الصدق في العشق
  • عنوان المقال: الصدق في العشق
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 0:48:0 2-9-1403

إذ قال له ربّه: أسلِمْ، قالَ: أسلَمتُ لربِّ العالَمين (1).
لأنّ الخليل قد أتى عن طريق السلوك(2).. صَدَر خطابٌ له من محضر العزة أنْ:
ـ يا إبراهيم، مَن أرادني فعليه أن يكون لي كلّه، وما دامت فيك بقيّة من رغباتك البشرية ومُعارَضاتك النفسية فلن تفوز في معاناة مَساعيك بالطمأنينة، «المُكاتَب عَبدٌ ما بقيَ عليه درهم».

إنْ كنتَ تريدني فعليك أن تريد ما أريد
وأن تنتفض كليّاً من داخل نفسك

قال الخليل:
ـ إلهي، ما بقي لابراهيم تدبير ولا اختيار. ها أنذا جئت ـ في حالة انكسار ـ على قدم الافتقار، لأتلقّى ما تأمرني به. لقد نَبَذتُ نفسي، وأسلمتُ أمري لك، وأقبلتُ بكلّي عليك.
وجاء الخطاب:
ـ يا إبراهيم، إنّك لَتدّعي ادّعاءً عجيباً! ولابدّ لكلّ ادّعاء من معنى، ولابدّ لكلّ حقّ من حقيقة. والآن هو ذا الامتحان ماثلاً.
وامتحنه.. امتحنه بغير نفسه، وببعض نفسه، وبنفسه.
امتحانه بغير نفسه: أنّه كان ثروة طائلة، قيل: إنّها بلغت سبعمئة ألف رأس من الغنم في سبعة آلاف قطيع، ومع كلّ قطيع كلب للحراسة في عنقه طَوق من ذهب. قال له:
ـ فَرِّغ قلبك من هذه القطعان كلّها وأنفِقْها في سبيل الله.
وفعلاً.. تخلّى عنها الخليل، ولم يُمسِك لنفسه منها شيئاً.
وَرَد في الأخبار أنّ الملائكة قالوا:
ـ إلهَنا، لمّا ناديتَ في عالم الملكوت: واتَّخَذَ اللهُ إبراهيمَ خليلاً (3).. غَدَت أرواحنا في لُجّة رهيبة وأصابنا الذُّعر من هذا التخصيص، فمِن أين للخليل أن يستحقّ هذه الكرامة ؟!
وجاء النداء:
ـ يا جبريل، أفرِدْ أجنحتك الطاووسية، واهبط مِن سِدرة المُنتهى على قمة ذلك الجبل، وامتَحِن الخليل.
وبتقدير وتيسير إلهي هبط جبريل بهيئة أحد بني آدم، وهناك وقف من وراء الجبل، وراح يترنّم:
ـ يا قُدّوس...!
ومن لذّة السَّماع.. أُغمي على الخليل. ولمّا صحا قال:
ـ يا عبدالله، إنطِقْ بهذا الاسم مرةً ثانية أجعلْ لك هذا القطيع من الغنم.
راح جبريل مرّةً ثانية يترنّم:
ـ يا قُدّوس...!
تمرّغ الخليل في التراب، مثل طير مذبوح نصف ذَبح.. وهو يقول:
ـ قُلْها مرّةً أخرى، ولك قطيعٌ آخر.

وحدّثتَني يا سَعدُ عنه.. فَزِدتَني
جُنوناً، فزِدني مِن حديثكَ يا سَعدُ!

وظلّ الخليل يستعيده، وفي كلّ مرّة يَهَبُه قطيعاً مع كلب ذي طوق ذهبي.. حتّى أتى عليها جميعاً.
ولمّا تخلّى عنها كلّها استَحكمَ الميثاق، واقترنَ العشق بالإفلاس. وترنّم الخليل:
ـ يا عبدالله، انطِقْ باسم الحبيب مرّةً أخرى مِن على الجبل.. أجودُ لك بروحي.

المال والذهب.. لابدّ أن نَجودَ بهما مجّاناً
ومتى وصلَت النوبةُ إلى الروح لزمَ أن نجود بها أيضاً

غَلَبت على جبريل حالة طيّبة، فأفرد أجنحتَه الطاووسية وقال:
ـ بحقٍّ اتَّخذَكَ خليلاً، وإن كان ثَمّ قصور فهو في رؤيتنا نحن، إنّما أنت كامل العشق. (375:1 ـ 376)

-------------

1 ـ البقرة: 131.
2 ـ يريد: أنّه عليه السّلام كان يسلك الطريق إلى الله تعالى عبر مراحل، لاجذبةً واحدة تتجاوز مراحلَ السلوك.
3 ـ الأنبياء، من الآية 125.