طبيعة التفسير في هذا العصر
من الممكن ان نجزم بان الظاهرة التي كانت تعم التفسير في هذه المرحلة هي مواجهة القرآن الكريم كمشكلة لغوية. ومن اجل ان نكون اكثر ادراكاً لطبيعة هذه المرحلة لا بد لنا ان نعرف ما تعنيه (المشكلة اللغوية) من معنى :
فالكلام في اللغة - وعلى الاخص اللغة العربية - تشترك في تحديد معناه عوامل مختلفة يمكن ان نلخصها بالامور التالية :
أ - الوضع اللغوي للفظ. فان كل لفظ في اللغة نجد في جانبه معنى خاصاً محدداً له.
ب - القرائن اللفظية ذات التأثير الخاص على الوضع اللغوي والتي تسبب صرف اللفظ عن معناه الحقيقي. وهذا هو الشيء الذي يحصل في الاستعمالات المجازية بما للمجاز من مدلول عام يشمل الاستعارة والكناية وغيرهما.
ج - القرائن الحالية التي يكون لها ايضاً تأثير خاص على المدلول اللفظي ونعني بها الظروف الموضوعية التي يأتي الكلام بصددها او يكون مرتبطاً بجانب من جوانبها.
فهذه العوامل الثلاثة تشترك في تكوين المدلول العام للفظ والكلام. وحين نواجه الكلام من اجل التعرف على مدلوله ونصطدم بشيء من هذه الامور الثلاثة في سبيل ذلك فنحن نواجه مشكلة لغوية.
وعلى ضوء هذا المفهوم للمشكلة اللغوية يمكننا ان نتبين طبيعة المرحلة التي مَرَّ بها الصحابة والتابعون حين واجهوا الكلام الالهي (القرآن الكريم)
وحاولوا معرفة معانيه ومدلولاته. فنحن - حين نتصفح التفسير الذي وصلنا عن هذا العصر - نجد أموراً ثلاثة كانت موضع اهتمام الصحابة والتابعين من بعدهم وهي كالتالي :
أ - التعرف على ما تعنيه المفردات القرآنية من معنى في اللغة العربية مع مقارنة الكلام القرآني بالكلام العربي لتحديد الاستعارة القرآنية..
ب - تتبع اسباب النزول والحوادث التاريخية او القضايا التي ارتبطت ببعض الآيات القرآنية.
ج - التفصيلات التي اوردتها النصوص الاسرائيلية عن قصص الانبياء او غيرها من الحوادث التي اشار اليها القرآن الكريم.
وهذه الامور الثلاثة لها علاقة وثيقة في تحديد المعنى من ناحية لغوية لانها تنتهي بالنسب الى العوامل المؤثرة في تكوين مدلول اللفظ والكلام.
ولعل من الشواهد على ما نذكره عن طبيعة هذه المرحلة هو ما نعرفه عن ابن عباس الذي يعتبر من ابرز الصحابة في التفسير حيث كان يعتمد في تفسيره للقرآن في اغلب الاحيان على ما يعرفه من مفردات اللغة العربية وما يحفظه من شعر العرب.
وقد اعتبر هذا الاطلاع الواسع على مفردات اللغة من قبل ابن عباس اساس امتيازه في التفسير وعلو شأنه.
وهذا الطابع العام نجده ايضاً في محاولات بقية الصحابة والتابعين ايضاً. فاذا لاحظنا صحيح البخاري - وهو احد الكتب التي تتعرض للتفسير في هذه المرحلة - نجده يذكر التفسير في حدود هذه المشكلة ذاتها ولا يكاد يتعداها. وهذا الشيء نفسه نجده عندما نلاحظ الكتب التفسيرية الاخرى التي تنقل الينا آراء الصحابة والتابعين بدقة.
والى جانب هذا الاستقراء توجد لدينا بعض الشواهد التاريخية ذات الدلالة البينة على طبيعة المرحلة والتزام الصحابة لحدودها في محاولاتهم التفسيرية. فقد روي ان رجلاً يقال له : (صُبَيغ) قدم المدينة - في زمن عمر بن الخطاب - فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل اليه الخليفة وضربه بعراجين النخل حتى ترك ظهره دبَره. ثم تركه حتى يرى. ثم عاد. وبعد ان تكرر ذلك للمرة الثالثة دَعا بِهِ ليعود. فقال صبيغ ضارعاً ! ان كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً أو ردني الى ارضي بالبصرة. فاذن له الى ارضه، وكتب الى ابي موسى الاشعري أَلا يجالسه احد من المسلمين(1).
وهذه الرواية تدلنا على مدى استنكار الصحابة للدخول في مشاكل عقلية حول فهم القرآن الكريم وتفسيره، لأن البحث في المتشابهات يتصف بالطابع العقلي دون اللغوي.
لم يكن اسم السائل «ابن صبيغ» بل اسمه «صبيغ بن عسل التميمي» ولم يكن السؤال عن متشابه القرآن وانما كان السؤال عن «والذاريات ذرواً»(2) وهو بحث عن تفسير لغوي. واذا رجعنا الى قوله تعالى «فأصبح هشيماً تذروه الرياح»(3) عرفنا تفسير اللفظ .
كما أن الخليفة عمر قرأ على المنبر «فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً - الى قوله تعالى - وأباً» قال : كل هذا قد عرفناه، فما الأب ؟ ثم رفض عصا كانت في يده فقال : لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا تدري ما الاب، اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه الى ربه.(4)
وكذلك عندما سُئل ايضاً عن «فاكهة وأَبّاً» أقبل عليهم بالدرة(5). مع أن تفسير اللفظين ورد بعدهما في قوله تعالى «متاعاً لكم ولانعامكم»(6).
ويمكن ان نفهم الشيء ذاته من جميع النصوص التي وردت في النهي عن تفسير القرآن بالرأي او تفسير القرآن بشكل مطلق(7). اذ لا نشك في مزاولة الصحابة للتفسير في حدود المشكلة اللغوية. وهو في هذه الحدود ليس من تفسير القرآن بالرأي او القول في القرآن بغير علم. ولا يبقى في نطاق الشك والنهي غير مواجهة القرآن بشكل اعمق لا يتفق وطبيعة المرحلة ولا يعيش حدود المشكلة اللغوية.
وعلى هذا الاساس يمكن ان نشكك في كل محاولة تفسيرية تنسب الى الصحابة ولا تعيش حدود المشكلة وجوانبها ولا تتسم بسماتها وطابعها.
فمن المعقول ان يداخلنا الشك في صحة ما ينسب الى ابن عباس في تفسيره لسورة الفتح حين يحاول ان يحمل السورة معنى فوق طاقتها اللغوية ويجعل من الفتح فيها رمزاً وعلامة لمجيء اجل الرسول (ص) كما جاء في البخاري(8).
ويمكننا ان نؤاخذ على هذا الحديث بالاضافة الى خروجه عن نطاق طبيعة المرحلة.. هذا اللون الخاص من محاولة تمجيد ابن عباس ولو كان ذلك على حساب القرآن الكريم. الامر الذي يدعونا أن نلحقه بموضوعات العصر العباسي.
ويمكن ان يعترينا مثل هذا الشك ايضاً حين ننظر الى المحاولة التفسيرية التي جاءت على لسان ابن عباس ايضاً حين يريد ان يعين (ليلة القدر) المذكورة في القرآن الكريم على انها ليلة السابع والعشرين من رمضان ويفهم ذلك على اساس اهتمام الاسلام بالعدد (سبعة) حيث اخذ في متعلق بعض الاحكام الاسلامية(9).
فان هذا الاستنتاج بالاضافة الى بعده عن المنطق الصحيح لا يتفق مع البساطة والذوق العربي اللذين كان يعيشهما ابن عباس.
ولقد كان من الطبيعي ان ينظر الى القرآن الكريم في هذه المرحلة على اساس انه (مشكلة لغوية) لان هذه المرحلة تمثل بداية التطور في المعرفة التفسيرية عند المسلمين بعد ان كانوا يفهمون القرآن فهماً ساذجاً وفي مستوى الخبرة العامة المتوفرة لديهم حينذاك.
مصادر المعرفة التفسيرية في هذا العصر :
وعلى ضوء معرفتنا لطبيعة هذه المرحلة يمكن ان نتعرف ايضاً على المصادر التي كانت تعتمد عليها المرحلة في معرفة مدلول النص القرآني والادوات التي كانت تستعملها لمواجهة المشكلة اللغوية. ويمكن ان نلخص هذه المصادر بالامور التالية :
أ - (القرآن الكريم نفسه) لان القرآن الكريم بحكم طريقة نزوله والأهداف التي كان يتوخاها من وراء هذه الطريقة التدريجية جاء في بعض الاحيان مبيناً لما قد اجمله سابقاً او مقيداً او مخصصاً لما كان مطلقاً او عاماً، او ناسخاً لحكم كان ثابتاً في وقت سابق. وهذه الطريقة من القرآن الكريم تسمح لنا ان نستفيد من بعض الآيات القرآنية لنفهم بها بعض الآيات الاخرى.
وقد سلك المفسرون هذا المنهج في طريقهم للتعرف على المعاني القرآنية واكتشاف اسرارها. ويمكن ان نعتبر الرسول الاعظم (ص) - بما لدينا من شواهد - الرائد الاول لهذه الطريقة التي سار عليها بعض الصحابة من بعده واتخذها بعض المفسرين منهجاً عاماً لتفسير القرآن.
فقد روي عن عبد اللّه بن مسعود انه لما نزل قوله تعالى : (الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الأمن وهم مهتدون)(10) شق ذلك على اصحاب رسول اللّه وقالوا اينا لم يلبس ايمانه بظلم. فقال : انه ليس بذاك. انما هو الشرك. الم تسمعوا قول لقمان (ان الشرك لظلم عظيم)(11).
كما ان التاريخ يحدثنا ايضاً ان علي بن ابي طالب (ع) اتخذ مثل هذه الطريقة للتعرف على بعض المعاني القرآنية. فقد اخرج الحافظان ابن ابي حاتم، والبيهقي عن الدئلي : ان عمر بن الخطاب رفعت اليه امرأة ولدت لستة اشهر فهمّ برجمها فبلغ ذلك علياً فقال : ليس عليها رجم. فبلغ ذلك عمر رضي اللّه عنه فأرسل اليه فسأله. فقال : قال تعالى (والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين)(12) وقال تعالى : (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)(13) فستة اشهر حمله وحولان رضاعه فذلك ثلاثون شهراً، فخلّى عنه(14).
فقد فسر الامام علي (ع) مدة الحمل بستة اشهر على اساس الآية الاخرى التي تذكر ان مدة الرضاع هي «حولين كاملين».
ب - المأثور عن النبي (ص) في تفسير القرآن. فقد كان الرسول الاعظم (ص) يقوم بتفسير القرآن الكريم على المستوى العام كما عرفنا ذلك في بحث (التفسير في عصر الرسول) وهو على هذا المستوى وان لم يكن قد فسر القرآن كله الا انه كان يفسر بمقدار ما تفرضه ظروفه كصاحب رسالة وقائد دولة تواجهه مشاكل المسلمين واسئلتهم وتقتضيه الدعوة الى اللّه وتبيان المفاهيم العامة عن الاسلام وتشريعاته فكان هذا الشيء الذي يصدر منه بهذا الصدد يتلقاه المسلمون ويحفظه الكثير منهم واعتمدوا عليه من بعده في ايضاح بعض جوانب القرآن بالنسبة الى غيرهم.
وفي كتب الحديث شواهد كثيرة على ذلك فعن سعيد بن جبير : في تأويل قوله تعالى : (واذ قال موسى لفتاه لا ابرح حتى ابلغ مجمع البحرين أو امضي حقباً)(15). قال قلت لابن عباس ان نوفاً يزعم ان موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني اسرائيل. فقال ابن عباس: حدثني ابي بن كعب انه سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم يقول : ان موسى قام خطيباً في بني اسرائيل. فسئل : أي الناس اعلم ؟. فقال : انا. فعتب اللّه عليه اذ لم يرد العلم اليه. فأوحى اللّه اليه ان لي عبداً بمجمع البحرين هو اعلم منك. قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟. قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم.... الحديث(16).
فمن اجل ان يظهر ابن عباس خطأ نوف في دعواه استند الى رواية ابي بن كعب عن رسول اللّه (ص).
ج - حديث بعض الصحابة الذين عاصروا احداث نزول القرآن. لان من المعروف ان بعض القرآن الكريم ارتبط في نزوله ببعض الاحداث التي عاشتها الدعوة الاسلامية في مراحلها المختلفة وبما ان هذه الاحداث تشكل جزءاً من عوامل تحديد المعنى القرآني وتساهم في حل المشكلة اللغوية ذات الجوانب المتعددة التي واجهت المسلمين بعد الرسول.. فمن الطبيعي ان يلتفت المسؤولون عن حل هذه المشكلة الى الاشخاص الذين عاصروا هذه الاحداث ليتعرفوا منهم على ظروفها وخصوصياتها. وبالتالي على ما تمنحه للمعنى القرآني من ايضاح وتبيين.
وقد اهتم الباحثون بمعرفة اسباب النزول على اساس الارتباط الوثيق بينها وبين تحديد المعاني القرآنية واعتبروا فهم القرآن الكريم متوقفاً على معرفتها.
فقد قال الواحدي : لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن.
وقال ابن تيمية : معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية(17).
والشواهد في حياة الصحابة على هذا الارتباط بين اسباب النزول وفهم الآية القرآنية كثيرة عرفنا منها قضية قدامة بن مظعون(18) وقد ذكر السيوطي لذلك بعض الامثلة(19).
د - مفردات اللغة العربية المتداولة في الكلام العربي على اختلاف لهجاتها.
فان القرآن الكريم - كما نعرف - نزل بلغة العرب. ولم يكن الصحابة على اطلاع كامل بمفردات اللغة العربية. ولذا كانوا يتوقفون في بعض الاحيان عند بعض الكلمات القرآنية لعدم معرفتهم معناها. حتى يقع في ايديهم شيء من كلام العرب يتضح به ما غمض لديهم من القرآن.
وقد اشرنا الى بعض الشواهد التي حصل بها مثل هذا الشيء في بحث سابق(20).
كما ان طبيعة المرحلة وهي مواجهة القرآن كمشكلة لغوية تفرض ان يكون من ابرز المصادر للتفسير هو اللغة العربية نفسها. ولذا نجد ان علماء التفسير يؤكدون ضرورة الاطلاع على اللغة العربية كشرط اساسي في محاولة تفسير القرآن الكريم(21).
ويبدو انه قد اثير الجدل في فترة متأخرة عن هذا العصر حول صحة الاعتماد على نصوص اللغة العربية لمعرفة معاني القرآن وخصوصيات اسلوبه. وقد اشار السيوطي الى ذلك في كلام نقله عن ابي بكر بن الانباري، هذا نصه «قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيراً الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر وانكر جماعة لا علم لهم على النحويين ذلك... وقالوا اذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر اصلاً للقرآن قالوا : وكيف يجوز ان يحتج بالشعر على القرآن وهو مذموم في القرآن والحديث ؟ !».
قال : وليس الامر كما زعموا من انا جعلنا الشعر اصلاً للقرآن بل اردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر لان اللّه تعالى قال : (انا جعلناه قرآناً عربياً) وقال (بلسان عربي مبين). وقال ابن عباس : (الشعر ديوان العرب فاذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي انزله اللّه بلغة العرب رجعنا الى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه)(22).
ففي هذا النص نجد ابن الانباري يناقش المسألة على اساس طبيعة الموقف التفسيري وتصرف الصحابة والتابعين الذين كانوا يعتمدون على نصوص اللغة العربية عند محاولتهم التعرف على المعاني القرآنية. ويستشهد بما روى عن ابن عباس في ذلك.
والشواهد العملية من حياة الصحابة وتفسيرهم على ذلك كثيرة ويكفينا ان نذكر منها ما رواه السيوطي في الاتقان بسنده المتصل عن حميد الاعرج وابي بكر بن محمد قالوا :
(بينا ابن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن فقال نافع بن الازرق لنجد بن عويمر : قم بنا الى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به. فقاما اليه. فقالا : انا نريد ان نسألك عن اشياء من كتاب اللّه فتفسرها لنا وتأتينا بمصاديقه من كلام العرب. فان اللّه تعالى انما انزل القرآن بلسان عربي مبين. فقال بن عباس : سلاني عما بدا لكما. فقال نافع : اخبرني عن قول اللّه تعالى (عن اليمين وعن الشمال عزين) قال العزون حلق الرفاق. قال : وهل تعرف العرب ذلك : قال نعم. اما سمعت عبيد ابن الابرص وهو يقول:
فجاؤوا يهرعون اليه حتى***يكونوا حول منبره عزينا(23)
وعلى هذا الشكل يستمر نافع في السؤال ويستمر ابن عباس في الجواب حتى يصل العدد الى حوالي مائتي مسألة(24).
ه - اقوال اهل الكتاب من اليهود والنصارى. ذلك لان القرآن الكريم عالج موضوعين مهمين لهما صلة باهل الكتاب. وهما ما يلي :
1 - تحدث القرآن الكريم عن الحوادث والوقائع التي وقعت لبعض الانبياء والشعوب التي سبقت الاسلام من اجل ان يستخلص العبرة والموعظة للمسلمين من خلال ذلك. ولذلك جاء الحديث القرآني عنها غير مستوعب للتفاصيل والجزيئات التي لا تمت الى هذه الغاية بصلة في الوقت الذي تتحدث فيه التوراة والانجيل المتداولان عند اهل الكتاب فعلاً عن هذه الامور حديث المؤرخ للقضايا والوقائع فتسرد فيها الحوادث بشكل تفصيلي محدد.
2 - انتقد القرآن الكريم اهل الكتاب في الكثير من عاداتهم وتقاليدهم واساليبهم كما كشف التحريفات التي تعرض لها كتاب التوراة والانجيل. وكان في بعض الاحيان يخاطب اهل الكتاب انفسهم مشيراً الى انحرافاتهم: (ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على اللّه الكذب واكثرهم لا يعقلون)(25).
وقد كان من الطبيعي ان يلجأ الصحابة الى اهل الكتاب لاستيضاح هذه الجوانب ومعرفة التفصيلات - بعد اقصاء اهل البيت عن المرجعية الفكرية - عندما تواجههم الاسئلة عنها. ولا يجدون فيما لديهم من معرفة تفسيرية ما يسد هذا الفراغ ويجيب عن هذه الاسئلة. خصوصاً اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان بعض اهل الكتاب ممن رجع اليهم الصحابة في هذه التفصيلات قد أظهر الاسلام وانسجم مع القادة المسلمين في احكامهم واطاراتهم الامر الذي ادى الى ان يصبحوا من المقربين والمستشارين لهؤلاء القادة.
وخير ما يشهد لنا على رجوع بعض الصحابة الى اهل الكتاب في تفسير القرآن هو التفصيلات التي وردت على لسان الصحابة في التفسير عن الاحداث التاريخية السابقة المرتبطة بقصص الانبياء. لاننا نعرف ان الرسول (ص) لم تسمح له ظروفه الخاصة ان يفسر القرآن بهذا الشكل الواسع الدقيق وعلى المستوى العام للمسلمين واضف الى ذلك اتفاق تفاسيرهم مع ما جاء في التوراة والانجيل في الخصوصيات(26) ونحن حين نقول ذلك لا نعني ان النصوص التي تصرح بهذا الاعتماد غير متوفرة(27) كما ان العلماء اعترفوا بهذه الحقيقة التاريخية عندما تحدثوا عن التفسير(28).
_____________________
(1) جولد تسيهر : مذاهب التفسير الاسلامي ص : 74. نقلاً عن لوائح الانوار البهية.
(2) راجع بصدد هذه النصوص : الترمذي 11/68.
(3) اخرج البخاري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «كان عمر يدخلني مع اشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه. فقال لم يدخل هذا معنا وان لنا ابناء مثله ؟ !. فقال عمر انه ممن علمتهم. فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم. فما رأيت انه دعاني فيهم يومئذ الا ليريهم. فقال : ما تقولون في قوله تعالى : اذا جاء نصر اللّه والفتح ؟. فقال بعضهم : امرنا ان نحمد اللّه ونستغفره اذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً. فقال لي اكذلك تقول يابن عباس ؟. فقلت لا. فقال ما تقول ؟. فقل هو اجل رسول اللّه (ص)
(4) نقش أئمة در احياء دين، ج 6/117.
(5) سورة الكهف /45.
(6) و(7) الدر المنثور في تفسير الآية، ج 6/317.
(8) سورة عبس /32.
(9) «اخرج ابو نعيم عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس ان عمر بن الخطاب جلس في رهط من المهاجرين من الصحابة فذكروا ليلة القدر فتكلم كل بما عنده. فقال عمر : ما لك يا ابن عباس صامت لا تتكلم، تكلم لا تمنعك الحداثة. قال ابن عباس : قلت يا أمير المؤمنين ان اللّه وتر ويحب الوتر فجعل ايام الدنيا تدور على سبع وخلق ارزاقنا من سبع وخلق الانسان من سبع وخلق فوقنا سموات سبعاً وخلق تحتنا ارضين سبعاً واعطى من المثاني سبعاً ونهى في كتابه عن نكاح الاقربين عن سبع وقسم المواريث في كتابه على سبع وتقع في السجود من اجسادنا على سبع فطاف رسول اللّه (ص) بالكعبة سبعاً وبين الصفا والمروة سبعاً ورمى الجمار بسبع.. فاراها في السبع الاواخر من شهر رمضان. فتعجب عمر. فقال ما وافقني فيها احد الا هذا الغلام الذي لم تستو شؤون رأسه. ثم قال يا هؤلاء من يؤديني في هذا كاداء ابن عباس ؟ !» الاتقان 2/188.
10) الانعام : 82.
(11) لقمان : 13. رواه البخاري بصورة مختلفة راجع فتح الباري 1/95. و10/131.
(12) البقرة : 233.
(13) الاحقاف : 15.
(14) الغدير 6/93.
(15) الكهف : 60.
(16) رواه البخاري : فتح الباري 10/24.
(17) نقل هذه الاقوال السيوطي في مقدمة كتابه أسباب النزول ص : 3.
(18) راجع بحث التفسير في عصر الرسول.
(19) الاتقان : 1/29.
(20) التفسير في عصر الرسول.
(21) البرهان للزركشي 2/160 و164.
(22) الاتقان : 1 : 1/119 ط المكتبة التجارية الكبرى.
(23) المصدر السابق 1/120.
(24) من المعقول ان يأخذنا الشك في صحة هذه الرواية بتفاصيلها المروية في الاتقان على اساس استبعاد وقوع مثل هذه المناقشة الطويلة في مجلس واحد واستحضار ابن عباس لكل هذه النصوص العربية - كما تحاول الرواية ادعاء ذلك - ولكن من المعقول ايضاً ان يكون لهذه الرواية اصل يقتصر على بعض هذه المناقشة واضيف اليها بعد ذلك الاجزاء الاخرى. خصوصاً اذا لاحظنا ان المحدثين الذين اخرجوها في وقت سابق على السيوطي لم يخرجوها بهذا التفصيل كما يصرح السيوطي نفسه بذلك. والذي نريد اثباته هنا بهذه الرواية هو ان نصوص اللغة العربية كانت مصدراً لتفسير القرآن. وفي هذا يكفي ان نثبت اصل هذه الرواية.
(25) المائدة : 103.
(26) تفسير الطبري 1/225 - 227 وغير ذلك من المواضع.
(27) راجع تفسير الطبري 1/151 - 152 و1/230 و1/231 و1/235
(28) راجع الاتقان 2/205. فقد نقل عن ابن كثير ان ابن عباس تلقى حديثاً طويلاً من الاسرائيليات.