تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ
  • عنوان المقال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ
  • الکاتب: الميرزا علي الحائري
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 17:28:33 1-9-1403

تأويل قوله تعالى { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }

أقول ولا قوة إلا بالله : هذه الآية في أواخر سورة المائدة, والظاهر أن سؤاله إنما هو بالنسبة إلى الفقرة الثانية أي قوله { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } من حيث أن ( ما ) موصول وفي نفسك ظرف غير المظروف بالبداهة , فإن كان المراد من تلك النفس ذات الله القديمة يلزم أن يكون ظرفاً, والمظروف إن كان قديماً تعدد القدماء , وإن كان حادثاً صار القديم محلا للحوادث , وكلاهما باطلان وأيضا الظرف والمظروفية من صفات الحدوث والقديم أجل من ذلك وتعالى شأنه.

وأما الفقرة الأولى أي قوله { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } فليس لأحد فيه إشكال ولا هي محل سؤال ولا يستريب فيه أحد , إذ ما في نفس عيسى مخلوق كنفس عيسى, ولا يستشكل ذو مسكة في إحاطة علمه تعالى بمخلوقه , وأنه لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء , كما هو صريح الآية وصريح آية { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ }[۲] وآية { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(۱۳) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }[۳] على كلا الاحتمالين ، من كون الموصول , وهو لفظ (من ) فاعلاً ليعلم أو مفعولاً له والعائد محذوف أي من خلقه , فيكون ما في النفس وما في الصدور مخلوقاً له تعالى , وإلا ما تم التعليل بقوله { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } وكان منفصلاً عما قبله, بل كان لغواً وغير صحيح .

وهذا ظاهر لا غبار عليه وإن وقع الخلاف بين الحكماء في أن عمله بالأشياء ذاتي أو إشراقي أو غير ذلك .

والحق أن علمه إشراقي كما حقق في محله وليس المقام موضع التفصيل فالسؤال إنما هو عن الفقرة الثانية وهي قوله { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } وقد تقدم وجه السؤال و الإشكال , ومجمله أن ما في النفس غير ذات النفس ضرورة , فهل ما في النفس قديم ؟ إذن ليتعدد القدماء , أو حادث ؟ إذن ليكون القديم محلا للحوادث , وبطلانهما واضح , ولا ثالث في البين .

والجواب من أحد وجهين , ظاهر وباطن .

أما الأول فبأن عيسى إنما عبر بقوله { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } من باب التنظير والمشاكلة في التعبير مع قوله { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } المعدود من الاستحسانات البديعية , فهو تعبير قشري ومقابلة في اللفظ فقط من غير قصد للظرف والمظروف , فإنه تعالى أجل وأقدس من أن يكون ظرفاً للأشياء أو تحل فيه المعاني أو يكون له نفس أو روح أو قلب { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }[۴] والمراد أنك محيط بي ولست بمحيط بك , أو تعلم سري وغيبي ولا أعلم سرك وغيبك , أو تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه .

ويشهد بذلك ما رواه في الصافي عن العياشي عن الباقر عليه السلام في تفسيرها :” أن الاسم الأكبر ثلاث وسبعون حرفاً فاحتجب الرب بحرف , فمن ثمة لا يعلم أحد ما في نفسه عز وجل , أعطى آدم اثنين وسبعين حرفاً فتوارثتها الأنبياء حتى صارت إلى عيسى عليه السلام فلذلك قول عيسى { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } يعني اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأكبر, يقول أنت علمتنيها فأنت تعلمها { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } يقول لأنك احتجبت من خلقك بتلك الحرف فلا يعلم أحد ما في نفسك “[۵] .

فكشف هذا الحديث عن معنى تلك الفقرة بأنك تعلم ما أخفيه أنا وهو الاثنان والسبعون حرفاً , وقد أخفاه عن الخلق لا عن الله تعالى , ولا أعلم ما أخفيته أنت من تلك الحرف المحجوب بها , فليس ظرف ومظروف إلا في التعبير والمقابلة لا غير .

واعلم أن كشف النقاب عن إشارات الحديث ورفع الحجاب عن رموزه وكناياته يحتاج إلى بسط وتفصيل ليس هنا محله.

وأما الثاني فهو أن يراد بالنفس النفس المخلوقة التي من عرفها لم يشق أبداً ومن جهلها ضل وغوى .

بيانه أن الله سبحانه لما خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه , وكان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ولا تمثله غوامض الظنون في الأسرار , فخلق محمداً وآله الأطهار عليهم السلام من نوره لصفاء زيتهم ونورانية قابليتهم , وسبق إجابتهم وجعلهم بحال مشيئته والسن إرادته وأقامهم في الأداء مقامه , فصاروا بذلك مظاهر أفعاله ومصادر آثاره ومجالي صفاته الفعلية , لقربهم إليه وتلاشي إنياتهم في جنبه واندكاك جبلتهم دونه , بحيث لم يبق لهم مشيئة وإرادة لذواتهم إلا مشيئته وإرادته ولا ميلان لطبعهم وحقيقتهم إلا إلى رضاء ومحبة بارئهم , وذلك لأنهم خلقوا باختيارهم على هيئة مشيئته وصبغوا بلون إرادته, فلا يظهر منهم إلا ما يشاء ولا يصدر منهم إلا ما يحب ولا يفقدهم فيما يحب ولا يجدهم فيما يكره أبدا , فحكوا صفاته وظهرت عنهم أفعاله , فجعل الله معرفتهم معرفته وإطاعتهم إطاعته ومحبتهم محبته وغضبهم غضبه وأسفهم أسفه ورضاهم رضاه وسخطهم سخطه ” من عرفكم فقد عرف الله ومن جهلكم فقد جهل الله ومن أطاعكم فقد أطاع الله ومن عصاكم فقد عصى الله ومن أحبكم فقد أحب الله ومن أبغضكم فقد أبغض الله ومن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله “[۶] فصاروا بذلك وجه الله وآيته ووليه ودليله وصراطه ويده ولسانه وأذنه وعينه وقلبه ونفسه , أي لشدة قربهم إلى بارئهم وكمال إتصالهم به في الأفعال نسبهم إلى نفسه وقال : هم يدي ولساني ووجهي وقلبي وأذني , كما قال الكعبة بيتي {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ }[۷] وعيسى روح الله وكلمة الله[۸] ,

ففي الزيارة السابعة لأمير المؤمنين عليه السلام : ” السلام على وجه الله الذي من آمن به أمن , السلام على نفس الله القائمة فيه بالسنن وعينه التي من عرفها يطمئن , السلام على أذن الله الواعية في الأمم ويده الباسطة بالنعم وجنبه الذي من فرط فيه ندم ” وهم سلام الله عليهم مع ذلك عبيد مخلوقون مربوبون فقراء إلى بارئهم محتاجون كل آن إلى مدده تعالى , لو انقطع المدد عنهم آنا ما لفنوا واضمحلوا , هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم, لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً , والأفعال التي تجري على أيديهم كلها أفعال الله لا أفعالهم , فلا ضير إذا قيل لهم أعين الله وألسنة الله ووجوه الله وأيدي الله , ولا بدع ولا غلو إذا قيل الإمام قلب الله أو نفس الله , كما هو مفاد الأخبار المستفيضة والزيارات الكثيرة , أي قلب مخلوق منسوب إلى الله تعالى لشرافته , ونفس حادثة منسوبة إلى الله لعزتها , وإلا فذات الحق تعالى في عز ذاته منزهة عن هذه النسب وأجل من أن يكون لها قلب أو نفس أو روح أو غير ذلك .

إذا أتقنت ذلك فنقول في الآية الشريفة أنه لا يبعد أن يراد بالنفس في { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } النفس الحادثة المخلوقة , كما مر في الزيارة السابقة , لأن نفسه هي النفس الكلية الإلهية الملكوتية المحيطة التي لا يعلم ما فيها إلا خالقها لا عيسى ولا موسى ولا غيرهما من سائر الخلق عدا محمداً صلى الله عليه وآله , ونفس عيسى جزئية مخلوقة من شعاع تلك النفس الملكوتية, وهي تحتها ومحاطة بها وأثرها, وأنى للأثر والجزئي أن يصل إلى مقام المؤثر ويحيط بما في الكلي . هيهات ثم هيهات !! وإلا انقلب الأثر مؤثرا والشعاع شعلة والجزئي كليا, وهو محال في الحكمة.

وإذا صح أن يراد بالنفس تلك النفس الحادثة المنسوبة إلى الله صار ما في النفس مشاكلاً ومماثلاً لها في الرتبة , أي صار المظروف من سنخ الظرف في الحدوث والإمكان وجرياً على حقيقتها من الظرفية , فلا يتأتى الإشكال المذكور في السؤال من لزوم تعدد القدماء , أو كون القديم محلا للحادث , ولا نحتاج إلى تكلف أن هذا التعبير في هذه الفقرة من باب المشاكلة والمقابلة مع الفقرة الأولى , وأنه لا ظرف ولا مظروف واقعاً , وإنما هما تعبير وتنظير , فافهم وتبصر ولا تُنكر ما لم تحط به خيراً .

__________________
[۱] المائدة ۱۱۶
[۲] آل عمران۲۹
[۳] الملك۱۳-۱۴
[۴] الشورى۱۱
[۵] تفسير الصافي ج۲ ص۱۰۱
[۶] الزيارة الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي عليه الصلاة والسلام
[۷] الحج۲۶
[۸] إشارة إلى قوله تعالى { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }النساء۱۷۱