في طلب النار
  • عنوان المقال: في طلب النار
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 1:29:42 2-9-1403

فلمّا قضى موسى الأجَلَ... (1).

لمّا قضى موسى الأجل وتناهى إليه خبر مِن طائرِ أشواقه، عزم على العودة إلى الوطن، فاستأذن شُعَيباً في الذَّهاب. أخذ أهله وبضعة أغنام كان شُعيب قد أعطاه إيّاها، ومضى تلقاء مصر.. كما قال ربّ العزّة: «وسارَ بأهله».
في الطريق صلّى صلاة الزوال، ثمّ واصل مسيره.. حتّى هبط الليل. وجاء موسى وهو متعب رسولُ الغمّ، في ذلكم الليل الدَّيجور.
.. وصَدَر الخطاب:
ـ تَوارَ يا طريق، وأمطِرْ يا سحاب، واحرسْ يا ذئب، وابكوا يا أهل موسى!
رأى موسى ليلةً بلون القَطِران ما تلتمع فيها نجمة. المُزن تُمطر. الرعد يُزَمجر. البرق يتلامع. والخِراف تجفل من الفزع. أخذ زِناداً، وتطلّع حوله فما وجد ناراً. أخيراً تطلّع إلى الطُّور.. ومِن بعيد لمح ناراً. وهذا ما قال عنه ربّ العالمين «آنَسَ مِن جانبِ الطُّورِ ناراً». رأى موسى على رأس الجبل صورةَ نار.. فأحسّ بالعشق يضطرم في سُوَيداء قلبه. نار.. لكنها لاذعة. قدرة.. لكنها قاهرة. احتراق.. لكنّه بلا مجاملات.

أضرمتَ النارَ في القلب وسكبتَ النفطَ على الروح
ثمّ تقول: لا تُفْشِ سِرَّنا!

موسى الذي احترق بالعشق وانتهبه الفقر.. وقف ساعة تحت تلكم الشجرة.
الشجرة التي كانت في حديقة الوصال: جذورها في أرض المحبة وفروعها في سماء الخُلوص، وورقها الزُّلفى والقُربى، وبراعمها نسيم الرَّوح والبهجة، وثمرها: إنّي أنا الله (2).
تحت هذه الشجرة.. تلاشَتْ صفات موسى وفَنِيَت ذاته، وأمسى كلّه أُذُناً واعية، وصارت تفاريقه جمعاً (وكثرته وحدة). وعلى حين غَرّة.. جاءه النداء من الله ذي الجلال: «يا موسى، إنّي أنا الله». في تلك اللحظة.. أثمرَ غصنُ العناية ثمرةَ الهداية، وقذف بحر الولاية بِدُرّ الكفاية(3).

سَقْياً لمعهدكَ الذي لو لم يكن
ما كان قلبي للصَّبابةِ مَعهدا

ارتدى موسى خِلعةَ القُربة، وشرب شراب الأُلفة، وعايَنَ صدرَ الوصال، وشمّ ريحانَ الرحمة.

لا تحزَنْ أيّها العاشق المضطرم القلب
فيوماً ما يبلغ العشّاقُ ما يريدون

عندها جاء النداء:

ـ وما تلكَ بيمينِكَ يا موسى (4) ؟

قال:

ـ هي عَصاي (5).

ـ ما تفعلُ بهذه العصا ؟
قال: أتوكّأ عليها (5) إذا تَعِبتُ.
ـ يا موسى، ألْقِ عصاك (6)، وانظُرْ ماذا ترى!
ألقى موسى العصا، فانقلبت ثُعباناً أفزع موسى. خاف موسى وجَفَل. وجاء النداء:
ـ يا موسى، ألاَ تعلم أن مَن اتّكأ على غيره لَقِي منه الخوف والغم ؟!
ثمّ جاء النداء:

ـ يا موسى، أقبِلْ ولا تَخَفْ (7).

وفي موضعٍ آخر: خُذْها ولا تَخَف (8)، خُذ العصا ولا تَخَف، كُن آمناً. خُذ العصا، ولكنْ لا تجعل للعصا محبة في قلبك ولا تَركَنْ إليها.
يقول لأهل الدنيا على سبيل الإشارة: خذوا الدنيا ولا تجعلوا لها محبّة في قلوبكم، ولا تَركنوا إليها.. «حُبّ الدنيا رأسُ كلّ خطيئة».
يا موسى، أنت أخذت العصا من شُعَيب بقوة جسمانية.. فألفَيتَها أفعى. أمَا وقد أخذتَها الآن بأمري.. فانظر ماذا سترى فيها من المعجزات! (310:7 ـ 312)

------

1 ـ القصص، من الآية 29.
2 ـ القصص، من الآية 30.
3 ـ الكفاية: اللياقة والأهلية.
4 ـ طه: 17.
5 ـ طه، من الآية 18.
6 ـ الأعراف، من الآية 117.
7 ـ القصص، من الآية 31.
8 ـ طه، من الآية 21.