مَن كَفَرَ باللهِ مِن بَعدِ إيمانِهِ، إلاّ مَن أُكرِهَ وقَلبُهُ مُطمئنٌّ بالإيمان (1).
مع صدق القلب وصحة المعتقَد في التوحيد.. إذا جَرَت كلمة الكفر على اللسان ـ عند الاضطرار والإكراه ـ فلا ضرر فيها، ولا تكون نقضاً لميثاق الدِّين.
ومن طريق الإشارة: إنّ فِتيان الطريقة المتحقِّقين فعلاً بطلب الحقّ.. يُباح لهم أحياناً ـ بحكم الاضطرار البشري ـ أن يَسْعوا لتحصيل ما يتقوّمون به من مال الدنيا وأن ينظروا إلى الأسباب. ولأنّ سعيهم بمقدار الضرورة فإنّه لا يخدش صحة إرادتهم، ولا يُصيب قصدَهم بالفتور. وهذا السرّ في أنّ الأنبياء المرسلين ـ بما لهم من جلال المنزلة وكمال القربة ـ كانوا ينظرون أحياناً إلى حظوظ النفس(2).
موسى الكليم قد بلغ مقام المُكالَمة والمناجاة، وقد نُوغيَ ـ في مرتبة المؤانسة والانبساط ـ بقوله تعالى: وألقَيتُ عليكَ محبَّةً منّي ولِتُصنَعَ على عَيني (3).
ومع كلّ هذا القُرب وكلّ هذه الزُّلفى.. طلبَ طعاماً: ربِّ، إنّي لِما أنزَلتَ إليَّ مِن خيرٍ فَقيرٌ (4).
أي: إنّي جائع، فأطعِمْني طعاماً.
إنّ موسى لم يَنسَ طلبَه، ذلك أنّ حالته قد بلغت حدّاً بحيث إذا طلب شيئاً فانّه لا يضرّه ولا يُصيب قصدَه بالفتور. ولو أنّ نبيّاً آخر كان في مكانه ـ وليست له هذه القوّة من المُباسَطة والمؤانسة في مقام النبوّة ـ لَتلاشى في بَيْداء كبرياء الحق وعظمته، ولَنسِيَ كلّ حظوظ الدنيا والآخرة، ولَشغَلَته هيبة الحضور عن السؤال.
مِن هنا قول أمير المؤمنين عليّ: (خيار هذه الأمة: الذين لا تشغلهم دنياهم عن آخرتهم، ولا آخرتُهم عن دنياهم). وهذه القوة هي من خصائص الأنبياء.. ذلك أنّ ربّ العزّة قد جعل قلوبهم معدن هذه القوة واختصّهم بها.
ألاَ ترى أنّ المصطفى في بدء أمره كان كلّ شغله بالحق سبحانه، وكلّ سرّ من أسرار قلبه وما في صدره كان مع الحق، وكان أُنسه وقرّة عينه في ذِكر الحق ؟! ومن كمال شوقه ومحبّته للحق ما كان يميل إلى الخلق، ولا يُطيق مُجالسة الأغيار، ولا يتحمّل قلبه صحبة الخلق.. حتّى قال له ربّ العزّة: واصْبِرْ نفسَكَ معَ الذينَ يَدْعُونَ ربَّهُم بالغَداةِ والعَشِيِّ (5). أي: يا محمّد، كُن في الظاهر مع الخلق، وليظلّ سِرُّك في مَحضر المُشاهَدة؛ فلا هذه المشاهدة تمنعك عن نصيب الخلق، ولا رفقة الخلق تَصرِفك عن المشاهدة.
ومن هذا الباب: أنّ داود النبيّ اختار العُزلة، فآثَرَ الجبال والصحراء لا يفعل غير الطواف في منأىً عن الناس.. فأتاه نداءُ جبّار الكائنات عَزّ عِزُّه: يا داود، لماذا اعتزلت ؟ ـ والله جلّ جلاله أعلم به ـ فقال داود:
ـ قَلَيتُ(6) المخلوقين فيك.
فقال ربّ العزّة:
ـ إرجِعْ إليهم؛ فإنْ أتيتَني بعبدٍ آبِق كتبتُك جَهيداً(7). (472:5 ـ 473)
---------
1 ـ النحل، من الآية 106.
2 ـ حظوظ النفس: رغباتها وطلباتها المشروعة.
3 ـ طه، من الآية 39.
4 ـ القصص، من الآية 24.
5 ـ الكهف، من الآية 28.
6 ـ قَلَيتُ: أبغضتُ.
7 ـ الجهيد: المجاهد الشديد المُجاهَدة.