وملخص هذه القضية المكذوبة : أنه بعد أن هاجر المسلمون إلى الحبشة بحوالى شهرين ؛ جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع المشركين ، فأنزل الله تعالى عليه سورة النجم ؛ فقرأها ، حتى إذا بلغ قوله تعالى : ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴾ 1 ، وسوس إليه الشيطان بكلمتين ، فتكلم بهما ، ظاناً أنهما من جملة الوحي وهما : (تلك الغرانيق 2 العلى ، وأن شفاعتهن لترتجى) ، ثم مضى في السورة ، حتى إذا بلغ السجدة ، سجد وسجد معه المسلمون والمشركون .
لكن الوليد بن المغيرة لم يتمكن من السجود ، لشيخوخته ، أو لتكبره ـ على الخلاف ـ فرفع تراباً إلى جبهته فسجد عليه ، وقيل : إن الذي فعل ذلك هو سعيد بن العاص ، وقيل كلاهما ، وقيل : أمية بن خلف ، وصحح ، وقيل : أبو لهب ، وقيل : المطلب .
وأضاف البخاري سجود الإنس والجن ، إلى مجموع المسلمين ، والمشركين وطار الخبر في مكة ، وفرح المشركون ، بل ويقال : إنهم حملوا الرسول ، وطاروا به في مكة من أسفلها إلى أعلاها .
ولما أمسى جاءه جبرائيل فعرض عليه السورة ، وذكر الكلمتين فيها ؛ فأنكرهما جبرئيل ؛ فقال (صلى الله عليه وآله) : قلت على الله ما لم يقل ؟ فأوحى الله إليه : ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ 3 .
وقد استدلوا على صحة هذه الرواية بالآية التي يدعون : أنها نزلت بهذه المناسبة وهي قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ 4 ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ... ﴾ 5 .
وعدد من أسانيد هذه الروايات صحيح عند بعض الفرق 6 .
ويقولون : إنه لما سمع المسلمون في الحبشة بالسلام والوئام بين النبي (صلى الله عليه وآله) وقريش عادت طائفة منهم إلى مكة ، فوجدوا الأمر على خلاف ذلك .
ونحن نعتقد جازمين بكذب هذه الروايات ، وافتعالها ، ويشاركنا في هذا الاعتقاد جمع من العلماء ، فقد قال محمد بن إسحاق حين ما سئل عنها : (هذا من وضع الزنادقة) ، وصنف في تفنيدها كتاباً 7 .
وقال القاضي عبد الجبار عن هذا الخبر : (لا أصل له ، ومثل ذلك لا يكون إلا من دسائس الملحدة) 8 .
وقال أبو حيان : إنه نزه كتابه عن ذكر هذه القصة فيه 9 .
وأنكرها البيضاوي ، طاعناً في أسانيدها ، وكذا البيهقي ، والنووي والرازي ، والنسفي ، وابن العربي ، والسيد المرتضى ، وفي تفسير الخازن : أهل العلم وهنوا هذه القصة 10 .
وقال عياض : (إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، والمتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم) .
وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي ، حيث قال : (لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، وتعلق بذلك الملحدون ، مع ضعف نقلته واضطراب رواياته ، وانقطاع أسناده واختلاف كلماته) 11 .
ونحن نؤيد ما قاله لعدة أسباب :
أولاً : إن جميع روايات هذه القصة سوى طريق سعيد بن جبير ، إما ضعيف ، أو منقطع 12 وحديث سعيد مرسل ، والمرسل عند جمهور المحدثين من قسم الضعيف ، لاحتمال أن يكون قد رواه عن غير الثقة 13 .
وأيضاً فإن الاحتجاج بالمرسل لو سلم ؛ فإنما يكون في الفرعيات وما نحن فيه يرتبط بالعقائد ، التي تحتاج إلى القطع ، هذا والملاحظ لأسانيدها يراها تنتهي : إما إلى تابعي أو إلى صحابي لم يولد إلا بعد هذه القضية .
بل إن هذه الرواية يجب ردها والقطع بكذبها ، ولو كان سندها متصلاً ، لأنها مصادمة لحكم العقل كما سنرى وبهذا رد على القسطلاني ، والعسقلاني ، وآخرين حيث قد حكموا بصحتها ، وبأن لها أصلاً لكثرة طرقها 14 .
ثانياً : تناقض رواياتها ، وقد تقدم التناقض فيمن لم يسجد ، ونزيد هنا : أن النبي (صلى الله عليه وآله) قرأها وهو يصلي ، أو وهو جالس في نادي قومه .
حدَّث نفسه بها . . أو جرت على لسانه ، الشيطان أخبرهم : أنه (صلى الله عليه وآله) قالها ، أو قرأها المشركون ، تنبه (صلى الله عليه وآله) حين قراءتها ، أو لم يتنبه إلى المساء .
بل ذكر الكلاعي : أن الأمر لم ينكشف بهذه السرعة ، بل فشا الأمر حتى بلغ الحبشة : أن المسلمين قد أمنوا في مكة ، فقدم مسلموها ، ونزل نسخ ما ألقاه الشيطان ، فلما بين الله قضاءه اشتد المشركون على المسلمين 15 ، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف .
ويقولون : لا حافظة لكذوب .
ثالثاً : إن هذه الرواية ليس فقط تنافي ما هو مقطوع به من عصمته (صلى الله عليه وآله) عن الخطأ والسهو ، وعلى الأخص في أمر التبليغ ، وهو ما قام عليه إجماع الأمة ، والأدلة القطعية ، وإنما هي تثبت الارتداد له (صلى الله عليه وآله) نعوذ بالله من الغواية ، عن طريق الحق والهداية .
رابعاً : إن هذه الرواية تنافي قوله تعالى : ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ... ﴾ 16 وقوله : ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ 17 إلا أن يفرض هؤلاء ـ والعياذ بالله ـ أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن من عباد الله ، ولا من الذين آمنوا ، ولا من المتوكلين ، وليس هذا القول إلا الكفر بعد الإيمان ، كما هو ظاهر للعيان .
خامساً : ينص الكلاعي على أن المشركين والمسلمين قد سجدوا جميعاً لما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) آخر السورة ، وأن المسلمين قد عجبوا لسجود المشركين ؛ لأن المسلمين لم يكونوا قد سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين مع أنه يصرح قبل ذلك بأسطر : أن الشيطان قد ألقى تلك الكلمات على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه!! 18 .
فيرد سؤال : إنه كيف سمع المشركون ما ألقاه الشيطان على لسانه (صلى الله عليه وآله) ، ولم يسمعه المسلمون ، وهم معهم ، ولا بد أنهم كانوا أقرب إليه (صلى الله عليه وآله) منهم ؟! .
سادساً : إن جميع الآيات المذكورة لا يمكن أن تكون ناظرة إلى مناسبة هذه الروايات إطلاقاً ؛ فأما :
1 ـ آيات سورة النجم ؛ فإنه تعالى قد قال عن أصنام المشركين : مناة ، واللات ، والعزى : ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ 19 .
فكيف رضي المشركون بأن يذم آلهتهم بهذا النحو الحاد ، ثم فرحوا بقوله المزعوم ذاك وسجدوا معه ؟!
وكيف لم يدركوا أو كيف فسروا هذا التناقض الظاهر في كلامه ، حتى حملوه ـ كما زعم ـ وطاروا به في مكة من أسفلها إلى أعلاها وهم يقولون : نبي بني عبد مناف ؟! .
والنبي (صلى الله عليه وآله) نفسه ، لماذا لم يلتفت إلى هذا التناقض الظاهر ، وبقي غافلاً عنه إلى الليل ، حتى جاء جبرئيل فنبهه إليه ؟!
فهل كان (صلى الله عليه وآله) في غيبوبة طيلة تلك الفترة ؟!
أم أنه كان سقيم الذهن ـ والعياذ بالله ـ إلى هذا الحد ؟!
كما أن علينا أن نتساءل عن سبب مجيء جبرئيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المساء ؟ ولماذا عرض عليه النبي (صلى الله عليه وآله) السورة ؟
ثم ، أليست هذه الرواية تناقض تماماً قوله تعالى في سورة النجم نفسها ، وبالذات في أول السورة بعد القسم : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ 20 ؟! فها هو في نفس السورة ينطق عن الهوى ، بل هو يردد ما يلقيه إليه الشيطان على أنه آيات قرآنية إلهية .
مع أن الله تعالى يقول : ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ 21 فها هو يتقول عليه ولا يفعل به شيئاً 22 .
وإذا كانت هذه الآية قد نزلت بعد سورة النجم ، فإن ذلك لا يضر ما دامت الآية تعطي قاعدة كلية ، ولا تشير إلى قضية خارجية خاصة .
2 ـ وأما آية التمني ، فهي في سورة الحج ، التي هي مدنية بالاتفاق ، ولا سيما وأنه قد ورد فيها الأمر بالأذان في الناس بالحج والأمر بالقتال ، والأمر بالجهاد ، وذكر فيها الصد عن المسجد الحرام ، وكل ذلك إنما كان بعد الهجرة ، وبعضه بعدها بعدة سنوات .
هذا بالإضافة إلى أن الضحاك ، وابن عباس ، وقتادة ، وابن الزبير وغيرهم ، قد ذكروا أنها مدنية .
وإذا كانت مدنية ، فهذا يعني : أن هذه الآية قد نزلت بعد قصة الغرانيق بسنوات عديدة ، لأن قصة الغرانيق قد حصلت!! في السنة الخامسة من البعثة ، فكيف أخر الله تسلية وتهدئة خاطر الرسول هذه السنين الطويلة ؟! . على أن معنى الآية لا ينسجم مع مفاد الرواية ، فإن التمني هو تشهي حصول أمر محبوب ومرغوب فيه ، فالرسول إنما يتشهى ويتمنى ما يتناسب مع وظيفته كرسول ، وأعظم أمنية لإنسان كهذا هي ظهور الحق والهدى ، وطمس الباطل وكلمة الهوى فيلقي الشيطان بغوايته للناس ما يشوش هذه الأمنية ، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض ، كما ألقى فيما بين أمة موسى من الغواية ما ألقى ، فينسخ الله بنور الهدى غواية الشيطان ، ويظهر الحق للعقول السليمة .
وأما لو أردنا تطبيق الآية على ما يقولون ، فإن المراد بالتمني يكون هو القراءة والتلاوة وهو معنى شاذ غريب ، يخالف الوضع اللغوي وظاهر اللفظ ، ولا نشك في أنه تفسير موضوع ومفتعل ليوافق الرواية المزعومة .
أما الشعر المنقول عن حسان بن ثابت ، كشاهد على ذلك 23 .
فنعتقد : أنه مصنوع ومنسوب إليه للغرض نفسه ، وما أكثر ما نجده من ذلك في كتب التاريخ ، وحتى لو قبلنا أن المراد بالتمني هو التلاوة ، فإن من الممكن أن يكون معناه ما قاله المرتضى (رحمه الله) ، وهو : أنه إذا تلا النبي على قومه الآيات حرفوها ، وزادوا ونقصوا فيها ، كما فعلت اليهود بالكذب على نبيهم فإضافة ذلك إلى الشيطان إنما هو لأنه هو الموسوس لهم بذلك ثم يدحض الله ذلك ويزيله بظهور حجته 24 .
3 ـ وأما بالنسبة لآيات سورة الإسراء التي يقولون : إنها نزلت في هذه المناسبة ، وهي قوله تعالى : ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ... ﴾ 25 فإنها تناقض وتنافي هذه القضية فكيف تكون قد نزلت من أجلها ؟!
وذلك لأن هذه الآيات تقول : إنه (صلى الله عليه وآله) لم يركن إليهم ، بل لم يقرب إلى الركون إليهم ، وأن الله قد ثبته ، وأنه لو ركن لعوقب ، وقضية الغرانيق تقول : إنه قد زاد على الركون ، فاستجاب ، وافترى ، وأدخل في القرآن ما ليس منه .
ومعنى الآية : أن المشركين قد أصروا على أن يتركهم وشأنهم ، وتفاوضوا معه ، ومع أبي طالب كثيراً ، فلربما يكون النبي (صلى الله عليه وآله) قد فكر في أن يمهلهم قليلاً ، لعلهم يفكرون ويرجعون ؛ فجاءت الآية لتقول له : إن الصلاح في عدم الإمهال ، بل في الشدة ، هذا كله .
عدا عن أنهم يقولون : إن آيات سورة الإسراء قد نزلت في ثقيف ، حينما اشترطوا لإسلامهم شروطاً تزيد في شرفهم ، وقيل : نزلت في قريش حينما منعته من استلام الحجر ، وقيل : نزلت في يهود المدينة ، عندما طلبوا منه أن يلحق بالشام 26 ، وقد اقتصر القاضي البيضاوي على هذه الوجوه . .
سابعاً : وأخيراً كيف سجد المشركون عند نهاية السورة لقوله تعالى : {{{{{سجدة واجبة}}}}} {فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا} مع أنهم يرفضون السجود لله ؟
قال تعالى : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ 27 .
ثم كيف لا يرتد أحد من المسلمين ، أو يتزلزل إيمانه حينما يعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد مدح الأصنام ، وجعل لها شفاعة ؟! 28 .
تساؤلات حائرة :
وأخيراً . . فلا ندري كيف يمكن فهم وتعقل ما ذكرته بعض الروايات من أنه إنما حدث (صلى الله عليه وآله) نفسه بتلك الفقرات ؟
فكيف علم قومه بذلك حتى فعلوا ما فعلوا ، ثم بلغ الخبر إلى المسلمين في الحبشة ، فجاؤوا .
وكذا قولهم : إن المشركين قد حملوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطاروا به في مكة من أسفلها إلى أعلاها ، فكيف لم يتساءل النبي (صلى الله عليه وآله) عن سر هذا التبدل العظيم في موقف قومه ؟!
وقولهم : إن هذه القضية قد كانت بعد شهرين من الهجرة إلى الحبشة ، نقول فيه ، إنهم يقولون : إن عودة مهاجري الحبشة قد كانت بعد شهرين أيضاً .
فهل وصل إليهم الخبر بالتلكس ، أو بالتلفون ؟! وهل جاؤا بالطائرة ، أم بسفن ارتياد الفضاء ؟!
إلا أن يكون المراد : أنهم بدأوا بالتوجه نحو مكة بعد شهرين من هجرتهم ، وإن كان هذا بعيداً عن ظاهر اللفظ .
وكذا قولهم : إنه لما عرض (صلى الله عليه وآله) السورة على جبرائيل ، وقرأ الفقرتين ، أنكرهما جبرائيل فقال (صلى الله عليه وآله) : قلت على الله ما لم يقل ؟ فأنزل الله ، ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ... ﴾ 25 .
نقول فيه : إن الخطاب في الآية للنبي (صلى الله عليه وآله) : أن الناس كادوا يفتنونه ، مع أن الرواية تنص على أن الشيطان هو الذي كاد أن يفتنه ، إلى غير ذلك من موارد الضعف والوهن والتناقض التي يمكن تلمسها في هذا المجال .
حقيقة الأمر :
والظاهر هو أن حقيقة ما جرى هو ما قيل من : أن الكفار كانوا يكثرون اللغو واللغط حين قراءته (صلى الله عليه وآله) حتى لا يسمع أحد ما يقرأ قال تعالى : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ 29 فحينما قرأ النبي (صلى الله عليه وآله) سورة النجم ، وانتهى إلى هذا المورد ، قال المشركون تلك الغرانيق العلى الخ . . 30 .
نعم ، ثم جاء القصاصون والحاقدون ، ولعل منهم مسلمة أهل الكتاب ، الذين أدخلوا الكثير من إسرائيلياتهم في الإسلام ـ جاؤوا ـ ونسجوا حولها ما يتلاءم مع مصالحهم وأهدافهم الشريرة ، من الطعن بعصمته (صلى الله عليه وآله) ، ثم التشكيك بكل ما في القرآن ، بحيث يتهيأ الجو لتطرق احتمالات من هذا النوع في كل سورة وآية ، ثم التدليل على مدى جهل النبي (صلى الله عليه وآله) وعدم إدراكه حتى المتناقضات الواضحة .
ثم خضوعه لسلطان الشيطان ، وعدم قدرته على تمييز ما هو منه عما هو من غيره .
ولكننا نجدهم يقولون في مقابل ذلك ، كما تقدم : إن الشيطان يفر من حس عمر 31 أو لم يلق الشيطان عمر منذ أسلم إلا خرَّ لوجهه 32 ، أو ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً آخر 33 ولعلهم أرادوا أن يقولوا : إن للنبي شيطاناً يعتريه كما كان لأبي بكر . .
وقد تقدم الحديث عن كل ذلك في بحوث سابقة .
ثم جاء المستشرقون الحاقدون ، أعداء الإسلام ، فحاولوا الاستفادة من هذه الأباطيل والأساطير للطعن في نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) 34 ، فأحبط الله سعيهم ، ورد كيدهم إلى نحورهم .
فإن الحق كالصبح أبلج ، وسيرة نبينا في النبل والصفاء والطهر من كل عيب وشين كذكاء في كبد السماء تتوهج 35 .
__________________________
1. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 19 و 20 ، الصفحة : 526 .
2. الغرانيق ، جمع غرنوق بكسر الغين : طيور الماء . شبهت الأصنام بها لارتفاعها في السماء فتكون الأصنام مثلها في رفعة القدر ، والغرنوق أيضاً : الشاب الأبيض الناعم .
3. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآيات : 73 - 75 ، الصفحة : 289 .
4. القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 52 ، الصفحة : 338 .
5. القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 53 ، الصفحة : 338 .
6. راجع : الدر المنثور ج4 ص194 و366 ـ 368 والسيرة الحلبية ج1 ص325 ـ 326 ، وتفسير الطبري ج17 ص131 ـ 134 ، وفتح الباري ج8 ص333 . وأشار إلى أصلها البخاري أيضاً في غير موضع من صحيحه ، كما في البداية والنهاية ج3 ص90 ، وقد صرح السيوطي في دره المنثور بصحة أسانيد عدد منها ، وراجع : لباب النقول ، وتفسير الطبري ، وهي موجودة في مختلف التفاسير ، عند تفسير الآيات ، ولذا فلا حاجة إلى تعداد مصادرها
7. راجع : البحر المحيط لأبي حيان ج6 ص381 .
8. تنزيه القرآن عن المطاعن ص243 .
9. عن تفسير البحر المحيط ج6 ص381 .
10. السيرة الحلبية ج1 ص11 ، والهدى إلى دين المصطفى ج1 ص130 ، والرحلة المدرسية ص38 . وفتح الباري ج8 ص333 ، وتفسير الرازي ج23 ص50 .
11. الشفاء ج2 ص126 ط العثمانية والمواهب اللدنية ج1 ص53 .
12. فتح الباري ج8 ص333 .
13. راجع : مقدمة ابن الصلاح ص26 .
14. فتح الباري ج8 ص333 ، والسيرة الحلبية ج1 ص326 وراجع سيرة مغلطاي ص24 المواهب اللدنية ج1 ص53 .
15. راجع : الاكتفاء للكلاعي ج1 ص352 و353 .
16. القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 42 ، الصفحة : 264 .
17. القران الكريم : سورة النحل ( 16 ) ، الآية : 99 ، الصفحة : 278 .
18. راجع : الإكتفاء للكلاعي ج1 ص352 و 353 .
19. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 23 ، الصفحة : 526 .
20. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 3 و 4 ، الصفحة : 526 .
21. القران الكريم : سورة الحاقة ( 69 ) ، الآيات : 44 - 46 ، الصفحة : 568 .
22. هذا إن لم نقل إن الآية ناظرة إلى صورة تعمد الكذب على الله ، لأنه عبر بالتقول ، الذي هوتعمد القول .
23. ففي تنزيه الأنبياء ص107 : أن حسان بن ثابت قال :
تمنى كتاب الله أول ليله *** وآخره لاقى حمام المقادر
على أن من الممكن أن يكون المقصود بالتمني هنا حب ذلك والشوق إليه .
24. تنزيه الأنبياء ص 107 و ص 108 .
25. a. b. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 73 ، الصفحة : 289 .
26. راجع : السيرة الحلبية ج1 ص326 ، والدر المنثور ، وتفسير الخازن ، وسائر كتب التفسير .
27. القران الكريم : سورة الفرقان ( 25 ) ، الآية : 60 ، الصفحة : 365 .
28. راجع هامش : الاكتفاء للكلاعي ج1 ص353 و354 .
29. القران الكريم : سورة فصلت ( 41 ) ، الآية : 26 ، الصفحة : 479 .
30. السيرة النبوية لدحلان ج1 ص128 وتنزيه الأنبياء ص107 وليراجع هامش الاكتفاء للكلاعي ج1 ص354 عن السهيلي ، وقد نقل الكلبي في كتاب الأصنام : أن قريشاً كانت تقول هذه الكلمات في مدحها لأصنامها حول الكعبة ـ كما نقل .
31. الرياض النضرة ج2 ص301 .
32. عمدة القارئ ج16 ص196 وراجع تاريخ عمر ص62 .
33. صحيح مسلم ج7 ص115 وفي تاريخ عمر ص35 ما يقرب من ذلك وكذلك ص62 والغدير ج8 ص94 ومسند أحمد ج1 ص171 و182 و187 وصحيح البخاري ج2 ص44 و188 وعمدة القارئ ج16 ص196 .
34. راجع : تاريخ الشعوب الإسلامية ص34 لبروكلمان وكتاب الإسلام ص35 و36 لألفريد هيوم .
35. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، 2005 م . ـ 1425 هـ . ق ، الجزء الثالث .