ومَا لَنا ألاّ نَتَوكّلَ علَى اللهِ وقد هَدانا سُبُلَنا... (1) ؟!
التوكّل أمارة اليقين، وخميرة الإيمان، وثمرة التوحيد. وهو على درجتين:
إحداهما: التوكّل العام لأهل اكتساب المقامات (في طريق السلوك)، والآخر: التوكّل الخاص للراضِين.
التوكّل العام ألاّ تقوم في طريق الأسباب، وألاّ تمدّ إلى الكسب والتجارة والحراثة التي هي من سنّة الشريعة. وعندها لا يكون اعتمادك على الكسب، ولا تنتظر الرزق من الأسباب، بل من مسبِّب الأسباب، ولا تركن إلى غير فضل الله، وأن ترى أنّ الحركة والأسباب والحول والقوّة منه (سبحانه).
في هذا التوكل يصحّ أن تَرى الأسباب، لكنّ الخطأ مكوثك في الأسباب.
قال المرشد: ألاّ ترى السبب.. جهل، لكن بقاءك مع السبب شرك. إن لم يكن نظرك إلى الجنة.. فهو غير شرعي، لكنّ المكوث عند الجنّة من ضعف الهمّة.
ومن وجهة الشريعة: لو أنّ امرأً انزوى في غار حيث لا يمرّ به أحد، وما ثمّة زرع أو نبات، ثمّ قال: أتوكّل.. ففعله هذا من الحرام؛ لأنّه عرّض نفسه للتهلكة، ولم يعرف سُنّة الحق في أقدار الناس وأرزاقهم.
قيل: إنّ زاهداً في بني إسرائيل خرج من المدينة وقعد في غار، وفي قصده أنه يتوكل ويأتيه رزقه. ومرّ اسبوع، وما حصل على شيء.. حتّى كاد يهلك. وجاء الوحي إلى نبيّ ذلك الزمان أنْ: قُل لذلك الزاهد: وعزّتي، إن لم تَعُد إلى المدينة فلن أرزقك. وامتثالاً لأمر الحق رجع إلى المدينة.. فبدأ الرزق يَدُرّ عليه، وإذا الناس يتقرّبون من كلّ صوب ويقدّمون له هدايا. عندها هَجَس في قلبه تساؤل عن هذه الحالة! ونزل الوحي على النبيّ الذي كان في ذلك الزمان أن يقول له: أردتَ بزهدك أن تُبطِل حكمتي، ولم تعلم أنّ إجرائي رزقَ عبدي على يدَي غيره أحبّ إليّ أن أُجريه بقدرتي. كُن عبداً، وأوكِلْ إليّ شأنَ الألوهية وإعطاء الرزق.
وفي أخبار موسى الكليم عليه السّلام أنه مَرِض يوماً، فقال له الأطباء:
ـ علاج دائك في الدواء الفلاني.
قال موسى:
ـ لا أتَطبَّب حتّى يكون الله هو مَن يشفيني ويعافيني.
وطال على موسى أمدُ المرض، فقيل له:
ـ يا موسى، إنّ هذا الدواء مجرَّب.. فإن استعملتَه كان فيه العلاج.
ما أصغى موسى إلى قولهم، فلم يَتطبَّب.. حتّى جاءه الوحي من الله جلّ جلاله: وعزّتي، لا أشفيك حتّى تأخذ الدواء.
شرب موسى الدواء، فشُفيَ في الحال، وخَطَر في قلبه:
ـ إلهي، كيف هذا ؟!
جاء الوحي:
ـ يا موسى، لا تسأل كيف، ولا تَتعَقَّب أسرارَ سُنّةٍ أجريتُها، فإنّه لا سبيل لأحد إلى أسرار أُلوهيّتي، وما يَجدُر السؤال: لماذا.. وكيف ؟
هذا بيان للدرجة الأولى من التوكّل.. حيث تُرى الأسباب ويُرى المسبِّب، وتُرى الأسباب من المسبِّب والخَلق من الخالق. إنّها كلّها تؤول إلى أصلٍ واحد وفاعل واحد لا غير، وما من أحد سواه. وما دام العبد في هذا المقام فهو في التَّفرِقة، وليس في دائرة الجمع. حتّى إذا عَبرَ هذه الدرجة وصل إلى توكّل الراضين.. وهي حال الصدِّيقين، حيث لا فصل بين المسبِّب والأسباب، فيراها واحدة، ويعرفها واحدة.
الآخَرون يَكِلون الأمر إليه (سبحانه).. والراضون يَكِلون أنفسهم إليه.
الأخَرون يطلبون منه.. والراضون يطلبونه هو.
الأخرون يَسكنون إلى العطاء.. وهم يسكنون إلى المعطي (245:5 ـ 247).
-----
1 ـ إبراهيم، من الآية 12.