يقول الدكتور التيجاني :
والعجيب الغريب أنّ أغلب المسلمين عندما تذكر له حديث الغدير ، لا يعرفه أو قل لمْ يسمع به والاعجب من هذا كيف يدّعي علماء أهل السنّة بعد هذا الحديث المجمع على صحّته ، بأنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم يستخلف وترك الامر شورى بين المسلمين.
فهل هناك للخلافة حديث أبلغ من هذا وأصرح يا عباد الله ؟؟ وإني لاذكر مناقشتي مع أحد علماء الزيتونة في بلادنا عندما ذكرتُ له حديث الغدير محتجّا به على خلافة الامام عليّ ـ عليه السلام ـ فاعترف بصحّته ، بل وزاد في الحبل وصلة فأطلعني على تفسيره للقرآن الذي ألّفه بنفسه ، والذي يذكر فيه حديث الغدير ويصححه ، ويقول بعد ذلك :
« وتزعم الشيعة بأن هذا الحديث هو نصّ على خلافة سيدنا علي ـ كرّم الله وجهه ـ ، وهو باطل عند أهل السنّة والجماعة لانه يتنافى مع خلافة سيّدنا أبي بكر الصدّيق وسيّدنا عمر الفاروق وسيّدنا عثمان ذي النورين ، فلا بدّ من تأويل لفظ المولى الوارد في الحديث على معنى المحب والناصر ، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم ، وهذا ما فهمه الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام ـ رضي الله تعالى عليهم أجمعين ـ،وهذا ما أخذه عنهم التابعون وعلماء المسلمين ، فلا عبرة لتأويل الرافضة لهذا الحديث لانهم لا يعترفون بخلافة الخلفاء ويطعنون في صحابة الرسول وهذا وحده كافٍ لردّ أكاذيبهم وإبطال مزاعمهم » انتهى كلامه في الكتاب.
سألته : هل الحادثة وقعتْ بالفعل في غدير خم (3) ؟
أجاب : لو لم تكن وقعتْ ما كان ليرويها العلماء والمحدّثون !
قلتُ : فهل يليق برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن يجمع أصحابه في حرّ الشمس المحرقة ويخطب لهم خطبة طويلة ليقول لهم :
بأنّ علي محبّكم وناصركم ؟ فهل ترضون بهذا التأويل ؟
أجاب : إن بعض الصحابة اشتكى عليِّا وكان فيهم من يحقد عليه ويبغضه ، فأراد الرسول أن يزيل حقدهم ، فقال لهم : بأنّ عليا محبّكم وناصركم ، لكي يحبّوه ولا يبغضوه.
قلتُ : هذا لا يتطلّب إيقافهم جميعا والصلاة بهم وبدأ الخطبة بقوله : ألستُ أولى بكم من أنفسكم ، لتوضيح معنى المولى ، وإذا كان الامركما تقول فكان بإمكانه أن يقول لمن اشتكى منهم عليَّا : « إنّه محبّكم وناصركم » ، وينتهي الامر بدون أن يحبس في الشمس ، تلك الحشود الهائلة وهي أكثر من مائة ألف فيهم الشيوخ والنساء ، فالعاقل لا يقنع بذلك أبدا !
فقال : وهل العاقل يصدّق بأنّ مائة ألف صحابي لم يفهموا ما فهمتَ أنتَ والشيعة ؟؟
قلتُ : أولاً لم يكن يسكن المدينة المنوّرة إلاّ قليلٌ منهم.
وثانيا : إنهم فهموا بالضبط ما فهمتُه أنا والشيعة ، ولذلك روى العلماء بأن أبا بكر وعمر كانا من المهنّئين لعلي بقولهم : بخ بخ لك يابن أبي طالب أمسيت وأصبحت مولى كل مؤمن (4).
قال : فلماذا لم يبايعوه إذا بعد وفاة النبي ؟ أتراهم عصوا وخالفوا أمر النبيّ ؟ أستغفر الله من هذا القول !
قلتُ : إذا كان العلماء من أهل السنّة يشهدون في كتبهم بأنّ بعضهم ـ أعني من الصحابة ـ كانوا يخالفون أوامر النّبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حياته وبحضرته (5) ، فلا غرابة في ترك أوامره بعد وفاته ، وإذا كان أغلبهم يطعنُ في تأميره أسامة بن زيد لصغر سنّه رغم أنها سريّة محدودة ولمدّة قصيرة فكيف يقبلون تأمير عليّ على صغر سنّه ولمدّة الحياة ، وللخلافة المطلقة ؟ ولقد شهِدتَ أنتَ بنفسك بأن بعضهم كان يبغض عليَّا ويحقد عليه !!
أجابني متحرّجا : لو كان الامام عليّ ـ كرّم الله وجهه ورضي الله عنه ـ يعلَمُ أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ استخلفه ، ما كان ليسكتَ عن حقّه وهو الشجاع الذي لا يخشى أحدا ويهابه كل الصحابة.
قلتُ : سيدي هذا موضوع آخر لا أريد الخوض فيه لانك لم تقتنع بالاحاديث النبوية الصحيحة ، وتحاول تأويلها وصرفها عن معناها حفاظا على كرامة السلف الصالح ، فكيف أُقنعك بسكوت الامام عليّ أو باحتجاجه عليهم بحقّه في الخلافة ؟
ابتسم الرّجل قائلاً : أنا والله من الذين يفضّلون سيدنا عليّا ـ كرّم الله وجهه ـ على غيره ، ولو كان الامر بيدي لما قدّمتُ عليه أحدا من الصحابة ، لانه باب مدينة العلم وهو أسد الله الغالب ، ولكن مشيئة الله سبحانه هو الذي يقدّم من يشاء ويؤخّر من يشاء ، ( لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون ) (6).
ابتسمتُ بدوري له ، وقلتُ : وهذا أيضا موضوع آخر يجرّنا للحديث عن القضاء والقدر ، وقد سبق لنا أن تحدّثنا فيه وبقي كلٌ منّا على رأيه ، وإنّي لاعجب يا سيدي لماذا كلّما تحدثتُ مع عالم من علماء أهل السنّة وأفحمته بالحجّة سرعان ما يتهرّب من الموضوع إلى موضوعٍ آخر لا علاقة له بالبحث الذي نحن بصدده.
قال : وأنا باقٍ على رأيي لا أغيّره.
ودّعته وانصرفتُ. بقيتُ أفكّر مليَّا لماذا لا أجدُ واحدا من علمائنا يكمل معي هذا المشوار ويوقف الباب على رجله ، كما يقول المثل الشائع عندنا.
فالبعض يبدأ الحديث ، وعندما يجد نفسه عاجزا عن إقامة الدّليل على أقواله يتملّص بقوله : ( تلك أمّة قد خلتْ لها ما كسبتْ ولكم ما كسبتم ) (7) والبعض يقول ما لنا ولاثارة الفتن والاحقاد فالمهم أنّ السنّة والشيعة يؤمنون بإله واحد ورسول واحد وهذا يكفي ، والبعض يقول بإيجاز : يا أخي اتّق الله في الصحابة ، فهل يبقى مع هؤلاء مجال للبحث العلمي وإنارة السبيل والرجوع للحق الذي ليس بعده إلاّ الضّلال ؟ وأين هؤلاء من أسلوب القرآن الذي يدعو الناس لاقامة الدّليل : ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (8) مع العلم بأنهم لو يتوقّفون عن طعنهم وتهجمهم على الشيعة لما ألجأونا للجدال معهم حتّى بالتي هي أحسن (9).
___________
(1) هو : الدكتور محمد التيجاني السماوي التونسي ، حفظ القرآن في سنٍ مبكرٍ ، نشأ وترعرع على طريقة الصوفية التيجانية وهي
منتشرة بكثرة في المغرب ، والجزائر ، وتونس ، وليبيا ، والسودان ، ومصر ، والتي من أُسسها الحفاظ على الشعائر الدينية واحترام الاولياء
والصالحين وترتيل القرآن ، ولها أذكارها وأدعيتها الخاصة وكان على مذهب الامام مالك بن أنس وأخيراً اعتنق المذهب الشيعي بعد بحث
طويل في تحقيق مسائل الخلاف بين المذاهب الاسلامية ، كما جرت بينه وبين بعض العلماء مناظرات حين زيارته للنجف الاشرف منهم السيد
الخوئي ـ قدس سره ـ ، والشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ قدس سره ـ ، له من المؤلفات كتاب ثم اهتديت الذي شرح فيه كيفية استبصاره
والاسباب التي دعته إلى الاخذ بمذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، لاكون مع الصادقين ، الشيعة هم أهل السنة ، فاسألوا أهل الذكر ، وقد
حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون ـ باريس. استفدنا هذه الترجمة من كتابه ثم اهتديت.
(2) الزيتونة : جامع في تونس بنته عطف ارملة المستنصر الحفصي ـ 1283 ـ خارج باب البحر. المنجد ـ قسم الاعلام ـ
ص341.
(3) تقدمت تخريجاته.
(4) تقدمت تخريجاته.
(5) صحيح البخاري ومسلم إذ أخرجا عدّة مخالفات لهم كما في صلح الحديبية وكما في رزية يوم الخميس وغير ذلك كثير ، وخير من
كتب في هذا الموضوع السيد شرف الدين ( قدس سره ) في كتابه : النص والاجتهاد فراجع.
(6) سورة الانبياء : الاية 23.
(7) سورة البقرة : الاية 134.
(8) سورة البقرة : الاية 111.
(9) مع الصادقين للدكتور التيجاني السماوي ص58.