شغلت هذه المسألة المهمة التفكير الإسلامي والباحثين الإسلاميين ، من مفسرين ومتكلمين وفلاسفة ، وأمثالهم من رجال العلم والمعرفة ، وكان نتيجة ذلك أن نشأت نظريات ومذاهب لتفسير السلوك الإنساني ، والإجابة على سؤالٍ هو : هل الإنسان مُخيَّر في عمله للخير والشر ، والطاعة والمعصية ، أم هو مُجبَر على ذلك ؟
نحاول في السطور القادمة إيضاح مفهومَي الجبر والاختيار وتفسيرهما ، وذلك لنعرف : هل الإنسان مجبر على الوقوع في الضلال ؟ ، أو سلوك سبيل الهداية ؟ ، أم هو مُخيَّر ؟ وكيف يتم تفسير الاختيار ؟ أم أن الأمر مفوَّض إليه ؟ ، وليس لله القدرة على منعه عن فعل الشر ؟ ، أو إجباره على فعل الخير ؟
لقد تشتت الآراء ، وكثرت النظريات والتفاسير المطروحة لتوضيح وبيان هذه القضية الخطيرة ، فنشأت ثلاثة آراء أساسية لتفسير السلوك والفعل الإنساني ، نذكرها بشيء من التفصيل :
الرأي الأول
الجَبر : ويفسِّر هذا الاتجاه السلوكَ الإنساني تفسيراً جبرياً ، ويرى أن الإنسان مُجبر على فعله ، فإنه لا يملك الإرادة ، ولا يستطيع أن يرفض أي فعل ، فهو عبارة عن المحل الذي تجري فيه مشيئة الله وإرادته ، كما يجري الماء في النهر وهو لا يملك الرفض أو القبول الذاتي .
فالإنسان حينما يفعل الخير ويسلك سبيل الهدى ، أو يفعل الشر ويسلك سبيل الضلالة ، إنما يَجِدُ نفسه مجبراً على ذلك ، فلا يستطيع الرفض أو القبول كما يشاء .
الرأي الثاني
التفويض : ويرى القائل بهذا الرأي أن السلوك الإنساني مفوَّض للإنسان نفسه ، وهو وحده يستطيع أن يقرر ما يشاء ، وليس لله القدرة على منعه ، أو إرغامه على فعل شيء .
النقد على كِلاَ الرأيين
والملاحظ على هذين الرأيين أنهما رأيان عاجزان عن التفسير العقائدي السليم ، وغير متطابقين مع المفهوم التوحيدي الأصيل .
فأما الرأي القائل بجَبْر الإنسان على أفعاله ، فإنه يتعارض ويتناقض مع عدل الله سبحانه ، وأما الرأي القائل بتفويض الأفعال للإنسان ، يتعارض ويتناقض مع الإيمان بقدرة الله سبحانه ، وَهَيْمَنَتِهِ على خلقه .
فكلا الرأيين قد وقعا في الخطأ والابتعاد عن الفهم التوحيدي الخالص ، فالله سبحانه مُنزَّه عن الفحشاء ، ومنزَّه عن القبيح ، ولا يمكن أن يصادر إرادة الإنسان ، ثم يحاسبه ويعاقبه .
كما أنه هو المالك وهو على كل شيء قدير ، فلا يجري شيء في الوجود وهو خارج عن قدرته وعلمه ومشيئته ، ومن مشيئته أن يضل النفس المختاره للضلال ، ويهلكها باختيارها ، وأن يعين الإنسان الراغب في الهُدى ، ويزيده هُدىً ، فهو سبحانه وتعالى منزَّه عن الفحشاء ، والفعل القبيح ، والظلم ، ولا يمكن أن يجري في ملكه الا ما يشاء ، وقد شاء أن يعطي الإنسان الاختيار ، ويحمله مسؤولية اختياره هذا .
الرأي الثالث والصحيح
الأمرُ بَين الأمرين : والقائل بهذا الرأي الذي تدعو إليه مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) يؤمن بأنه ليس هناك جَبْر ولا تَفويض ، وتُفسَّر سلوكُ الإنسان وأفعاله في القرآن والسُّنة الشريفة تفسيراً دقيقاً .
فالذي يستقرئ القرآن الكريم ، والسُّنة النبوية المطهَّرة ، ويستوعب المفاهيم والأفكار التوحيدية ، ويعرف صفات الله ، وما يصح أن يوصف به ، وما لا يصح أن يُنسب إليه ، عندئذٍ يستكشف من خلال ذلك علاقة الخلق بخالق الوجود ، وآثار الله في خلقه ، كما يستطيع أن يُشخِّص العلاقة بين إرادة الله وإرادة الإنسان ، ومعنى القدرة على الاختيار .
وهذا الاتجاه هو الاتجاه الذي أَثبتَهُ أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) وبيَّنوه ووضَّحوه للأمَّة ، فقد ذكر الإمام الرضا ( عليه السلام ) الجَبر والتفويض ، فقال : ( ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا يختلفون فيه ، ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه ) ؟ قلنا : إن رأيت ذلك .
فقال ( عليه السلام ) : ( إن الله تعالى لم يُطَع بإكراه ، ولم يُعصَ بِغَلَبَة ، ولم يُهمِل العبادَ في مُلكه ، هو المالك لما مَلَّكَهُم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتَمَر العباد بطاعته ، لم يكن الله عنها صادراً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصية ، فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يَحُل ففعلوا ، فليس هو الذي أدخلهم فيه ) .
ثم قال ( عليه السلام ) : ( من يضبط حدود هذا الكلام ، فقد خصم من خالفه ) .
وفي إيضاحات وأقوال أخرى للإمام الرضا ( عليه السلام ) نقرأ التفسير والإيضاح الكافي للمعاني الغامضة في نصوص القرآن الحكيم التي تعرَّضت لمثل هذا الموضوع ، فقد فسَّر الإمام ( عليه السلام ) آيتين تعرَّضَتَا لموضوع الجَبر والاختيار بِصِيَغٍ وعبارات أخرى ، فاستقصَى غوامضها .
فحينما سُئل ( عليه السلام ) عن معنى قوله تعالى : ( وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) البقرة : ۱۷ ، فقال ( عليه السلام ) : ( إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُوصف بالترك كَما يُوصِّفُ خلقَه ، ولكنَّه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال ، مَنَعَهُم المعاوَنة واللُّطف ، وخَلَّى بينهم وبين اختيارهم ) .
وسُئل ( عليه السلام ) عن معنى قوله تعالى : ( خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) البقرة : ۷ ، فقال ( عليه السلام ) : ( الخَتْم ) هو : الطبع على قلوب الكفَّار عقوبة على كفرهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : ( بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكِفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) النساء : ۱۵۵ .
وورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( لا جَبْرَ ولا تَفويض وَلكنْ مَنزِلةً بينهما ) ، وهكذا يَتَّضح موضوع الجبر والاختيار ، والهدى والضلال ، من خلال عرض القرآن والسُّنة المطهَّرة لهذه المفاهيم العقائدية الخطيرة ، وقد شرح لنا أحد العلماء مفهوم الجبر والاختيار وعلاقة الإرادة الإنسانية بإرادة الله سبحانه .
فمثَّل هذه العلاقة باليد المشلولة التي تفترض حركتها عند مرور التيار الكهربائي بها من قبل أحد الأطباء المعالجين ، ولنفترض أن هذا الطبيب قام بتوجيه التيار الكهربائي إلى يد المريض المشلولة ، وسرى فيها التيار ، واستطاع المريض أن يحركها بفعل التيار الذي سرى فيها ، والطبيب لم يزل يواصل العملية والإمداد بالتيار الكهربائي .
ولنفترض أن المريض قد استطاع أن يحرك يده باختياره ويضرب بها أحد الحاضرين ، فهل يتحمَّل الطبيب المسؤولية وهو لا يزال يمدُّه بالتيار الكهربائي ، والذي يمكِّنُه من تحريك اليد المشلولة ؟ أم أنّ الطبيب بريء من هذا الفعل ، ويتحمَّله المريض نفسه ؟
لا شك أن المريض هو الذي يتحمل المسؤولية ، وإن كان هو بغير الطبيب مشلولاً ، لا يستطيع الحركة ولا الفعل ، إلا أن الطبيب لم يفرض عليه الفعل ، ولم يختره له ، بل المريض هو الذي اختار الفعل .
وهكذا الأمر بالنسبة لعلاقة إرادة الإنسان بإرادة الله سبحانه ، فليس للإنسان إرادة مواجهة لإرادة الله تبارك وتعالى ، ولاقادرة على التمرُّد عليها ، ولا مستقلة كل الاستقلال عنها ، بل أُعطِيَت هذه القدرة من قِبَل الله سبحانه.
فالإنسان وإن كان يتحرك بقدرة الله ، إلا أنه هو الذي اختار الفعل ، كما اختار المريض – في المثال – الفعل ، مع العلم أنه يتحرك بتمكين الطبيب الذي أَمَدَّهُ بالقدرة على التحرك وإيقاع الفعل ، وهكذا يتُمُّ تفسير أفعال وسلوك الإنسان على أساس واضح وسليم .