للشبهة حول المكي والمدني جانبان : جانب يرتبط بالاسلوب القرآني فيها وجانب آخر يرتبط بالمادة والموضوعات التي عرض القرآن لها في هذين القسمين وفي كل من القسمين تصاغ الشبهة على عدة اشكال نذكر مها صياغتين لكل واحد من القسمين.
أ - اسلوب المكي يمتاز بالشدة والعنف والسباب
فقد قالوا : إن اسلوب القسم المكي من القرآن يمتاز عن القسم المدني بطابع الشدة والعنف بل السباب أيضاً. وهذا يدل على تأثر محمد بالبيئة التي كان يعيش فيها لأنها مطبوعة بالغلظة والجهل. ولذا يزول هذا الطابع عن القرآن الكريم عند ما ينتقل محمد الى مجتمع المدينة الذي تأثر فيه - بشكل أو بآخر - بحضارة اهل الكتاب واساليبهم وتستشهد الشبهة بعد ذلك لهذه الملاحظة بالسور والآيات المكية المطبوعة بطابع الوعيد والتهديد والتعنيف أمثال : سورة (المسد) وسورة (العصر) وسورة (التكاثر) وسورة (الفجر) وغير ذلك.
ويمكن أن نناقش هذه الشبهة.
اولاً : بعدم اختصاص القسم المكي من القرآن الكريم بطابع الوعيد والانذار دون القسم المدني بل يشترك المكي والمدني بذلك. كما إن القسم المدني لا يختص ايضاً كما قد يفهم من الشبهة بالاسلوب اللين الهادئ الذي يفيض سماحة وعفواً بل نجد ذلك في المكي والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة.
فمن القسم المدني الذي اتسم بالشدة والعنف قوله تعالى (فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين)(1).
وقوله تعالى : (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)(2) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين. فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)(3)
وقوله تعالى : (إن الذين كفروا لن تغني عنهم اموالهم ولا اولادهم من اللّه شيئاً واولئك هم وقود النار. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم اللّه بذنوبهم واللّه شديد العقاب. قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم وبئس المهاد)(4).
كما نجد في القسم المكي ليناً وسماحة كما جاء في قوله تعالى (ومن احسن قولاً ممن دعا الى اللّه وعمل صالحاً وقال انني من المسلمين. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم)(5).
وقوله تعالى : (فما اوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند اللّه خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون. والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون. والذين اذا اصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا واصلح فأجره على اللّه إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق اولئك لهم عذاب اليم. ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور)(6).
وقوله تعالى : (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم. لا تمدن عينيك الى ما متعنا به ازواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين)(7).
وقوله تعالى : (قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه ان اللّه يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفور الرحيم)(8).
وثانياً : انه ليس في القرآن الكريم سباب وشتم. كيف ؟ وقد نهى القرآن نفسه عن السب والشتم حيث قال تعالى : (ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدواً بغير علم)(9).
وليس في سورة (المسد) أو (التكاثر) سب أو بذاءة - كما يحاول المستشرقون ان يقولوا ذلك - وإنما فيهما تحذير ووعيد بالمصير الذي ينتهي اليه أبو لهب والكافرون باللّه.
نعم، يوجد في القرآن الكريم تقريع وتأنيب عنيف وهو موجود في المدني كما هو في المكي وان كان يكثر وجوده في المكي بالنظر لمراعاة ظروف الإضطهاد والقسوة التي كانت تمر بها الدعوة، الامر الذي اقتضى ان يواجه القرآن ذلك بالعنف والتقريع - احياناً - لتقوية معنويات المسلمين من جانب وتحطيم معنويات المقاومة من جانب آخر كما سوف نشير اليه قريباً.
ومن هذا التقريع في السور المدنية قوله تعالى (ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم ام لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم. ومن الناس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين - الى قوله تعالى - صم بكم عمي فهم لا يعقلون)(10).
وقوله تعالى (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من اللّه ذلك بانهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النبيين بغير الحق. وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)(11) وقوله (بئسما اشتروا به أنفسهم ان يكفروا بما انزل اللّه بغياً أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين)(12).
وقوله تعالى (إن الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب اولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاعنون)(13).
وقوله تعالى : (اذ قال اللّه يا عيسى اني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. فأما الذين كفروا فاعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين)(14).
وقوله تعالى : (قل هل أُنَبِّئُكم بشرّ من ذلك مثوبة عند اللّه من لعنه اللّه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً واضل عن سواء السبيل)(15).
وقوله تعالى : (وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت ايديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان)(16).
ب - اسلوب القسم المكي يمتاز بقصر السور والآيات :
وقالوا ايضاً إن من الملاحظ قصر السور والآيات في القسم المكي على عكس القسم المدني الذي جاء بشيء من التفصيل والاسهاب. فنحن نجد أن السور المكية جاءت قصيرة ومعروضة بشكل موجز في الوقت الذي نجد في القسم المدني سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها من السور الطوال.
وهذا يدل على انقطاع الصلة بين القسم المكي والقسم المدني وتأثرهما بالبيئة التي كان يعيشها محمد (ص) فان مجتمع مكة لما كان مجتمعاً امياً لم يكن بقدرته التبسط في شرح المفاهيم وتفصيلها وانما واتته القدرة على ذلك عند ما اخذ يعيش مجتمع المثقفين المتحضر في يثرب.
وتناقش هذه الشبهة بالامرين التاليين :
الاول : ان القصر والايجاز ليسا مختصين بالقسم المكي بل يوجد في القسم المدني سور قصيرة ايضاً كالنصر والزلزلة والبينة وغيرها. كما ان الطول والتفصيل ليسا مختصين بالقسم المدني بل توجد في المكي أيضاً سور طويلة كالأنعام والأعراف. وقد يقصد من اختصاص المكي بالقصر والايجاز ان هذا الشيء هو الغالب الشائع فيه.
وقد يكون هذا صحيحاً ولكنه لا يدل بوجه من الوجوه على انقطاع الصلة بين القسمين المذكورين من القرآن الكريم لأنه يكفي في تحقيق هذه الصلة ان يأتي القرآن الكريم ببعض السور الطويلة المفصلة في القسم المكي كدليل على القدرة والتمكن من الارتفاع الى مستوى التفصيل في المفاهيم والموضوعات.
بالاضافة الى ان من الملاحظ وجود آيات مكية قد أثبتت في السور المدنية وبالعكس وفي كل من الحالتين نجد التلاحم والانسجام في السورة وكأنها نزلت مرة واحدة الامر الذي يدل بوضوح على وجود الصلة التامة بين القسمين.
الثاني : ان الدراسات اللغوية التي قام بها العلماء المسلمون وغيرهم دلت على ان الايجاز يعتبر مظهراً من مظاهر القدرة الخارقة على التعبير وهو بالتالي من مظاهر الاعجاز القرآني. خصوصاً إذا اخذنا بعين الاعتبار ان القرآن قد تحدى العرب بأن يأتوا بسورة من مثله حيث يكون التحدي بالسورة القصيرة أروع وأبلغ منه حين يكون بسورة مفصلة.
ج - لم يتناول القسم المكي في مادته التشريع والاحكام
وقالوا : إن القسم المكي لم يتناول فيما تناول من موضوعات - جانب التشريع من احكام وأنظمة بينما تناول القسم المدني هذا الجانب من التفصيل. وهذا يعبر عن جانب آخر من التأثر بالبيئة والظروف الاجتماعية حيث لم يكن مجتمع مكة مجتمعاً متحضراً ولم يكن قد انفتح على معارف اهل الكتاب وتشريعاتهم على خلاف مجتمع المدينة الذي تأثر إلى حد بعيد بالثقافة والمعرفة للأديان السماوية كاليهودية والنصرانية.
وتناقش هذه الشبهة بالأمرين التاليين أيضاً :
اولاً : ان القسم المكي لم يهمل جانب التشريع وإنما تناول اصوله العامة وجملة مقاصد الدين كما جاء في قوله تعالى : (قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا اولادكم من املاق نحن نرزقكم واياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه الا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي احسن حتى يبلغ أشده... الآية)(17).
بالاضافة الى اننا نجد في القسم المكي وفي سورة الانعام بالخصوص مناقشة لكثير من تشريعات أهل الكتاب والتزاماتهم وهذا يدل على معرفة القرآن الكريم بهذه التشريعات وغيرها مسبقاً.
وثانياً : إن هذه الظاهرة يمكن ان تطرح في تفسيرها نظرية اخرى تنسجم مع الاساس الموضوعي لوجود الظاهرة القرآنية نفسها. وهذه النظرية هو أن يقال : أن الحديث عن التشريع في مكة كان شيئاً سابقاً لأوانه حيث لم يتسلم الاسلام حينذاك زمام الحكم بعد. بينما الامر في المدينة على العكس. فلم يتناول القسم المكي التشريعلأن ذلك لا يتفق مع المرحلة التي تمر بها الدعوة. وانما تناول الجوانب الاخرى التي تنسجم مع الموقف العام كما سوف نشرح ذلك قريباً.
د - لم يتناول القسم المكي في مادته الادلة والبراهين :
وقالوا : إن القسم المكي لم يتناول أيضاً الادلة والبراهين على العقيدة واصولها على خلاف القسم المدني. وهذا تعبير آخر أيضاً عن تأثر القرآن بالظروف الاجتماعية والبيئة اذ عجزت الظاهرة القرآنية بنظر هؤلاء عن تناول هذا الجانب الذي يدل على عمق النظر في الحقائق الكونية عندما كان يعيش محمد (ص) في مكة مجتمع الاميين بينما ارتفع مستوى القرآن في هذا الجانب عندما اخذ محمد (ص) يعيش الى جانب اهل الكتاب في المدينة وذلك نتيجة لتأثره بهم ولتطور الظاهرة القرآنية نفسها.
وتناقش هذه الشبهة من وجهين :
الاول : ان القسم المكي لم يخل من الادلة والبراهين بل تناولها في كثير من سوره والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة وفي شتى المجالات.
فمن موارد الاستدلال على التوحيد قوله تعالى : (ما اتخذ اللّه من ولد وما كان معه من إله. اذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان اللّه عما يصفون)(18).
وقوله تعالى : (لو كان فيهما آلهة الا اللّه لفسدتا فسبحان اللّه رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ام اتخذوا من دونه آلهة. قل هاتوا برهانكم. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي، بل اكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون)(19).
وبصدد الاستدلال على نبوة محمد (ص) وارتباط ما جاء به من السماء : (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك اذن لارتاب المبطلون. بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم وما يجحد بآياتنا الا الظالمون وقالوا لولا انزل عليه آيات من ربه قل انما الآيات عند اللّه وانما أنا نذير مبين. أوَلم يكفهم انا انزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون)(20).
وبصدد الاستدلال على البعث والجزاء قوله تعالى : (ونزلنا من السماء ماء مباركاً فانبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد واحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج) (أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد)(21).
وقوله تعالى : (افحسبتم انما خلقناكم عبثاً وانكم الينا لا ترجعون)(22)
وقوله تعالى : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ؟ ساء ما يحكمون. وخلق اللّه السموات والارض بالحق لتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)(23).
وهكذا تتناول الادلة جوانب اخرى من العقيدة الاسلامية والمفاهيم العامة :
الثاني : انه لو تنازلنا عن ذلك فمن الممكن تفسير هذا الفرق على اساس مراعاة طبيعة موقف المواجهة من الدعوة حيث كانت تواجه الدعوة في مكة مشركي العرب وعبدة الاصنام. والادلة التي كان يواجه القرآن بها هؤلاء ادلة وجدانية من الممكن ان تستوعبها مداركهم ويقتضيها وضوح بطلان العقيدة الوثنية. وحين اختلفت طبيعة الموقف واصبحت الافكار المواجهة تمتاز بكثير من التعقيد والتزييف والانحراف كما هو الحال في عقائد اهل الكتاب اقتضى الموقف مواجهتها باسلوب آخر من البرهان والدليل اكثر تعقيداً وتفصيلاً(24).
الفروق الحقيقية بين المكي والمدني
ولم نجد في الشبهات التي تناولناها ولا نجد في غيرها ما يمكنه ان يصمد امام النقد العلمي او الدرس الموضوعي ومن كل ذلك يجدر بنا ان نقدم تفسيراً منطقياً لظاهرة الفرق بين القسم المكي والقسم المدني وان كنا قد المحنا الى جانب من هذا التفسير عندما تناولنا الشبهات بالنقد والمناقشة.
ويحسن بنا أن نذكر الفروق الحقيقية التي امتاز بها المكي عن المدني سواء ما يتعلق بالاسلوب او بالموضوع الذي تناوله القرآن. ثم نفسر هذه الفروق على اساس الفكرة التي اشرنا اليها في صدر البحث والتي تقول أن هذه الفروق كانت نتيجة لمراعاة ظروف الدعوة والاهداف التي تسعى الى تحقيقها. لان الهدف والغاية يلقيان - في كثير من الاحيان - بظلهما على طريق العرض والمادة المعروضة.
وتلخص هذه الفروق والخصائص التي يمتاز بها المكي عن المدني غالباً بالامور التالية: (25)
1 - ان المكي عالج بشكل اساسي مبادئ الشرك والوثنية واسسها النفسية والفكرية ومؤداها الاخلاقي والاجتماعي.
2 - وقد اكد على ما في الكون من بدائع الخلقة وعجائب التكوين الامر الذي يشهد بوجود الخالق المدبر لها. كما اكد على عالم الغيب والبعث والجزاء والوحي والنبوات وشرح ما يرتبط بذلك من ادلة وبراهين كما خاطب الوجدان الانساني وما اودعه اللّه فيه من عقل وحكمة وشعور.
3 - والى جانب ذلك تحدث عن الأخلاق بمفاهيمها العامة مع ملاحظة الجانب التطبيقي منها وحذر من الانحراف فيها كالكفر والعصيان والجهل والعدوان وسفك الدماء ووأد البنات واستباحة الاعراض واكل اموال اليتامى.. الى غير ذلك وعرض الى جانب ذلك الوجه الصحيح للاخلاق كالايمان باللّه والطاعة له والعلم والمحبة والرحمة والعفو والصبر والاخلاص واحترام الآخرين وبر الوالدين واكرام الجار ونظافة اللسان والصدق في المعاملة والتوكل على اللّه وغير ذلك.
4 - وقد تحدث عن قصص الانبياء والرسل والمواقف المختلفة التي كانوا يواجهونها من قبل اقوامهم واممهم وما يستنبط من ذلك من العبر والمواعظ.
5 - انه سلك طريق الايقاع الصوتي والايجاز في الخطاب سواء في الآيات او السور ويكاد ان يكون المدني بخلاف ذلك على الغالب وان كان قد امتاز بالامرين التاليين:
1 - دعوة اهل الكتاب الى الاسلام مع مناقشتهم وبيان انحرافهم عن العقيدة والمناهج الحقة التي انزلت على انبيائهم.
2 - بيان التفصيلات في التشريع والنظام ومعالجة مشاكل العلاقات المختلفة في المجتمع الانساني.
التفسير الصحيح للفرق بين المكي والمدني
وحين نريد ان ندرس ظاهرة الفرق بين المكي والمدني من خلال هذه الخصائص والميزات نجد :
اولاً : ان الدعوة الاسلامية بدأت في مكة وعاشت فيها ثلاث عشرة سنة وهذه الفترة منسوبة الى زمن نزول القرآن تعتبر في الحقيقة فترة إرساء أسس العقيدة الاسلامية بجوانبها المختلفة سواء ما يتعلق بالجانب الالهي او الغيبي او الاخلاقي او الاجتماعي وسواء ما يتعلق بالجانب الايجابي كعرض مفاهيمها عن الكون والحياة والاخلاق والمجتمع او ما يتعلق بالجانب السلبي كمناقشة الافكار الكافرة التي كانت تسود المجتمع آنذاك.
وهذه الحقيقة تفرض - بطبيعة الحال - أن يكون القسم المكي اكثر شمولاً واتساعاً من جانب وان يكون مرتبطاً بمادته وموضوعاته بالاسس والركائز للرسالة الجديدة من جانب آخر. وهذا هو الذي يفسر لنا غلبة المكي على المدني من الناحية الكمية مع ان الفترة المدنية تبدو - تاريخياً - وكأنها زاخرة بالأحداث الجسام والمجتمع المدني اكثر تعقيداً ومشاكل. كما أن هذا بنفسه بالاضافة الى الفكرة التي اشرنا اليها وهي مراعاة الظروف التي تسير بها الدعوة يفسر لنا هذه الخصائص والميزات التي غلبت على المكي من جانب والمدني من جانب آخر.
فاما بالنسبة الى الخصيصة الاولى : نلاحظ ان المجتمع المكي كان مجتمعاً يتسم بطابع الوثنية في الجانب العقيدي بالاضافة الى أن ايضاح الموقف تجاهها يشكل نقطة اساسية في القاعدة للرسالة الجديدة لأنها تتنبى التوحيد الخالص كأساس لكل جوانبها وتفصيلاتها الأخرى. فكان من الطبيعي التأكيد على فكرة رفض الشرك والوثنية والدخول في مناقشة طويلة معها بشتى الاساليب والطرق.
وبالنسبة الى الخصيصة الثانية : نلاحظ أن المجتمع المكي لم يكن يؤمن بفكرة الاله الواحد كما لا يؤمن بعوالم الغيب والبعث والجزاء والوحي وغير ذلك وهذه الافكار من القواعد الاساسية للرسالة والعقيدة الاسلامية بالاضافة الى ان مجتمع اهل الكتاب كان يؤمن بهذه الاصول جميعها. فكان من الضروري ان يؤكد القسم المكي على ذلك انسجاماً مع طبيعة المرحلة المكية التي تعتبر مرحلة متقدمة كما ان بيانها في هذه المرحلة يجعل المرحلة الثانية في غنى عن بيانها مرة اخرى.
وبالنسبة الى الخصيصة الثالثة : فلعل التأكيد على الاخلاق في القسم المكي دون المدني كان بسبب العوامل الثلاثة التالية :
أ - ان الأخلاق تعتبر قاعدة النظام الاجتماعي فالتأكيد عليها يعني في الحقيقة ارساء لقاعدة النظام الاجتماعي الذي يستهدفه القرآن.
ب - كما ان الدعوة كانت بحاجة - من اجل نجاحها - الى استثارة العواطف الانسانية الخيرة ليكون نفوذها في المجتمع وتأثيرها في الأفراد عن طريق مخاطبة هذه العواطف والأخلاق هي الاساس الحقيقي لكل هذه العواطف وهي الرصيد الذي يمدها بالحياة والنمو.
ج - ان المجتمع المدني كان يمارس الاخلاق من خلال التطبيق الذي كان يباشره الرسول محمد (ص) بنفسه فلم يكن بحاجة كبيرة الى التأكيد على المفاهيم الأخلاقية على العكس من المجتمع المكي الذي كان يعيش فيه المسلمون حياة الاضطهاد وكان يمارس التطبيق فيه الأخلاق الجاهلية.
وبالنسبة الى الخصيصة الرابعة : نجد القصص تتناول من حيث الموضوع اكثر النواحي التي عالجها القرآن الكريم من العقيدة بالاله الواحد وعالم الغيب والوحي والأخلاق والبعث والجزاء بالاضافة الى انها تصور المراحل المتعددة للدعوة والمواقف المختلفة منها والقوانين الاجتماعية التي تتحكم فيها وفي نتائجها والمصير الذي يواجهه اعداؤها والى جانب ذلك تعتبر القصة في القرآن أحد اسباب الاعجاز فيه وأحد الأدلة على ارتباطه بالسماء.
وكل هذه الأمور لها صلة وثيقة بالظروف التي كانت تمر بها الدعوة في مكة ولها تأثير كبير في تطويرها لصالح الدعوة واهدافها الرئيسية.
ومع كل هذا لم يهمل القسم المدني القصة مطلقة بل تناولها بالشكل الذي ينسجم مع طبيعة المرحلةالتي تمر بها كما سوف نتعرف على ذلك عند دراستنا للقصة.
وبالنسبة الى الخصيصة الخامسة : فقد كان لها ارتباط وثيق بجوانب مرحلية وإعجازية لأن المرحلة كانت تفرض كسر طوق الأفكار الجاهلية الذي كان مضروباً على المجتمع فكان لهذا الاسلوب الصاعق الحاد تأثير فعال في تذليل الصعوبات وتحطيم معنويات المقاومة العنيفة.
وحين يتحدى القرآن الكريم العرب في ان يأتوا بسورة منه يكون الايجاز في السورة ابلغ في ايضاح الاعجاز القرآني واعمق تأثيراً وأبعد مدى.
وقد كانت المعركة الى ذلك كله في اولها معركة شعارات وتوطيد مفاهيم عامة عن الكون والحياة والايجاز والقصر ينسجم مع واقع المعركة واطارها اكثر من الدخول في تفصيلات واسعة ولهذا نشاهد السور القصيرة تمثل المرحلة الأولى تقريباً من مراحل القسم المكي.
وهذه الملاحظات لم تكن تتوفر في مجتمع المدينة بعد ان اصبح الاسلام هو الحاكم المسيطر على المجتمع وبعد أن أصبحت مسألة الوحي والاتصال بالسماء مسألة واضحة وبعد ان جاء دور آخر للمعركة يفرض اسلوباً آخر في العرض والبيان.
ومن هذا الدرس لخصائص ومميزات القسم المكي تتضح مبررات خصائص القسم المدني من الدخول في تفصيلات الأحكام الشرعية والانظمة الاجتماعية او مناقشة اهل الكتاب في عقائدهم وانحرافاتهم. حيث فرضت ظروف الحكم في المدينة. والحاجة الى تنظيم العلاقات بين الناس الى بيان هذه التفصيلات في الأنظمة. كما ان المعركة في المدينة انتقلت من الاصول والاسس العامة للعقيدة الى جوانب تفصيلية منها ترتبط بحدودها واشكالها وبالعمل على تقويم الانحراف الذي وضعه أهل الكتاب فيها.
وبهذا نفسر الفرق بين المكي والمدني بالشكل الذي ينسجم مع فكرتنا عن القرآن وفكرتنا عن مراعاته للظروف من اجل تحقيق اهدافه وغاياته.
_____________________
(1) البقرة : 24.
(2)، (3) البقرة : 275 و278 - 279.
(4) آل عمران : 10-12.
(5) فصلت : 33-35.
(6) الشورى : 36-43.
(7) الحجر : 87-88.
(8) الزمر : 53.
(9) الانعام : 108.
(10) البقرة : 6-18 و61 و90 و171.
(11)، (12)، (13) البقرة 61 و90 و150.
(14) آل عمران : 55 و56.
(15): (16) المائدة : 60 و64.
(17) الانعام : 151 - 152.
(18) المؤمنون : 91.
(19) الانبياء : 22 - 24.
(20) العنكبوت : 48 - 51.
(21) ق : 9-11 و15.
(22) المؤمنون : 115.
(23) الجاثية 21-22.
(24) اعتمدنا بصورة اساسية - في عرض الشبهات ومناقشتها على ما ذكره الزرقاني في مناهل العرفان : 1/199-232.
(25) سبق ان اشرنا الى هذه الميزات وغيرها عند البحث عن المكي والمدني.