بين ما يقوله المناطقة , وما يتطلَّبه الواقع
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
من الواضح أن الهدف الأساس من الخطابة وارتقاء المنابر هو إقناع الجمهور السامعين بما يدعو إليه الخطيب من أفكار أو عقائد أو اتجاهات أو آراء ؛ فالخطابة هي فن إقناع الجمهور . وقد نصَّ على هذا القيد كلُّ من عرَّف الخطابة من المناطقة وغيرهم (1) .
وواضح أيضاً إن الإقناع لا يأتي من عدم , بل من المحتم أن له أساساً ومبدأً , وهذا الأساس هو أن يكون كلام الخطيب مشفوعاً بدليل أو أكثر على مدَّعاه ؛ ليحظى كلامه بقبول السامعين .
والمحصّل : إن الخطيب يسعى في خطابته إلى إقناع جمهوره بما يتناول من موضوعات , وما يطرح من أفكار وآراء , والإقناع لا يحصل عبثاً بل لا بدّ من وجود دليل .
ونظراً لأهمية الدليل والاستدلال جعل أرسطو التدليل جزءاً أساسياً من الخطبة ؛ حيث قسَّم الخطبة إلى أربعة أجزاء : المقدمة , والعرض , والتدليل ـ أي إقامة الدليل على المدَّعى ـ , وأخيراً الخاتمة (2) .
والدليل عبارة عمّا يتألف من قضايا يتّجه بها إلى مطلوب يستحصل به (3) . أو هو : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب(4). فعندما يدَّعي الخطيب دعوى ما , ولتكن استحباب زيارة القبور مثلا ً, أو حرمة تناول لحم الأرنب , فعليه أن يأتي بدليل أو مجموعة أدلة لإثبات استحباب زيارة القبور أو حرمة أكل لحم الأرنب , وإلاّ تكون دعواه دعوى بلا دليل , غير قابلة للتصديق والاقتناع بها .
والأدلة تنقسم إلى قسمين :
1 ـ أدلة علمية أو منطقية : وهي الأدلة التي تكون مقدماتها من القضايا اليقينية التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً .
2 ـ أدلة خطابية : وهي الأدلة التي تكون مقدماتها من القضايا الظنّية أو القضايا الاُخرى المشابهة لها .
مقدّمات الأدلة الخطابية
أشار أغلب المناطقة إلى أن مقدمات الدليل (مادة القياس) في الخطابة يجب أن تكون إمّا من المشهورات أو المقبولات أو المظنونات . قال الشيخ نصير الدين الطوسي في تجريد المنطق : إن مبادئ الحجج الخطابية (مقدمات الأدلة) أصناف ثلاثة :
أولها : المشهورات الظاهرة التي تحمد في بادئ الرأي , كقول القائل : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً , وربما خالفت الحقيقة .
وثانيها : المقبولات , كقول من يوثق بصدقه كنبي أو إمام , أو يُظن صادقاً كحكيم أو شاعر .
وثالثها : المظنونات , كما يقال : زيد متكلم مع الأعداء جهاراً , فهو متهم (5) . ومثل : فلان وجهه أصفر , فهو خائف , ورأيت فلاناً في الأزقة ليلاً , فهو لص .
وقد اتفقت كلمة علماء المنطق على هذا , وعللوا ذلك بأن الجمهور لا يخضع للبرهان (الدليل العلمي) ولا يقنع به . . . ؛ لأن الجمهور تتحكم به العاطفة أكثر من التعقُّل والتبصُّر , بل ليس له الصبر على التأمُّل والتفكير ومحاكمة الأدلة والبراهين , وإنما هو سطحي التفكير , فاقد للتمييز الدقيق , تؤثر فيه المغريات , وتبهره العبارات البراقة , وتقنعه المظاهر الخلابة (6).
وبالتالي مادة القياس في الخطابة يجب أن تكون من المقبولات أو المشهورات أو المظنونات لتنتج دليلاً خطابياً لا دليلاً علمياً ؛ لأن الجمهور ليس له الصبر والقدرة على فهم الأدلة العلمية أو المنطقية .
وقبل أن نُبدي تعليقاً على ما ذكروه لنتعرَّف أولاً على مواد القضايا .
مواد القضايا(*)
مواد القضايا : عبارة عن القضايا التي تقع مقدمات للدليل (7) , وهي ثمانية أنواع نذكرها هنا بشيء من الإيجاز .
أولاً : اليقينيّات
وهي قضايا تطابق الواقع ولا تحتمل النقيض (8) , وأقسامها ستة , وهي :
1 ـ الأوليات : وهي القضايا التي يصدِّق بها العقل لذاتها , أي بمجرد تصور الموضوع والمحمول دون حاجة إلى تصوّر النسبة , ولا تحتاج إلى أن يتعلمها الإنسان من أحد ؛ مثل : أنّ الكل أعظم من الجزء , وأن الاثنين أكثر من الواحد , وأن الشيء لا يكون قديماً وجديداً في آن واحد , ولا يكون الشيء طويلاً وقصيراً في ذات الوقت . . . إلخ .
2 ـ المشاهدات : وهي القضايا المحسوسة بالحواس الظاهرة والباطنة (9), فهي على قسمين : مشاهدات ووجدانيات , ويمكن للخطيب استخدام هذين النوعين في خطابته بكثرة ؛ لفرض أنها مشاهدة ومحسوسة للسامع فتحصل لديه القناعة بنتائجها بسهولة ، فإذا أراد ـ مثلاً ـ أن يثبت أخذ الله تعالى للقرى وهي ظالمة , يكفيه فقط تذكير الجمهور بحوادث الزلازل والهزات الأرضية وما تحصده من الأرواح في لحظات .
أما الوجدانيات : فهي القضايا التي يستشعرها الإنسان عند وجود ما يحفزها ؛ كالشعور بالألم من الجراح , والحزن بمصاب الأحبة ونحو ذلك , وهذه القضايا يمكن توظيفها في إثبات المواقف العاطفية والوجدانية التي حصلت في كربلاء , مثل حزن الأم على ولدها , والبكاء عند فراق الأحبة . . . إلخ .
3 ـ التجربيات : وهي القضايا التي يصدّق بها العقل بسبب تكرار المشاهدة لها أو الإحساس بها ؛ مثل : إنّ كل نار حارة , وإن قراءة الآية الأخيرة من سورة الكهف المباركة توقظ الإنسان من نومه في الساعة التي يريد . ويمكن للخطيب الاستعانة بالمجرّبات بكثرة أيضاً لتثبيت الفكرة في نفس السامع .
4 ـ المتواترات : وهي قضايا روتها جماعة كثيرة يمتنع تواطئهم على الكذب عادة . والخطابة الدينية تعتمد على هذه القضايا بكثرة , وهي نافعة جداً في إقناع السامع . ومن أمثلتها بيعة الغدير , وقصص شجاعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) , واستشهاد طفل الحسين (عليه السّلام) عبد الله الرضيع , وغير ذلك من القضايا والحوادث التاريخية التي نقلها جمع كبير من الرواة والمؤرّخين , ومن غير المعقول أن يكونوا كلهم كاذبين .
5 ـ الحدسيات : وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قوي من النفس جداً يزول معه الشك (10). ويمكن اكتساب هذا النوع من القضايا عن طريق الخبرة وكثرة المطالعة والممارسة للعلوم ؛ حيث روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) أنه قال : (( كثرة النظر في العلم تفتح العقل ))(11) .
فعلى سبيل المثال : يمكن رد ما قيل : إن الحسين (عليه السّلام) أبى وامتنع على السيف أن يحز نحره الشريف , حتى جاء مَلك فقال : أين الوعد يا حسين ؟ فإذا كان الخطيب مطّلعاً على كتب العرفان مثلاً فإنه يعرف زيف هذه الرواية ؛ لأنها تتعارض مع التسليم لأمر الله تعالى .
6 ـ الفطريات : وهي القضايا التي يصدّق بها العقل بمجرد تصوّر الموضوع وتصوّر المحمول وتصوُّر النسبة (12)؛ وبهذا افترقت عن الأوليات . ومن أمثلة هذه القضايا : الحكم بجواز لعن يزيد وعبيد الله وأمثالهم ؛ فإنه بمجرد تصوّر جريمة القتل , وتصوّر نسبة القتل إليهم , وتصوّر حرمة القتل شرعاً أو قبحها عقلاً , يحكم العقل بجواز لعنهم .
ثانياً : المظنونات
وهي قضايا يُصدَّق بها اتباعاً لغالب الظن(13) مثل : كلّ مَن خرج على الحاكم فهو يطلب الملك , وكلّ مَن يقتل نفساً فهو ظالم , فهذه قضايا ظنّية تصدق أحياناً وتكذب اُخرى , إلاّ إن البعض يستعملها كدليل على مدّعاه , وستأتي تتمة للكلام فيها .
ثالثاً : المشهورات
وهي القضايا التي يقبل بمضامينها الناس ؛ سواء أكانت مطابقة للواقع أم لا(14) . وهي على قسمين :
1 ـ المشهورات الحقيقية : وهي القضايا التي لها واقع وراء شهرتها , فهي معروفة مشهورة عند كلِّ العقلاء من جهة , ولها واقع من جهة اُخرى , أي لا تكون كاذبة أو متوهمة , مثل كل أنواع القضايا اليقينية التي ذكرناها قبل قليل , ويُصطلح عليها هنا بواجبات القبول .
وهناك قضايا اُخرى تدخل في هذا القسم , منها التأديبات الصلاحية : وهي قضايا تطابقت آراء العقلاء على قبولها ؛ لاقتضاء المصلحة العامة بذلك , كالقيم الأخلاقية والاجتماعية , والعادات والتقاليد المتوارثة في المجتمع .
ومنها الخلقيات : وهي القضايا التي يكون منشؤها الغرائز الطبيعية , كالمروءة والشجاعة وغير ذلك ؛ فإن الشجاعة مثلاً تقتضي الدفاع عن العرض , وتقتضي عدم الخوف , وكحكم العقلاء بقبح البخل , وقبح الجبن والنهم . . . إلخ .
ومنها الانفعاليات أو العاطفيات : وهي القضايا التي تقتضيها العاطفة الإنسانية , كالغيرة والحمية والرقة والرحمة والشفقة , فهذه العاطفيات هي الاُخرى لها قوانين ثابتة ومتعارف عليها بين الناس ؛ فالضرب المبرح عندهم مثلاً خلاف الرقة , والتغاضي عن إهانة المقدّسات خلاف الغيرة . . . إلخ .
ومنها العاديات : وهي القضايا التي تقتضيها العادات والتقاليد , كاحترام الكبير وتوقيره , وأداء واجب الضيافة للضيف , فهذه القضايا يمدح المحافظ عليها ويذم المخالف لها . نعم قد تكون ثمة عادات أو تقاليد اجتماعية خاطئة أو غير صالحة في هذا العصر , فمثل هذه القضايا يجب أن يتجنب الخطيب تأييدها أو تأكيدها , بل عليه محاولة تصحيحها .
2 ـ المشهورات الظاهرية : وهي القضايا التي باتت مشهورة ومعروفة عند الناس , ويستندون إليها في حججهم وأدلتهم , ولكن ليس لها واقع صحيح , أو أنها لا تصدق دائماً ؛ مثل : وجوب نصرة أفراد العشيرة وإن كانوا مخطئين أو ظالمين , ومثل : الأكبر منك بيوم أفهم منك بسنة .
وهناك مشهورات من هذا النوع حتى على مستوى الاُمور الشرعية وإن كانت مخالفة للواقع أو لفتاوى الفقهاء , لكن الناس يستندون إليها من حججهم ومجادلاتهم , من قبيل : وجوب دفن عظام العقيقة , وترك المرأة النفساء للصلاة أربعين يوماً , وبطلان الصوم عند قلع السن . فهذه قضايا ربما كانت مشهورة عند بعض الفئات الاجتماعية , ويعوّلون عليها ويرون صحتها وإن كانت واقعاً غير صحيحة .
رابعاً : المقبولات
وهي القضايا التي تُؤخذ ممّن يوثق بصدقه تقليداً ؛ إمّا لأمر سماوي كالسنن والشرائع المأخوذة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السّلام) , وإمّا لمزيد عقله وخبرته كالمأخوذات من الحكماء والعلماء وذوي الاختصاص , وعلى رأس ذلك كله آيات الذكر الحكيم .
وهناك أنواع اُخرى من القضايا أعرضنا عن ذكرها ؛ لقلّة جدواها في الخطابة , أو لدخولها ضمن بعض الأقسام السابقة , مثل : المشبهات , والمخيلات , والمسلمات , والوهميات (15).
أهمية معرفة الخطيب لمواد القضايا
قد يقال : هل من الضرورة أن يعرف الخطيب مواد القضايا وأنواعها ؟
والجواب واضح , فمعرفة هذه القضايا والتمييز بين أنواعها مهم جداً للخطيب ؛ لأنه سيعرف بواسطتها نوع الدليل الذي يأتي به على دعواه , فإن كانت مقدماته من اليقينيات كان دليله علمياً , وإن كانت مقدماته من المظنونات أو المشهورات الظاهرية كان دليله خطابياً , ويترتب على ذلك فوائد بعضها يتعلق :
1 ـ بالجمهور : فالمجتمعات والتجمعات تختلف من الناحية الثقافية والتحصيل العلمي ؛ فالمجتمع الذي لا حظَّ له من العلم والثقافة لا تنفعه الأدلة العلمية , وعلى الخطيب أن يأتي بأدلة خطابية مقدماتها من المشهورات ذات الطابع الإعلامي التهويلي ؛ لأنها أنجح في إقناعهم والتأثير فيهم .
أمّا المجتمعات التي يكون أغلب أفرادها من المتعلمين , فالواجب أن تكون الأدلة التي يسوقها الخطيب لإقناعهم أدلة علمية مستندة إلى مقدمات يقينية , ولو عكس فسيفشل في كلا المجتمعين . والجمع بين النوعين من الأدلة أكمل ؛ لتباين ثقافة الجمهور في كل زمان ومكان .
والملاحظة الهامة في هذا السياق أنه تقع على عاتق الخطيب مسؤولية تنمية وعي الجمهور البسيط , فلا يتخذنَّ قلة حظهم من العلم ذريعة له على الاستمرار في إقناعهم بالقضايا ذات الطابع الإعلامي .
2 ـ بالموضوع : فبعض الموضوعات لا يمكن استخدام بعض أنواع القضايا فيه , ويمكن استخدام أنواع اُخرى ؛ فالمسائل الفقهية مثلاً يمكن إثباتها بالمقبولات كأن يسوق حديثاً شريفاً يدل عليها , ولا يمكن إثباتها بالمشهورات الظاهرية .
3 ـ بتنظيم الموضوع : فإن للتنظيم في الخطابة أهميته ؛ فتقديم بعض الأدلة على بعض , وتأخير هذا النوع من القضايا وتقديم تلك , يسهم كل ذلك في نجاح الخطيب وتحقيق غايته .
وعلى الإجمال ، معرفة مواد القضايا والتمييز بينها من الاُمور التي لا يمكن التساهل فيه (16).
ومما يجدر ذكره : يجب أن تكون المقدمات صادقة في نفسها ؛ لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات , فإذا كانت المقدمات كاذبة أو مغلوطة , كان الدليل كذلك .
نقد لكلام المناطقة حول مقدمات الأدلة الخطابية
ذكرنا أن المناطقة قالوا : إن مقدمات الدليل في الخطابة يجب أن يكون من المشهورات الظاهرية أو المظنونات أو المقبولات , وعلّلوا ذلك بعدم قدرة الجمهور على التأمل ومحاكمة الأدلة , ولنا على كلامهم تعليق , فنقول :
1 ـ المقبولات
لا إشكال في إمكانية وصحة أخذ القضايا المقبولة كآيات الذكر الحكيم , وأحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السّلام) , وكلام الحكماء والمتخصصين كل بحسب مجال تخصصه مقدمات للأدلة في الخطابة ؛ خصوصاً بعد الاطمئنان بصحة صدورها عنهم , بل وجودها في مادة الخطاب ضروري ولا يمكن للخطيب الاستغناء عنها .
نعم هناك من القضايا التي ليست من المقبولات في عرف المناطقة , لكنها مقبولة ومؤثرة في عامة الجمهور ويستخدمها الخطباء كمقدمات أو أدلة في خطابتهم , وهي نوعان :
الأول : الأحلام والمنامات
فإن أغلب أفراد الجمهور يمكن إقناعهم بسهولة بقضية أو مبدأ ما , والاستشهاد على صحة تلك القضية برؤيا رآها شخص ما في المنام . وبتعبير أوضح : أن يجعل الخطيب دليله على إثبات قضية ما , أو دحضها اعتماداً على رؤيا رآها شخص .
والسبب في ذلك : إن أغلب أفراد الجمهور يرون العصمة للأحلام وأهلها , خصوصاً إذا كان صاحب الرؤيا من المتدينين , فالأحلام عندهم لا تحتمل الخطأ أو الاشتباه . والحاصل : إن بعض الجمهور بل أغلبه تحصل لديه قناعة بقضية ما وإن كان الدليل عليها رؤيا في المنام .
والملاحظ أن هناك شريحة كبيرة من الخطباء تستخدم مثل هذه القضايا ـ الأحلام ـ مستنداً ودليلاً في إقناع جمهورهم . واستعمال الأحلام والرؤى دليلاً أو مقدمة لدليل في الخطابة لا بأس به إن لم يكن القصد منها إثبات حكم شرعي , أو قضية عقائدية , أو بيان منزلة شخصية معينة , أمّا إذا كان الغرض إثبات أثر وضعي لذنب معين مثلاً , أو إثبات ثواب لعمل صالح فلا بأس أن يكون الدليل حلماً أو تكون الرؤيا مقدمة لدليل .
إلا إن أخذ الأحلام والمنامات مبادئ للحجج الخطابية لا يخلو من خطورة ؛ وتكمن الخطورة في أنه إشاعة لروح التجهيل بين أبناء المجتمع , وتكريساً للسطحية في التفكير , وإبعاداً لهم عن المنطقية في التفكير .
والخطيب ليس بمطالب بتثقيف الجمهور بالثقافة الدينية , وتعليمهم قيم الإسلام ومبادئه فحسب , بل هو مطالب بتوعية الجمهور توعية حقيقية بما في ذلك تطوير مستوى تفكيرهم وكيفيته , ونوعية الوسائل التي يفكرون بها ؛ فالخطابة وظيفة الأنبياء , يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في خطبة له يعدد وظائف الأنبياء (عليهم السّلام) :
(( وَاصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ ـ آدم ـ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ , وَعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ . . . فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ , وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ , وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ , وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ , وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ , وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ . . . )) (17)
إن استخدام الأحلام كأدلة في الخطابة أو مقدمات للأدلة يُعد بحق تنويماً للعقول لا إثارة لدفائنها . ومن جهة اُخرى فإن إشاعة أجواء التصديق بالأحلام والاعتماد عليها بين الناس , يفسح المجال لبعض المستغلين للسذج والبسطاء من الناس لترويج عقائدهم الفاسدة عن هذا الطريق ؛ وكمثال على ذلك اعتماد بعض الجماعات المدّعية للمهدوية في إقناع أتباعها على الرؤى والأحلام , وعندما ناقشهم بعض المتنورين : أن لا عبرة بالأحلام شرعاً , أجابوا : إن كان الأمر كما تقول فلماذا يتحدّث الخطيب الفلاني ( أحد الخطباء المشهورين ) على المنابر بالأحلام ؟ أفهل ذلك حلال عليكم وحرام علينا ؟ فلم يجد الرجل ما يجيبهم به .
الثاني : المعجزات والكرامات
وهي على قسمين : قسم ينسب لقادة الدين كالأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السّلام) , والعلماء , وقسم يدّعيها اُناس عاديّون يزعمون أن لهم نحواً من الارتباط بالأئمة أو بالقرآن , فهم يدَّعون أنهم حصلوا على الكرامة بواسطة القرآن أو أحد الأئمة (عليهم السّلام) .
وهناك نسبة كبيرة من الجمهور يؤمنون بهذه القضايا ويصدقون بها , ولا نريد أن ننفي وجود المعجزات والكرامات للأنبياء والأئمة والصالحين من عباد الله , لكن ما يجب أن يلتفت إليه الخطيب عند نقل هذه المعجزات والكرامات للأنبياء والأئمة (عليهم السّلام) أن تكون مما وردت في الكتب المعتبرة , والتي يوثق بنقل أصحابها .
كما يجب أن تتناسب وعقول الناس في هذا الزمان , وعليه أن يتجنب ما لا يقبل التصديق , فهو غير مجبر على ذكرها , وإذا أراد أن يذكر فضائل لأحد المعصومين (عليهم السّلام) مثلاً فيمكنه أن يأتي بمئات الفضائل غير المعجزات والكرامات غير الثابتة قطعاً , أو التي لم تروَ في الكتب المعتبرة .
أما إن كانت تلك الكرامات منسوبة لاُناسٍ عاديّين يزعمون أنهم حصلوا عليها بواسطة الأئمة (عليهم السّلام) أو القرآن , فلا نرى موجباً لذكرها على منابر المسلمين ؛ لأنه ترويج مجاني لبضاعة لا ندري أهي صادقة أم كاذبة , بل قد تكون بضاعة لبعض المشعوذين .
2 ـ المظنونات
هذا النوع من القضايا يمكن استخدامه في الخطابة السياسية , ومن قِبل مَن لا حريجة له في الدين , وإلاّ فإن المتدين يمنعه دينُه من ترتيب نتائج على قضايا ظنّية , فهو نوع من الخداع للجمهور ؛ فمثلاً قول الخطيب : فلان يجالس أعداءنا فهو يذكرنا بسوء , قد يكون خلافاً للواقع , وبالتالي يستلزم ظلماً لذلك الشخص أو الجماعة , وإقناع الجمهور بهذا النوع من القضايا استغلال لبساطتهم , وبالتأكيد لا يسمح الإسلام بذلك .
ومذهب آل البيت (عليهم السّلام) وأتباعهم هم من أكثر الجماعات اكتواءً بنيران أمثال هذه الحجج الخطابية التي يسوقها بعض الخطباء من خصومهم ؛ حيث يقنعون جمهورهم بفساد عقيدة الشيعة بقضايا ظنّية , ويرتبون عليها نتائج فاسدة , كقول بعضهم : إن الشيعة لا يبنون بناءً بعشرة أعمدة , ولا يتلفّظون بكلمة عشرة , بل يقولون تسعة وواحد , كل ذلك بغض للعشرة المبشرة !
أو دعوى بعضهم : إن التشيُّع اخترعه عبد الله بن سبأ , أو أنّ أصلهم من الفرس , أو قولهم : إنّ كل من يخرج على الخليفة فهو طالب للملك , والحسين خرج على يزيد فهو طالب للملك ! فيقنعون جمهورهم بمثل هذه القضايا الظنّية .
والحاصل : جعل القضايا الظنية مبادئ للقياس الخطابي قد يكون في أغلب الحالات من المحرمات الشرعية ؛ فإنّ بعض الظن إثم , ورمي للأبرياء بالبهتان كما يحصل معنا معاشر أتباع آل البيت (عليهم السّلام) . وقول المناطقة بأنه يجب أن يكون القياس الخطابي مؤلّفاً من قضايا ظنية , ليس بحجة علينا ؛ فهم ليسوا بأنبياء أو معصومين حتى تجب طاعتهم , وكيف يمكن طاعتهم إذا كان ذلك مخالفاً لشرع الله الحنيف ؟
3 ـ المشهورات
أما أخذ المشهورات كمقدمات للقياس الخطابي ؛ فإن كانت من المشهورات الحقيقية ، أي اليقينيات والـتأديبات الصلاحية والخلقيات والعاديات , فلا إشكال في إمكانية أخذها كمقدمات للأدلة الخطابية , بل هي أرقى ما يمكن الاعتماد عليه , لكن المناطقة لا يقصدونها ؛ لأنها تنتج دليلاً علمياً كما مر .
وتبقى المشهورات الظاهرية التي ليس لها واقع سوى شهرتها بين الناس , أي أنها ذات طابع إعلامي اشتهاري وحسب , فمن الخطورة بمكان استخدامها كمقدمات في الأدلة الخطابية ؛ لأنها تؤدي إلى تزييف وعي الجمهور وتسطيح فكره وتضييع الحقيقة عليه . وإليك عزيزي القارئ نموذجاً من خطبة اعتمد قائلها على المشهورات الظاهرية ذات الطابع الإعلامي المشهور في إقناع جمهوره , لكن جهوده باءت بالفشل لوعي أحد الحضور .
خطب معاوية يوماً في وفد زاره من أهل العراق بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال : مرحباً بكم يا أهل العراق , قدمتم على إمامكم وهو جُنَّة لكم ؛ يعطيكم مسألتكم , ولا يعظم في عينه كبيراً , ولا يحقر لكم صغيراً . وقدمتم على أرض المحشر والمنشر , والأرض المقدسة , وأرض هجرة الأنبياء . ثم قال : ولو أن أبا سفيان أولد الناس كلهم لكانوا أكياس(18) .
فلاحظ أنه أراد أن يستدل على شرف أرض الشام وسموها , فاستخدم عبارات برّاقة إعلامية تهويليّة لإبراز الصورة التي يريد رسمها في مخيلة السامع عن أرض الشام وأهلها .
وعندما فرغ من خطبته , قال : قم فاخطب يا صعصعة (19). فقام صعصعة , وكان رجلاً واعياً لا تنطلي عليه مثل هذه الخدع , ولا تبهره العبارات البراقة , فحمد الله وأثنى عليه , وصلّى على النبي (صلّى الله عليه وآله) , ثم قال : إن معاوية ذكر إنّا قدمنا على إمامنا وهو جُنَّة لنا , فما يكون حالنا إذا انخرقت الجُنَّة ؟
وذكر إنّا قدمنا إلى أرض المحشر والمنشر , والأرض المقدسة , وأرض هجرة الأنبياء , فالمحشر والمنشر لا يضر بعدهما مؤمناً , ولا ينفع قربهما كافراً , والأرض لا تقدِّس أحداً , وإنما يقدِّس العباد أعمالهم , ولقد وطأها من الفراعنة أكثر مما وطئها من الأنبياء .
وذكر أن أبا سفيان لو أولد الناس كلهم لكانوا أكياسا , فقد ولدهم من هو خير من أبي سفيان ؛ آدم صلوات الله عليه , فولد الكيِّس والأحمق , والعالم والجاهل (20).
وهكذا رأيت ـ عزيزي القارئ ـ أن الأدلة الخطابية التي تبنى من المشهورات الظاهرية أوهن من بيت العنكبوت , تتهاوى بأدنى ريح من الوعي والبصيرة ؛ لذا هي غير جديرة بالاعتماد عليها , خصوصاً في الخطابة الدينية التي يراد بها توجيه الجمهور وتنوير عقولهم .
ومحصَّل الكلام : يجب أن تكون مواد القضايا في الدليل الخطابي من المشهورات الحقيقية , ومن المتواترات والمقبولات عدا الأحلام والكرامات المُبالغ فيها , وتلك التي ليست للمعصومين (عليهم السّلام) , أما المظنونات والمشهورات الظاهرية فمن الواجب تجنبها خصوصاً في الخطابة الحسينية ؛ صوناً لها مما لا يليق بها ولا بالخطيب الحسيني , فهي كثيراً ما تكون نتائجها ظنّية أو اشتهارية إعلامية , وفي ذلك تضييع للحقيقة على السامع , وتزييف لوعيه وفكره .
ومن جهة اُخرى فإن الكثير من أبناء المجتمع الآن من المتعلّمين والواعين والذين لهم قدرة على فهم الكلام وتمييز سليمه من سقيمه , ولهؤلاء الحق في أن يكون الجزء الأكبر من الخطاب الديني موجهاً إليهم .
والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين
__________________
(1) عرفها الشيخ نصير الدين الطوسي بأنها : صناعة علمية يمكن معها إقناع الجمهور فيما يراد أن يصدقوا به . تجريد المنطق / 69 .
واختار التعريف نفسه الشيخ المظفر في المنطق ، وعرّفها الدكتور عبدالجليل شلبي بأنها فن مخاطبة الجماهير بطريقة إلقائية تشتمل على الإقناع والاستمالة .انظر : فن الإلقاء ـ د : خالد توكال / 14 .
(2) انظر : فن الخطابة ـ د : أحمد الحوفي / 120 .
(3) المنطق ـ الشيخ محمد رضا المظفر 2 / 187 .
(4) شرح الورقات في أصول الفقه ـ محمد حسن الدوو ( موقع إسلام ويب )
(5) تجريد المنطق ـ الخواجة نصير الدين الطوسي / 70 .
(6) المنطق ـ الشيخ المظفر 3 / 337 .
(*) وتسمى أيضا مبادئ الأقيسة ( جمع قياس ) , وتسمى مقدمات الدليل أو الأدلة .
(7) مثل : زيد ضُرب بالسيف فهو مجروح ، وكل مجروح يتألم ، إذاً زيد يتألم . فقضيتا ( زيد مجروح ) و ( كل مجروح يتألم ) تسمى مقدمات الدليل .
(8) انظر : المنطق ـ الشيخ المظفر 3 / 259 .
(9) م : ن 3 / 261 .
(10) م : ن 3 / 264 .
(11) العقل والجهل في الكتاب والسنة ـ محمد الري شهري / 81 .
(12) المنطق ـ الشيخ المظفر 3 / 266 .
(13) م : ن 3 / 269 .
(14) حول البيان والخطابة ـ محمد باقر شريعتي / 173 ( فارسي ) .
(15) يمكن مراجعة كتاب المنطق للشيخ محمد رضا المظفر للإطلاع عليها .
(16) كتبت في أحد البحوث حول الخطابة والخطيب : إن الخطيب يجب أن يقرأ بحث مواد القضايا في منطق الشيخ المظفر مرتين على الأقل ، ثم عرضت ما كتبت على استاذي سماحة السيد محمد صادق الخرسان ( أحد اساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف ) , فعلّق على العبارة بقلمه الشريف : بل لا بدّ من الحضور عند استاذ لتحصيل العلم بها .
(17) نهج البلاغة : الخطبة 1 .
(18) شرح الأخبار ـ القاضي نعمان المغربي 1 / 171 .
(19) صعصعة بن صوحان العبدي أحد كبار صحابة أمير المؤمنين (عليه السّلام) , ومن مشاهير خطباء العرب.
(20) شرح الأخبار ـ القاضي نعمان 1 / 171 .