الإسلام والحضارة
  • عنوان المقال: الإسلام والحضارة
  • الکاتب: محمد مهدي الحسيني
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:8:40 1-9-1403

الإسلام حضارة كونية، ورسالة حياة سماوية متكاملة، تهدف إلى انتشال بني البشر من مآسيهم وحل جميع مشاكلهم العالقة والمستعصية، وحلحلة جميع الأزمات الإنسانية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها.

فالإسلام دين وتمدن.. فكر ونظريات.. عمل وتطبيقات.. يسير بالإنسان خطوة بخطوة، ومع الإنسانية نقلة بنقلة، ليسير بهما إلى عالم كل ما فيه نور وسرور.

هذا هو الإسلام بكلمات بسيطة إلا أنه حضارة عالمية عاشها الإنسان عندنا في هذا الشرق السعير، وكل من قرأ تاريخ الحضارة الإنسانية لابدّ له من الوقوف طويلاً أمام تاريخ الحضارة الإسلامية، وكثير من العلماء انبهروا بهذه الحضارة العملاقة، والمنصفون منهم اعترفوا بعلوّ كعبها وكبير فضلها على مسيرة الحضارة العالمية.

إلاّ أنّنا نحن وأبناء جيلنا حالياً لم نشهد من تلك الحضارة إلاّ الاسم، وعلينا تذكر الرسم والمعالم من خلال الكتب التاريخية، أو الدراسات الحضارية، والوقوف على تلك الأطلال ونبكي كبكاء شعرائنا الجاهليين: كعنترة وامرئ القيس (الملك الضليل) وغيرهما، وكما قال هذا الأخير في مطلع معلقته اللامية الشهيرة (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل…).

حيث بكى واستبكى، ووقف واستوقف بشطر بيت من الشعر فقط.. ونحن ألا يحق لنا أن نقول: قفوا نبك من ذكرى حضارتنا الإسلامية التليدة..؟

    بقايا حضارة الإسلام

بقايا حضارة الإسلام كما شاهدتها قبل حوالي نصف قرن في العراق، كانت تحكي صورة ما عن الإسلام العظيم الذي نقرأه في التاريخ الإسلامي وفي الفقه وفي غيرهما من الكتب المعنية بشؤون الإسلام، فإنّ الحضارة شيء والتكنولوجيا الحاضرة شيء آخر، كما أن التمدّن شيء ثالث.

فإن التمدن أن يعيش الإنسان في المدينة في قبال أن يعيش في القرية، لأنّ لكل من المدينة والقرية مزايا وخصوصيات.

ومن الواضح أنّ الذين يعيشون في المدينة يتنعّمون بمزايا المدينة، بينما الذين يعيشون في القرية لا يتنعمون بمثل تلك المزايا، وإن كانت في المدينة أضرار لا توجد في القرية إلاّ أن مزايا المدينة أكثر من أضرارها، كما أنّ أضرار القرية أكثر من مزايا، وقد ألمعنا إلى جانب من ذلك تبعاً لعلماء الاجتماع في كتاب (الفقه الاجتماعي).. فسهولة الوصول إلى العلم والطب والمستوى الأرفع في المعيشة وغيرها وإمكانية الاشتراك في الأمور الاجتماعية وإمكان الوصول إلى القضاء والشرطة ونحوهما في المدينة أكثر من القرية، بينما في القرية الهواء الأنقى، والطبيعة الأنظف، والبساطة الأكثر، مما يسبب قلة القلق والأمراض ونحوهما.

أما التكنلوجيا فهي تدخل في القرية وفي المدينة كالماء والكهرباء والهاتف والراديو والتلفزيون والمواصلات وسائر الآلات الحديثة.

أما النسبة بين الحضارة والتكنلوجيا فهي العموم من وجه، كما أن بين المدينة والقروية والتكنولوجيا أيضاً عموماً من وجه (على الاصطلاح المنطقي).

والإسلام له حضارة خاصة تتسم بطابع الإيمان والفضيلة والتقوى والاطمئنان والنظافة، والنظام، وقلة المرض والجهل والفقر، وكثرة التعاطف والتعاون وما أشبه، فإذا دخلت في المدينة كانت أكثر روعة، وإن كانت الروعة موجودة في القرية أيضاً.

ولذا ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يتورع في دين الله تعالى ابتلاه الله بثلاث خصال: إما أن يميته شاباً، أو يوقعه في خدمة السلطان، أو يسكنه في الرساتيق».(مستدرك الوسائل:11/274،ب21،ح12984)

والتشويق إلى السكنى في المدن الكبار وذمّ السكنى في الرساتيق، كما أن التكنولوجيا إذا دخلت في الحضارة الإسلامية ظهر بريق الحضارة أكثر فأكثر، ولذا ورد في الحديث: «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون».(وسائل الشيعة:11/376،ب95،ح5)

وفي حديث آخر: «ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه».(وسائل الشيعة:12/49،ب28،ح1)

وقبل ذلك قال القرآن الكريم: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)  أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}.(البقرة:200-202)

والحضارة المادية التي تقابل الحضارة الإسلامية حيث دخلت في حياة المسلمين منذ نصف قرن تقريباً أخذت بالتصاعد، بينما أخذت الحضارة الإسلامية في الضعف وتغيرت أحوال المسلمين.

وإن الذين أدركوا الحضارتين يرون البون الشاسع بينهما، فقد أوجبت الحضارة المادية: التنازع والتخاصم والتدابر، وذهاب الرضى والقناعة والاطمئنان النفسي، مما أخذ مكانها القلق والنهم وضعف الإيمان بالله واليوم الآخر وكثرة الجرائم، ومن جرّاء ذلك صارت البلاد الإسلامية بكاملها أسواقاً للغرب، ومحطاً لا للمشكلات المادية الموجودة في بلاد الغرب فحسب بل وأضيفت على ذلك مشكلات العبيد أمام السادة، فصارت تصدّر المواد الخام بأبخس الأثمان، وتستورد الآلة بأعلى الأثمان، وتقطعت البلاد وقامت الثورات والحروب المتتالية.

وإني أذكر قبل زهاء نصف قرن كيف كان المسلمون في الرفاه ولم يكن وارد العراق أكثر من مليون ونصف مليون من الدنانير، وقد قال ذات مرة المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء لفيصل الأول: (إن أزقة النجف تحتاج إلى التبليط، فأجابه فيصل: إن وارد العراق اليوم مليون ونصف مليون وإذا وصل وارد العراق حسب تخطيطنا إلى ثلاثة ملايين فنبلط كل شوارع النجف وأزقتها.

وفي الواقع: أنه أي وقت يأخذ الإسلام بالزمام يقلب المجتمع إلى مجتمع الرضى والفضيلة والتقوى والإيمان والسكينة والاطمئنان والتعاون والمشاركة الوجدانية والقناعة والبساطة والرفاه والأمن والحلم والمروءة والحرية والحكومة الاستشارية، وغير ذلك من أسباب الرفاه والسعادة والتقدم.

وإنّي أذكر قبل زهاء خمسين سنة حيث اشتغل الشرق والغرب بمقدمات الحرب ثم بالحرب العالمية الثانية، وحيث لم تتغلغل الحياة المادية في البلاد الإسلامية، كيف كنا؟ وكيف تحولنا إلى حالة سيئة بعد تغلغل الشرق والغرب والحياة المادية في البلاد الإسلامية ابتداءً من انتهاء الحرب وتصاعداً في المشاكل والمآسي إلى يومنا هذا.