من مزايا الإمام الحسين ( عليه السلام ) الجود والسخاء ، فقد كان الملاذ للفقراء والمحرومين ، والملجأ لمن جارت عليه الأيام ، وكان يُثلِج قلوب الوافدين إليه بِهِبَاتِه وعَطَايَاه .
يقول كمال الدين بن طلحة :
وقد اشتهر النقل عنه أنه ( عليه السلام ) كان يكرم الضيف ، ويمنح الطالب ، ويصل الرحم ، ويسعف السائل ، ويكسوا العاري ، ويشبع الجائع ، ويعطي الغارم ، ويشد من الضعيف ، ويشفق على اليتيم ، ويغني ذا الحاجة ، وقَلَّ أن وَصَلَه مَال إلا فَرَّقَه ، وهذه سَجيَّة الجواد ، وشِنشِنَه الكريم ، وسِمَة ذي السماحة ، وصفة من قد حوى مكارم الأخلاق ، فأفعاله المَتلُوَّة شاهدة له بِصُنعِه الكرم ، ناطقةً بأنه متصف بمَحاسِن الشيَم .
ويقول المؤرخون :
كان ( عليه السلام ) يحمل في دُجَى الليل السهم الجراب ، يملؤه طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين ، حتى أَثَّر ذلك في ظَهرِه ، وكان يُحمَل إليه المتاع الكثير فلا يقوم حتى يَهبُ عَامَّتَه .
وقد عرف معاوية فيه هذه الظاهرة فأرسل إليه ( عليه السلام ) بهدايا وألطاف كما أرسل إلى غيره من شخصيات المدينة ، وأخذ يحدث جلساءه بما يفعله كل واحد منهم بتلك الألطاف فقال في الحسين ( عليه السلام ) : أما الحسين ، فيبدأ بأيتام من قُتِل مع أبيه بِصِفِّين ، فإن بقي شيء نَحرَ به الجزُور ، وسقى به اللبن .
وعلى أي حال فقد نقل المؤرخون بوادر كثيرة من جود الإمام ( عليه السلام ) وسخائه ، ونذكر بعضها :
أولها : مع أسامة بن زيد :
مرض أسامة بن زيد مرضه الذي توفي فيه ، فدخل عليه الإمام ( عليه السلام ) عائداً ، فلما استقر به المجلس قال أسامة : واغَمَّاه .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( مَا غَمّك ) ؟
فقال أسامة : دَيْني ، وهو ستّون ألفاً .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( هُوَ عَلَيَّ ) .
فقال أسامة : أخشى أن أموت قبل أن يُقضى .
فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : ( لَن تَموتَ حَتى أَقضِيهَا عَنك ) .
فبادر الإمام ( عليه السلام ) فقضاها عنه قبل موته ، وقد غضَّ طرفه عن أسامة فقد كان من المُتخلِّفين عن بيعة أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فلم يجازيه ( عليه السلام ) بالمِثل ، وإنما أغدق عليه بالإحسان .
ثانيها : مع جارية له ( عليه السلام ) :
روى أنس قال : كنت عند الحسين ( عليه السلام ) فدخلت عليه جارية بيدها طاقة رَيحانة فَحَيَّتهُ بها ، فقال ( عليه السلام ) لها : ( أنتِ حُرَّة لِوجه الله تعالى ) .
فَبُهِر أنس وانصرف وهو يقول : جَاريةٌ تجيئُكَ بِطَاقَة رَيحانٍ فَتَعتِقها ؟!!
فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : ( كَذا أدَّبَنا اللهُ ، قال تبارك وتعالى : ( وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) وكان أحسَنَ منها عِتقُهَا ) .
وبهذا السخاء والخلق الرفيع مَلَك ( عليه السلام ) قلوب المسلمين ، وهَاموا بِحُبِّه وَوِلائِه ( عليه السلام ) .
ثالثها : مع غارم :
كان الإمام الحسين ( عليه السلام ) جالساً في مسجد جَده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وذلك بعد وفاة أخيه الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وكان عبد الله بن الزبير جالساً في ناحية منه ، كما كان عتبة بن أبي سفيان جالساً في ناحية أخرى منه .
فجاء أعرابي غارم على نَاقة فَعَقَلها ودخل المسجد ، فوقف على عتبة بن أبي سفيان ، فَسلَّمَ عليه ، فَردَّ عليه السلام ، فقال له الأعرابي : إني قَتلتُ ابن عَمٍّ لي ، وطُولِبتُ بالديَّة ، فهل لَكَ أن تعطيَني شيئاً ؟ .
فرفع عُتبة إليه رأسه وقال لغلامه : ادفع إليه مِائة درهم .
فقال له الأعرابي : ما أريدُ إلا الديَّة تامة .
فلم يَعنَ به عتبة ، فانصرف الأعرابي آيساً منه .
فالتقى بابن الزبير فَعرض عليه قصته ، فأمر له بمِائتي درهم ، فَردَّها عليه .
وأقبل نحو الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فرفع إليه حاجته .
فأمر ( عليه السلام ) له بعشرة آلاف درهم ، وقال له : ( هَذهِ لِقضاء ديونَك ) .
وأمر ( عليه السلام ) له بعشرة آلاف درهم أخرى وقال له : ( هَذه تَلُم بها شَعثَك ، وَتُحسِّن بها حَالك ، وتنفقُ بها على عِيَالِك ) .
فاستولت على الأعرابي موجاتٌ من السرور واندفع يقول :
طَربتُ وما هَاج لي معبقُ | وَلا لِي مقَامٌ ولا معشَقُ | |
وَلكِنْ طَربتُ لآلِ الرَّسولِ | فَلَذَّ لِيَ الشِّعرُ وَالمَنطِقُ | |
هُمُ الأكرَمون الأنجَبُون | نُجومُ السَّماءِ بِهِم تُشرِقُ | |
سَبقتَ الأنامَ إلى المَكرُمَاتِ | وَأنتَ الجَوادُ فَلا تُلحَقُ | |
أبوكَ الَّذي سَادَ بِالمَكرُمَاتِ | فَقصَّرَ عَن سِبقِه السُّبَّقُ | |
بِه فَتحَ اللهُ بَابَ الرَّشاد | وَبابُ الفَسادِ بِكُم مُغلَقُ |
رابعها : مع أعرابي :
قصد الإمامَ ( عليه السلام ) أعرابيٌّ فَسلَّم عليه ، وسأله حاجته وقال : سمعتُ جدَّك ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( إِذا سَألتُم حَاجَة فَاسْألوُها مِن أربعة : إِمَّا عَربيّ شريف ، أَو مَولىً كَريم ، أوْ حَامِلُ القُرآن ، أو صَاحِبُ وَجه صَبيحٍ ) .
فَأما العَربُ فَشُرِّفَت بِجَدك ( صلى الله عليه وآله ) ، وأما الكرمُ فَدَأبُكم وَسيرتكم ، وأما القرآن فَفِي بيوتِكُم نَزَل .
وأما الوجه الصبِيح فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( إِذا أردتُم أنْ تَنظُروا إِليَّ فَانظُروا إِلى الحَسَنِ وَالحُسَين ) .
فقال له الحسين ( عليه السلام ) : ( ما حاجتك ) ؟
فَكتبها الأعرابي على الأرض ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : ( سَمِعتُ أبي عَلياً ( عليه السلام ) يَقول : ( المَعرُوفُ بِقَدر المعرفة .
فأسألُكَ عَن ثلاث مَسائلٍ ، إِن أجبتَ عن واحدةٍ فَلَكَ ثُلث ما عِندي ، وإِن أجبتَ عَن اثنين فَلَك ثُلثَا مَا عِندي ، وإِن أجبتَ عَن الثَّلاث فَلَكَ كُل مَا عِندي ، وَقَد حُمِلَت إِليَّ صرَّة من العِراق ) .
فقال الأعرابي : سَلْ ولا حول ولا قوة إلا بالله .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( أيّ الأعمالِ أفضلُ ) ؟
فقال الأعرابي : الإيمان بالله .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( ما نَجَاةُ العَبدِ مِن الهَلَكة ) ؟
فقال الأعرابي : الثقة بالله .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( مَا يزينُ المَرء ) ؟
فقال الأعرابي : عِلمٌ معهُ حِلمٌ .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( فإن أَخطأه ذَلك ) ؟
فقال الأعرابي : مَالٌ معهُ كَرمٌ .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( فإِن أَخطأه ذلك ) .
فقال الأعرابي : فَقرٌ معهُ صَبرٌ .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( فإن أَخطأه ذلك ) .
فقال الأعرابي : صَاعقةٌ تنزل من السماء فَتُحرقه .
فضحك الإمام ( عليه السلام ) ورمى إليه بِالصرَّة .