة : خمسين و مئة ( 150هـ ) و توفي سنة : مئتين و أربع ( 204هـ) ، و ولد مالك سنة : خمس و تسعين (95هـ) و مات سنة : تسع و سبعين و مئة ( 179هـ) ، و ولد أبو حنيفة سنة : ثمانين (80هـ) ، و توفي سنة : خمسين و مئة ( 150هـ) ، و الشيعة يدينون بمذهب الأئمة من أهل البيت ـ و أهل البيت أدرى بالذي فيه ـ و غير الشيعة يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة و التابعين ، فما الذي أوجب على المسلمين كافة ـ بعد القرون الثلاثة ـ تلك المذاهب دون غيرها من المذاهب التي كان معمولا بها من ذي قبل ؟ و ما الذي عدل بهم عن أعدال كتاب الله و ثقل رسول الله و عيبته ، و سفينة نجاة الأمة و قادتها و أمانها و باب حطتها ؟!
4. و ما الذي أرتج باب الاجتهاد في وجوه المسلمين بعد أن كان في القرون الثلاثة الأولى مفتوحاً على مصراعيه ، لولا الخلود إلى العجز والاطمئنان إلى الكسل ، والرضا بالحرمان ، و القناعة بالجهل ، و من ذا الذي يرضى لنفسه أن يكون ـ من حيث يشعر أو لا يشعر ـ قائلاً بأن الله عَزَّ و جَلَّ لم يبعث أفضل أنبيائه و رسله بأفضل أديانه و شرائعه ، و لم ينزل عليه أفضل كتبه و صحفه ، بأفضل حكمه و نواميسه ، و لم يكمل له الدين ، و لم يتم عليه النعمة ، و لم يعلمه علم ما كان و علم ما بقي إلا لينتهي الأمر في ذلك كله إلى أئمة تلك المذاهب فيحتكروه لأنفسهم ، و يمنعوا من الوصول إلى شيء منه عن طريق غيرهم ، حتى كأن الدين الإسلامي بكتابه و سنته ، و سائر بيّناته و أدلته من أملاكهم الخاصة ، و أنهم لم يبيحوا التصرف به على غير رأيهم ، فهل كانوا ورثة الأنبياء ، أم ختم الله بهم الأوصياء و الأئمة ، و علّمهم علم ما كان و علم ما بقي ، و آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، كلا بل كانوا كغيرهم من أعلام العلم و رعاته ، و سدنته و دعاته ، و حاشا دعاة العلم أن يوصدوا بابه ، أو يصدوا عن سبيله ، و ما كانوا ليعتقلوا العقول و الأفهام ، و لا ليسملوا أنظار الأنام ، و لا ليجعلوا على القلوب أكنة ، و على الأسماع وقراً ، و على الأبصار غشاوة ، و على الأفواه كمّامات ، و في الأيدي و الأعناق أغلالاً ، و في الأرجل قيوداً ، لا ينسب ذلك إليهم إلا من افترى عليهم ، و تلك أقوالهم تشهد بما نقول 1 .
________________________
1. المراجعات : 5 ، طبعة : مطبوعات النجاح ، سنة : 1399 هجرية / 1979 ميلادية ، القاهرة / مصر .