الشروط التي يجب توفرها في المفسر :
والتفسير بوصفه علماً تتوقف ممارسته على شروط كثيرة لا يمكن بدونها ان ينجح البحث في القرآن ويوفق المفسر في مهمته ويمكن ان نلخص تلك الشروط في الامور الاربعة التالية :
1 - يجب على المفسر ان يدرس القرآن ويفسره بذهنية : (اسلامية) أي ضمن الاطار الاسلامي للتفكير فيقيم بحوثه دائماً على أساس ان القرآن كتاب الهي : انزل للهداية وبناء الانسانية بأفضل طريقة ممكنة. ولا يخضع للعوامل والظروف والمؤثرات التي يخضع لها النتاج البشري في مختلف حقول المعرفة الانسانية. فان هذا الاساس هو الاساس الوحيد لامكان فهم القرآن وتفسير ظواهره بطريقة صحيحة.
واما حين يستعمل المفسر في دراسة القرآن نفس المقاييس التي يدرس على ضوئها أي كتاب دعوة أخرى أو أي نتاج بشري، فهو يقع نتيجة لذلك في أخطاء كبيرة واستنتاجات خاطئة، كما يتفق ذلك لبحوث المستشرقين الذين يدرسون القرآن على ضوء نفس المقاييس التي يدرسون بها أي ظاهرة من ظواهر المجتمع التي تنشأ في داخله وترتبط بمؤثراته وعوامله وتتكيف بموجبها.
وهذا الشرط تفرضه طبيعة الموقف العلمي لان المفهوم الذي يكونه المفسر عن القرآن ككل يشكل القاعدة الاساسية لفهم تفصيلاته، ودرس مختلف جوانبه، فلا بد ان يبنى التفسير على قاعدة سليمة ومفهوم صحيح عن القرآن، يتفق مع الاطار الاسلامي للتفكير، لكي يتجه اتجاهاً صحيحاً في الشرح والتحليل. واما اذا اقيم التفسير على أساس تقييم خاطئ للقرآن ومفهوم غير صحيح عنه، فسوف ينعكس انحراف القاعدة على التفصيلات ويفرض على اتجاه البحث انحرافاً في التحليل والاستنتاج.
وفيما يلي نذكر بعض الامثلة التي يتجلى فيها مدى الفرق في الاتجاه بين دراسة القرآن بوصفه كتاباً الهياً للهداية ودراسته بوصفه ظاهرة في مجتمع تتأثر به وتتفاعل مع عوامله ومؤثراته وكيف تنعكس القاعدة التي يقام على أساسها التفسير في التفصيلات وطريقة التحليل والاستنتاج.
1 - ففي اقرار القرآن لعدد من الاعراف وألوان من السلوك التي كانت سائدة بين العرب قبل بزوغ نور الرسالة الجديدة قد يخيل لمن ينطلق من قاعدة خاطئة ويحاول ان يفسر القرآن بمقاييس غيره من منتجات الارض ان ذلك الاقرار يعبر عن تأثر القرآن بالمجتمع الذي وجد فيه، ولكن هذا التفسير لا معنى له حين ننطلق من القاعدة الصحيحة ونفهم القرآن الكريم بوصفه كتاباً الهياً للهداية وبناء الانسانية، بالصورة التي تعيد اليها فطرتها النقية وتوجهها نحو أهدافها الحقيقية الكبرى.
بل نستطيع على أساس هذه القاعدة الصحيحة ان نفهم ذلك الاقرار من القرآن فهماً صحيحاً اذ ليس من الضروري لكتاب هداية من هذا القبيل ان يشجب كل الوضع الذي كانت الانسانية عليه قبله لان الانسانية مهما تفسد وتنحرف عن طريق الفطرة والاهداف الحقيقية الكبرى فهي لا تفسد كلها بل تبقى في العادة جوانب صالحة في حياة الانسانية تمثل فطرة الانسان أو تجاربه الخيرة فمن الطبيعي للقرآن ان يقر بعض الجوانب ويشجب اكثر الجوانب في عملية التغيير العظيم التي مارسها وحتى هذا الذي أقره وضعه في اطاره الخاص وربطه بأصوله وقطع صلته بالجاهلية وجذورها.
ب - وفي تدرج القرآن الكريم في التشريع قد يخيل لمن ينطلق من القاعدة الخاطئة التي تقول ببشرية القرآن يرتبط بطبيعة عملية البناء التي يمارسها القرآن لان القرآن لم ينزل ليكون كتاباً علمياً يدرسه العلماء وانما نزل لتغيير الانسانية وبنائها من جديد على أفضل الاسس وعملية التغيير تتطلب التدرج.
ج - وفي القرآن الكريم نجد كثيراً من التشريعات والمفاهيم الحضارية التي كانت متبناة من قبل الشرائع السماوية الاخرى كاليهودية والنصرانية. وقد يخيل لمن يدرس القرآن على أساس القاعدة الخاطئة بان القرآن قد تأثر في ذلك بهذه الاديان فانعكس هذا الانفصال بالتالي على القرآن نفسه.
ولكن الواقع - وعلى أساس المفهوم الصحيح - ان القرآن يمثل الاسلام الذي هو امتداد لرسالات السماء وخاتمها. ومن الطبيعي ان تشتمل الرسالة الخاتمة على الكثير مما احتوته الرسالات السماوية السابقة وتنسخ الجوانب التي لا تتلائم مع التطورات النفسية والفكرية والاجتماعية للمرحلة التي وصل اليها الفرد الانساني بشكل عام. لان مصدر الرسالات هذه كلها شيء واحد وهو اللّه سبحانه.
خصوصاً اذا أخذنا بنظر الاعتبار ايمان الاسلام بهذه الوحدة في مصدر الرسالات وتأكيده عليها.
2 - وبعد سلامة القاعدة الاساسية في فهم القرآن وتقييمه يجب ان يتوفر في المفسر مستوى رفيع من الاطلاع على اللغة العربية، ونظامها، لان القرآن جاء وفق هذا النظام فما لم تكن لدينا صورة عن النظام العام للغة العربية لا نستطيع ان نستوعب معاني القرآن. فيحتاج المفسر الى الاطلاع على علم النحو والصرف، المعاني والبيان وغيرها من العلوم العربية. والقدر اللازم توفره من هذا الشرط، يختلف باختلاف الجوانب التي يريد المفسر معالجتها من القرآن الكريم، فحين يريد ان يدرس فقه القرآن مثلاً، لا يحتاج الى التعمق في أسرار اللغة العربية بالدرجة التي يحتاجها المفسر، اذا درس الفن القصصي في القرآن أو المجاز في القرآن مثلاً.
3 - ولا بد للمفسر ان يحاول الى اكبر درجة ممكنة الاندماج كلياً في القرآن عند تفسيره.. ونقصد بالاندماج في القرآن ان يدرس النص القرآني ويستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معين غير مستوحى من القرآن نفسه، كما يصنع كثير من أصحاب المذاهب الذين يحاولون في تفسيرهم اخضاع النص القرآني لعقيدتهم المذهبية فلا يدرسون النص ليكتشفوا اتجاهه بل يفرضون عليه اتجاههم المذهبي ويحاولون فهمه دائماً ضمن اطارهم العقائدي الخاص. وهذا ليس تفسيراً وانما هو محاولة تبرير للمذهب وتوفيق بينه وبين النص القرآني، ولهذا كان من أهم الشروط في المفسر ان يكون بدرجة من التحرر الفكري تتيح له الاندماج بالقرآن، وجعله قاعدة لتكوين أي اطار مذهبي بدلاً عن جعل الاتجاه المذهبي المحدد قاعدة لفهم القرآن.
4 - وأخيراً لا بد للمفسر من منهج عام للتفسير، يحدد فيه عن اجتهاد علمي طريقته في التفسير، ووسائل الاثبات التي يستعملها، ومدى اعتماده، على ظهور اللفظ وعلى السنة، وعلى اخبار الآحاد، وعلى القرائن العقلية في تفسير النص القرآني. لان في كل واحد من هذه الامور خلافاً علمياً، ووجهات نظر عديدة، فلا يمكن ممارسة التفسير دون درس تلك الخلافات درساً دقيقاً، والخروج من دراستنا بوجهات نظر معينة تؤلف المنهج العام للمفسر، الذي يسير عليه في تفسيره. ولما كانت تلك الخلافات تتصل بجوانب من الاصول والكلام والرجال وغيرها كان لزاماً على المفسر لدى وضعه للمنهج ودراسته لتلك الخلافات أن يكون ملمّاً الماماً كافياً بتلك العلوم.
التفسير في عصر التكوين
ان من البديهيات الاسلامية أن القرآن الكريم لم يكن كتاباً علمياً جاء به الرسول الأعظم من أجل تفسير مجموعة من النظريات العلمية، وانما هو كتاب استهدف منه الاسلام بصورة رئيسية تغيير المجتمع الجاهلي وبناء الأمة الاسلامية على اساس المفاهيم والافكار الجديدة التي جاء بها الدين الجديد، وهو من اجل تحقيق هذه الغاية، والوصول الى هذا الهدف الرئيسي جاء منجماً متفرقاً من اجل ان يعالج القضايا في حينها، ويضع الحلول للمشاكل في اوقاتها المناسبة، مراعياً في ذلك كل ما تفرضه عملية التغيير والبناء من تدريج وأناة، وليحقق الانقلاب في كل الجوانب الاجتماعية والانسانية منطلقاً مع المحتوى الداخلي للفرد المسلم ليشمل البنيات الفوقية للمجتمع.
وعلى هذا الاساس لم يكن شعور المسلمين بشكل عام تجاه المحتوى القرآني ذلك الشعور الذي يجعلهم ينظرون الى القرآن الكريم كما ينظرون الى الكتب العلمية التي تحتاج الى الدرس والتمحيص. وانما هو شعور ساذج بسيط لان القرآن كان يسير معهم في حياتهم الاعتيادية بما زخرت به من الوان مختلفة فيعالج ازماتهم الروحية، والسياسية ويتعرض بالنقد للافكار والمفاهيم الجاهلية، ويناقش أهل الكتاب في انحرافاتهم العقيدية والاجتماعية، ويضع الحلول الآنية للمشاكل التي تعتريهم، ويربط بين كل من هذه الامور بعرض مفاهيم الدين الجديد عن الكون والمجتمع والأخلاق.
كل ذلك قام به القرآن الكريم ولكن بشكل تدريجي يسمح لعامة المسلمين ان ينظروا اليه كاحداث تشكل جزءاً من حياتهم الاجتماعية وقد كان المسلمون يفهمون القرآن من خلال هذه النظرة الساذجة اليه وعلى اساس ما لديهم من خبرة عامة، وهي تعني جميع المعلومات التي تحصل لدى الانسان في مجرى حياته الاعتيادية وهذه الخبرة العامة التي كان المسلمون يفهمون النص القرآني بموجبها ذات عناصر مختلفة يمكن ان نلخصها بالامور التالية : -
أ - الثقافة اللغوية العامة فالقرآن نزل باللغة العربية التي كانت تمثل لغة المسلمين في ذلك العصر لان الوجود الاسلامي حينذاك لم يكن قد انفتح على الشعوب الاخرى، وهذه الثقافة اللغوية كانت تمنح المسلمين فهماً اجمالياً للقرآن من ناحية لغوية.
ب - تفاعل المسلمين مع الاحداث الاسلامية واسباب النزول. ذلك ان القرآن - كما نعرف - نزل في كثير من الاوقات بسبب حوادث معينة أثارت نزول الوحي. والمسلمون بحكم ارتباطهم بهذه الحوادث واطلاعهم على ظروفها الخاصة المحيطة بها كانوا يتعرفون بشكل اجمالي ايضاً على محتوى النص القرآني ومعطياته واهدافه.
ج - الفهم المشترك للعادات والتقاليد العربية، فنحن نعرف ان القرآن الكريم حارب بعض العادات والتقاليد العربية وندد بها، والعرب بحكم ظروفهم الاجتماعية كانوا على اطلاع بما تعنيه هذه العادات وبالتالي على المفهوم الجديد عنها فمن الطبيعي ان يفهموا قوله تعالى «انما النسيء زيادة في الكفر»(1) وقوله تعالى «وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها» وقوله «انما الخمر والميسر والانصاب والازلام...»(3) لانهم يعرفون «النسيء» «واتيان البيوت من ظهورها» «والانصاب والازلام» كامور كانت قائمة في المجتمع الجاهلي، وكانوا يعيشونها.
د - دور الرسول (ص) في التفسير فقد كان الرسول الاعظم يباشر التفسير احياناً في مجرى الحياة الاعتيادية للمسلمين، فكان يجيب على الاسئلة التي تثور في اذهان المسلمين عن القرآن ومعانيه ويشرح النص القرآني في المناسبات التي يفرضها الموقف القيادي الذي كان يضطلع به الرسول من موعظة او توجيه او حث على العمل في سبيل اللّه والاسلام.
وهذه العناصر في الحقيقة تمثل ما كان عليه المسلمون من فهم ساذج للقرآن، لانها عناصر كانت تعيش مع المسلمين في مجرى حياتهم الاعتيادية دون ان تكلفهم مجهوداً ذهنياً، او عناء علمياً، ولدينا عدة نصوص، تؤكد هذا الفهم الساذج للقرآن الذي كان عليه المسلمون في هذه المرحلة من حياتهم الفكرية فنحن نجد عمر بن الخطاب في مرحلة متأخرة عن هذا الوقت يجد في فهم كلمة «أباً» تكلفاً ونجد عدي بن حاتم يقع في حيرة حين يحاول ان يفهم (حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود) ويشاركه في هذه الحيرة جماعة من المسلمين، ولا ترتفع حيرتهم الا بعد ان يراجعوا الرسول (ص)(4) ونجد ابن عباس لا يعرف معنى «فاطر» حتى يطلع عليه من قبل اعرابي(5).
فهذه الاحداث على ضآلتها تعكس لنا المرحلة التي كان يعيشها المسلمون عصر نزول القرآن.
ولعل من الدلائل على هذا الفهم الساذج للقرآن من قبل المسلمين ما نلاحظه في القراءات المتعددة للقرآن، الشيء الذي قد يكون ناتجاً عن سذاجة بعض القراء من الصحابة في ضبط الكلمة القرآنية، وقراءتها بالشكل الذي يتفق مع بعض الاتجاهات اللغوية التي عاصرت نزول القرآن ثم تداولها المسلمون على اساس انها قراءة اسلامية تَمُتُّ بالنَّسَبِ الى شخص النبي (ص) .
ومن الممكن ان يكون احد العوامل التي كان لها تأثير فعال في هذا الفهم الساذج للقرآن هو حياة الرسول الاعظم (ص) المثقلة بالاعمال والاحداث، وبالتالي تأثر حياة المسلمين بشكل عام من جراء ذلك، وقد اشار الامام علي (ع) في حديثه المتقدم الذي رواه ثقة الاسلام الكليني الى هذه الظاهرة العامة التي كانت تشمل الصحابة حيث قال : ورجل سمع من رسول اللّه فلم يحفظه على وجه ووهم فيه، ولم يتعمد كذباً... رجل ثالث سمع من رسول اللّه شيئاً امر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم او سمعه ينهى عن شيء ثم امر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ... ولسنا بحاجة لان نؤكد هنا ان هذا الفهم الساذج للقرآن الكريم من قبل عامة المسلمين لم يكن يتنافى مع الدور القيادي الذي يضطلع به الرسول الاعظم بعد أن عرفنا ان حياته (ص) كانت مثقلة بالاعمال والاحداث الامر الذي لم يكن يتيح له الفرصة الكافية للقيام بدور المفسر لعامة المسلمين.
بذور تكوين علم التفسير
والى جانب هذا الفهم الساذج للقرآن الذي لا يسمح لنا باطلاق (اسم العلم) عليه نلاحظ ملامح خبرة خاصة بدأت بالنمو والتجمع عند عدد من الصحابة نتيجة عوامل متعددة ذاتية وموضوعية فحرصهم بشكل اكثر من غيرهم على الاستفادة من مجالس الرسول وحفظ ما يرد في كلامه من شرح للنص القرآني او تعليق عليه ومحاولة الواعين منهم التعرف على تفصيلات اكبر مقدار ممكن من المعاني القرآنية. او بسبب ظروفهم الموضوعية التي كانت تفرض وجودهم مع الرسول في المدينة، وفي غزواته المتعددة. ولدينا عدة نصوص تشير الى هذا المعنى في عدد من الصحابة :
1 - عن عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا الذين كانوا يقرأون القرآن. انهم كانوا اذا تعلموا من النبي (ص) عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل.. قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة(7).
2 - عن شقيق بن سلمة، خطبنا عبد اللّه بن مسعود فقال : والله لقد اخذت من في رسول اللّه (ص) بضعاً وسبعين سورة واللّه لقد علم اصحاب النبي (ص) اني من اعلمهم بكتاب اللّه وما انا بخيرهم(8).
3 - عن ابي الطفيل : قال شهدت علياً (ع) يخطب وهو يقول سلوني فو اللّه لا تسألوني عن شيء الا اخبرتكم، وسلوني عن كتاب اللّه فواللّه ما من آية الا وانا اعلم أبليل نزلت ام بنهار ام في سهل ام في جبل(3).
4 - عن نصير بن سليمان الاحمسي عن ابيه عن علي (ع) قال : واللّه ما نزلت آية الا وقد علمت فيم نزلت، واين نزلت ان ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سؤولاً(9).
فنحن نلاحظ في هذه النصوص ان بذور المعرفة التفسيرية القائمة على العناية والتخصص، انما كانت على مستوى خاص من الصحابة الامر الذي أدى الى ولادة التفاوت بين المسلمين في جميع المعارف الاسلامية، وبالتالي في خصوص المعرفة التفسيرية.
بعد هذا يمكننا ان نتصور بوضوح التطور الذي سارت به هذه المعرفة الخاصة حتى انتهت الى الفارق الكبير الذي اخذ يفصل مستوى الخبرة الخاصة عن مستوى الخبرة العامة الامر الذي سمح للباحثين ان يطلقوا علم التفسير على هذه الخبرة الخاصة التي كان يتمتع بها هؤلاء الاشخاص ومن اجل ان نتعرف على ملامح هذا الفاصل لا بد من ملاحظة العاملين التاليين:-
1 - ان المسلمين بصورة عامة اخذت معرفتهم التفسيرية تتضاءل بسبب تضاؤل خبرتهم العامة، لان التوسع الاسلامي جعل كثيراً من الافراد والشعوب تنضم الى الجماعة الاسلامية وهم لا يملكون ذلك المستوى العام من الخبرة، ففقدوا بعض العناصر التي كانت تعتمد عليها الخبرة العامة سواء كانت مرتبطة بالجانب اللغوي للقرآن ام بالجانب الاجتماعي والحياتي لهم فلم يكن الافراد الجدد تتوفر فيهم المعرفة اللغوية التي كانت متوفرة لدى عامة المسلمين الذين عاصروا نزول الوحي كما لم يكونوا مطلعين على الحوادث التأريخية التي ارتبطت بها بعض الآيات القرآنية والعادات والتقاليد العربية كما هو الحال بالنسبة الى الاشخاص الذين عاشوا هذه الاحداث والعادات والتقاليد.
2 - وفي الجانب الآخر نجد ان الخبرة الخاصة اخذت بالتضخم والنمو نتيجة الشعور المتزايد بالحاجة الى فهم القرآن، ومواجهة المشاكل الجديدة على ضوء مفاهيمه وأفكاره. وكثرة طلب تفهم القرآن من قبل المسلمين الجدد الذين يريدون أن يتعرفوا على الاسلام بجوانبه المتعددة من خلال تعرفهم على القرآن الكريم الذي يقوم بدور المعبر الصحيح عنه.
ولعلنا نجد في النص التأريخي التالي ما يعبر لنا عن هذا التفاوت في المعرفة بين الصحابة هذا الشيء الذي نريد ان نتصوره كبداية لتكون علم التفسير.
عن مسروق : «جالست اصحاب محمد (ص) فوجدتهم كالاخاذ «الغدير» فالاخاذ يروي الرجل والاخاذ يروى الرجلين، والاخاذ يروى العشرة والاخاذ يروى المائة، والاخاذ لو نزل به اهل الارض لاصدرهم(10) وهكذا تكوّن التفسير في بدء بدئه.
التفسير في عصر الرسول (ص)
بالرغم من أن القرآن الكريم تميز باسلوب فريد في اللغة العربية، وصل به الى مستوى الاعجاز، فقد جاء وفقاً للنظام العام للغة العربية، وتطبيقاً لقواعدها ومناهجها في التعبير، ومتفقاً مع الذوق العربي العام في فنون الحديث وعلى هذا الاساس كان يحظى بفهم اجمالي من معاصري الوحي، على وجه العموم، ولاجل ذلك كان البيان القرآني يأخذ بأَلبابِ المشركين، ويفتح قلوبهم للنور، وكثيراً ما اتفق للشخص ان يستجيب للدعوة، ويشرح اللّه صدره للاسلام بمجرد ان يسمع عدة آيات من القرآن، فلولا وجود فهم اجمالي عام للقرآن، لم يكن بالامكان، ان يحقق القرآن هذا التأثير العظيم السريع في نفوس الافراد الذين عاشوا البيئة الجاهلية وظلامها، ولكن هذا لا يعني ان معاصري الوحي، وقتئذ كانوا يفهمون القرآن كله فهماً كاملاً شاملاً من ناحية المفردات، والتراكيب بنحو يتيح لهم ان يحددوا المدلول اللفظي لسائر الكلمات والجمل والمقاطع التي اشتمل عليها القرآن الكريم كما زعم ابن خلدون حيث قال في مقدمته «ان القرآن نزل بلغة العرب وعلى اساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته، وتراكيبه».
فان نزول القرآن بلغة العرب وعلى اساليب بلاغتهم لا يكفي وحده دليلاً على انهم كانوا على وجه العموم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته، وتراكيبه ويدركون كل ما يدل عليه اللفظ القرآني من احكام ومفاهيم، لأن كون الشخص من ابناء لغة معينة لا يعني اطلاعه عليها اطلاعاً شاملاً، واستيعابه لمفرداتها وأساليبها في التعبير، وفنونها في القول، وانما يعني فهمه للغة بالقدر الذي يدخل في حياته الاعتيادية ومن ناحية اخرى لا يتوقف فهم الكلام واستيعابه على المعلومات اللغوية فحسب بل يتوقف اضافة الى ذلك على استعداد فكري خاص، ومران عقلي يتناسب مع مستوى الكلام، ونوع المعاني التي سيق لبيانها، واذا كان العرب، وقتئذ يعيشون حياة جاهلية من القاعدة الى القمة ويعبرون عن تراث جاهلي سيطر على مختلف شؤون حياتهم قروناً عديدة، فمن الطبيعي ان لا يتيسر لهم حين الدخول في الاسلام - بصورة تلقائية - الارتفاع ذهنياً وروحياً الى المستوى الذي يتيح لهم استيعاب مدلولات اللفظ القرآني، ومعاني الكتاب الكريم الذي جاء ليهدم الحياة الجاهلية ويقوض اسسها، ويبني الانسان من جديد ومن ناحية ثالثة نحن نعرف ان عملية فهم القرآن الكريم لا يكفي فيها النظر الى جملة قرآنية او مقطع قرآني بل كثيراً ما يحتاج فهم هذا المقطع أو تلك الجملة الى مقارنة بغيره مما جاء في الكتاب الكريم أو الى تحديد الظروف والملابسات، وهذه الدراسة المقارنة لها قريحتها، وشروطها الفكرية الخاصة، وراء الفهم اللغوي الساذج. وهكذا نعرف ان طبيعة الاشياء تدل على ان الصحابة كانوا يفهمون القرآن فهماً اجمالياً، وانهم لم يكونوا على وجه العموم يفهمونه بصورة تلقائية فهماً تفصيلياً يستوعب مفرداته، وتراكيبه.
الشواهد على عدم توفر الفهم التفصيلي
وهذا الذي تدل عليه طبيعة الاشياء اكدته أحاديث، ووقائع كثيرة دلت على ان الصحابة كانوا كثيراً ما لا يستوعبون النص القرآني ولا يفهمون معناه اما لعدم اطلاعهم على مدلول الكلمة القرآنية المفردة من ناحية لغوية، أو لعدم وجود استعداد فكري يتيح لهم فهم المدلول الكامل أو لفصل الجملة أو المقطع القرآني عن الملابسات والامور التي يجب ان يقرن المقطع القرآني بها لدى فهمه.
واليكم عدداً من هذه الأحاديث والوقائع : -
1 - عن الحاكم في المستدرك ان انس قال بينا عمر جالس في اصحابه اذ تلا هذه الآية (فانبتنا فيها حباً وعنباً، وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً) ثم قال هذا كله عرفناه فما الأب قال وفي يده عصية يضرب بها الارض فقال هذا لعمر اللّه التكلف فخذوا ايها الناس بما بين لكم فاعملوا به، وما لم تعرفوه فَكِلُوهُ الى ربِّه.
وروي أيضاً ان عمر كان على المنبر فقرأ «او يأخذهم على تخوف» فسأل عن معنى التخوف فقال له رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص، وجاء عن ابن عباس انه قال : كنت لا ادري ما فاطر السموات حتى أتاني اعرابيان في بئر فقال احدهما : انا فطرتها يقول أنا ابتدأتها. كما روي عنه في تفسير الطبري انه سأل أبا الجلد عن معنى البرق في الآية 13 من سورة الرعد فذكر له ان معناه هنا المطر.
2 - وجاء في تفسير الطبري ان عمر سأل الناس عن هذه الآية (أيود أحدكم ان تكون له جنة من نخيل واعناب... الآية) فما وجد أحداً يشفيه حتى قال ابن عباس وهو خلفه : يا أمير المؤمنين : انِّي اجد في نفسي منها شيئاً فتلفت اليه فقال : تحول ههنا لم تحقر نفسك ؟ قال : هذا مثل ضرَبَهُ اللّه عز وجل. فقال أيَوَدُّ احدكم ان يعمل عمره بعمل أهل الخير واهل السعادة حتى اذا كان احوج ما يكون الى ان يختمه بخير حين فني عمره، واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله فحرقه وهو احوج ما يكون اليه.
وعن البخاري : ان عدي بن حاتم لم يفهم معنى قوله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الاسود من الفجر) وبلغ من امره أن أخذ عقالاً ابيض وعقالاً اسود فلما كان بعض الليل نظر اليهما فلم يستبينا فلما اصبح أخبر الرسول بشأنه فافهمه المراد.
3 - وروي ان عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر فقال : ان قدامة شرب فسكر فقال عمر : من يشهد على ما تقول قال الجارود : ابو هريرة يشهد على ما أقول فقال عمر : يا قدامة، اني جالدك قال واللّه لو شربت كما يقولون ما كان لك ان تجلدني قال عمر : ولم ؟ قال : لأن اللّه يقول : «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا اذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا واحسنوا» فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا واحسنوا شهدت مع رسول اللّه بدراً وأُحداً والخندق والمشاهد فقال عمر : ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس : ان هذه الآيات انزلت عذراً للماضين وحجة على الباقين، لأن اللّه يقول : (يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) قال عمر صدقت.
فهذه الوقائع تدل على أن الصحابة كثيراً ما كانوا لا يفهمون القرآن بصورة تلقائية، ويحتاجون في فهمه الى السؤال، والبحث، اما لعدم الاطلاع على المدلول اللغوي للكلمة كما في القسم الاول، او لعدم الارتفاع فكرياً الى مستوى اغراض القرآن ومعانيه كما في القسم الثاني، أو للنظرة التجزيئية التي ورطت قدامة بن مظعون في فهم خاطئ للآية الكريمة في القسم الثالث.
ويمكننا ان نضيف الى ما تقدم نقطة اخرى ايضاً وهي : ان الآية قد تكون من الناحية اللغوية في مستوى معلومات الشخص ولكنه يبقى مع ذلك عند محاولة استيعاب المعنى بحاجة الى البحث، والسؤال لتعيين المصداق الذي يتجسد فيه مدلول اللفظة ففي قوله تعالى : (والفجر وليال عشر) من الطبيعي ان يعرف الصحابة جميعاً بحكم نشأتهم العربية معنى كلمة ليال ومعنى كلمة عشر، ولكن يبقى بعد ذلك ان يعرفوا المصداق، وما هي تلك الليالي العشر التي عناها اللّه تعالى. وكذلك الامر في قوله تعالى : (والعاديات ضبحاً) (والذاريات ذرواً) فالمعرفة باللغة وحدها لا تكفي في هذه المجالات.
وهكذا نستنتج ان المسلمين في عصر الرسول (ص) لم يكن الفهم التفصيلي للقرآن ميسراً لهم على وجه العموم بل كانوا في كثير من الاحيان بحاجة الى السؤال والبحث والاستيضاح لفهم النص القرآني.
دور الرسول الاعظم في التفسير
وكان من الطبيعي ان يقوم الرسول الاعظم بدور الرائد في التفسير، فكان هو المفسر الاول يشرح النص القرآني، ويكشف عن اهدافه، ويقرب الناس الى مستواه كلاً حسب قابلياته، واستعداده الخاص، ويحل للمسلمين ما تعترضهم من مشاكل في تفهم النص الكريم، وتحديد معطياته وما يلتبس عليهم من احكام ومفاهيم، لأن النبي بوصفه صاحب الرسالة، ومهبط الوحي كان قد اعد اعداداً الهياً لهذه المهمة كغيرها من مهام الدعوة، والرسالة، وتكفل اللّه تعالى له بالحفظ والبيان (ان علينا جمعه وقرآنه فاذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم ان علينا بيانه) ولا يختلف المسلمون في الدور الرائد الذي قام به النبي الاعظم بوصفه المفسر الاول للقرآن الى جانب دوره الرائد في مجال التطبيق لمفاهيم القرآن ونظرته العامة الى الكون والحياة.
ولكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد عادة هو السؤال عن حدود التفسير الذي مارسه الرسول الاعظم، ومداه فهل شمل القرآن كله بأن كان يفسر الآيات تفسيراً شاملاً، أو اقتصر على جزء منه أو كان يتناول الآيات التي يستشكل الصحابة في فهمها ويسألون عن معناها فحسب.
فهناك من يعتقد ان النبي (ص) لم يفسر الا آيات من القرآن، ويستند في ذلك أصحاب هذا القول الى روايات تنفي أن يكون رسول اللّه (ص) قد فسر القرآن كله تفسيراً شاملاً، وعلى رأس هؤلاء السيوطي : فمن تلك الروايات ما اخرجه البزار عن عائشة من ان رسول اللّه ما كان يفسر الا آياً بعدد، واهم ما يعزز هذا القول هو طبيعة الاشياء، لأن ندرة ما صح عن الصحابة من التفسير المأثور عن النبي (ص) تدل على ان النبي (ص) لم يكن قد فسر للصحابة على وجه العموم آيات القرآن جميعاً تفسيراً شاملاً والا لكثرت روايات الصحابة بهذا الشأن، ولما وجدنا الكثرة الكاثرة منهم أو كبار رجالاتهم يتحيرون في معنى آية، او كلمة من القرآن ويغيب عنهم حتى المدلول اللفظي للنص، والعبرة المباشرة التي يستهدفها كما سبق في الروايات والوقائع المتقدمة.
ولكن توجد في مقابل ذلك ادلة وشواهد الى أن النبي (ص) كان يقوم بعملية تفسير شامل للقرآن كله، ولعل في طليعة ذلك قوله تعالى (كما ارسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا، ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون).
وقوله تعالى (وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون).
وطبيعة الاشياء حين ننظر اليها من زاوية اخرى غير الزاوية التي نظرنا من خلالها في اطار القول الاول تدل على أن النبي قد فسر القرآن تفسيراً شاملاً كاملاً لاننا عرفنا من ناحية ان الفهم الاجمالي للقرآن لم يكن كافياً لكي يفهم الصحابة القرآن فهماً شاملاً دقيقاً، ولم يكن انتساب الصحابة غالباً الى اللغة العربية ضماناً كافياً لاستيعاب النص القرآني، وادراك معانيه، ومن ناحية اخرى نحن نعرف : ان القرآن لم يكن في حياة المسلمين مجرد نص أدبي أو اشياء ترتل ترتيلاً في عباداتهم، وطقوسهم، وانما كان الكتاب الذي انزل لاخراج الناس من الظلمات الى النور، وتزكيتهم وتثقيفهم والارتفاع بشتى مستوياتهم، وبناء الشخصية الاسلامية الواعية للفرد والاسرة والمجتمع.
ومن الواضح ان هذا الدور العظيم لا يمكن للقرآن الكريم ان يؤديه بصورة كاملة شاملة ما لم يفهم فهماً كاملاً شاملاً، ويصل المسلمون الى اهدافه ومعانيه، ويندمجون بمفاهيمه، ومصطلحاته، وأما اذا ترك القرآن بدون تفسير موجه توجيهاً رسالياً فسوف يفهم من قبل المسلمين ضمن اطاراتهم الفكرية، وعلى المستوى الثقافي والذهني الذي كان الناس يعيشونه، وقتئذ، وتتحكم في تفسيره كل الرواسب، والمسبقات الذهنية التي كانت لا تزال تتحكم في كثير من الاذهان.
وهكذا نجد انفسنا امام تناقض بين قولين لكل منهما شواهده ومعززاته، ويحتاج هذا التناقض الى حل وقد لا نجد حلاً منطقياً اقرب الى القبول من القول : بأن النبي (ص) فسر القرآن الكريم على مستويين فقد كان يفسره على المستوى العام في حدود الحاجة، ومتطلبات الموقف الفعلي، ولهذا لم يستوعب القرآن كله. وكان يفسره على مستوى خاص تفسيراً شاملاً كاملاً بقصد ايجاد من يحمل تراث القرآن، ويندمج به اندماجاً مطلقاً بالدرجة التي تتيح له أن يكون مرجعاً بعد ذلك في فهم الامة للقرآن، وضماناً لعدم تأثر الامة في فهمها باطارات فكرية خاصة ومسبقات ذهنية، او رواسب جاهلية. ونحن اذا فسرنا الموقف على هذا الضوء، وجدنا انه يتفق مع طبيعة الاشياء من كل ناحية فندرة ما صح عن الصحابة من الروايات عن النبي (ص) في التفسير مردها الى ان التفسير على المستوى العام لم يكن يتناول جميع الآيات بل كان يقتصر على قدر الحاجة الفعلية، ومسؤولية النبي (ص) في ضمان فهم الامة للقرآن، وصيانته من الانحراف يعبر عنها المستوى الخاص الذي مارسه من التفسير فقد كان لا بد للضمان من هذا المستوى الخاص، ولا يكفي المستوى العام ولو جاء التفسير مستوعباً لانه يجيء عندئذ متفرقاً ولا يحصل الاندماج المطلق الذي هو شرط ضروري لحمل أمانة القرآن.
ونفس المخطط كان لا بد من اتباعه في مختلف الجوانب الفكرية للرسالة من تفسير وفقه وغيرهما.
وهذا الحل المنطقي للموقف تدعمه النصوص المتواترة الدالة على وضع النبي (ص) لمبدأ مرجعية أهل البيت (ع) في مختلف الجوانب الفكرية للرسالة، ووجود تفصيلات خاصة لدى أهل البيت (ع) تلقوها عن النبي (ص) في مجالات التفسير والفقه وغيرهما.
اما النصوص التي تمثل مبدأ مرجعية أهل البيت في الجوانب الفكرية للرسالة فهي كثيرة منها حديث الثقلين وللتوسع في ذلك مجاله الانسب في دروس الفقه، ونقتصر هنا على ذكر كلام لامير المؤمنين علي عليه السلام يصور الموقف وفقاً لما استنتجناه، ويتحدث عن المستويين اللذين كان يمارسهما في حياته واليكم الحديث :
اخرج ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن ابراهيم بن هاشم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن ابراهيم بن عمر اليماني عن أبان بن ابي عياش عن سليم بن قيس الهلالي قال قلت لأمير المؤمنين (ع) : اني سمعت من سلمان والمقداد وابي ذر شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن النبي (ص) غير ما في أيدي الناس ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الاحاديث عن نبي اللّه (ص) انتم تخالفونهم فيها وتزعمون بأن ذلك كله باطل افترى الناس يكذبون على رسول اللّه (ص) متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم؟ قال فأَقبل عليَّ وقال :
قد سألت فافهم الجواب ان في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وحفظاً ووهماً وقد كذب على رسول اللّه (ص) على عهده حتى قام خطيباً فقال : (أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) ثم كذب عليه من بعده وانما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس رجل منافق يظهر الايمان متصنع بالاسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول اللّه (ص) متعمداً فلو علم الناس انه منافق كذاب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوه ولكنهم قالوا هذا صحب رسول اللّه ورآه وسمع منه وهم لا يعرفون حاله وقد أخبره اللّه عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عز وجل :
(واذا رأيتهم تعجبك أجسامهم واِن يقولوا تسمع لقولهم).
ثم بقوا بعده... فهذا أحد الاربعة.
ورجل سمع من رسول اللّه (ص) فلم يحفظه على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمد كذباً فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول : أنا سمعت من رسول اللّه (ص) فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو انه وهم لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول اللّه شيئاً أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ولو علم انه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون اذ سمعوه منه انه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على رسول اللّه مبغض للكذب خوفاً من اللّه، وتعظيماً لرسول اللّه (ص) لم يسهُ بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ فان أمر النبي (ص) ناسخ ومنسوخ وخاص وعام ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول اللّه الكلام له وجهان، كلام عام وكلام خاص مثل القرآن.
وقال اللّه عز وجل في كتابه : (ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى اللّه به ورسوله، وليس كل أصحاب رسول اللّه كان يسأله عن الشيء فيفهم وكان منهم من لا يسأله ولا يستفهمه حتى كانوا يحبون أن يجيء الاعرابي والطاري، فيسأل رسول اللّه (ص) حتى يسمعوا وقد كنت ادخل على رسول اللّه (ص) كل يوم دخلة، وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم اصحاب رسول اللّه (ص) انه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري فربما كان في بيتي يأتيني رسول اللّه (ص) وكنت اذا دخلت عليه بعض منازله اخلاني، وأقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري، واذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بنيَّ وكنت اذا سألته أجابني، واذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني فما نزلت على رسول اللّه (ص) آية من القرآن الا أقرأنيها واملاها عليَّ فكتبتها بخطي، وعلمني تأويلها، وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها، ودعا اللّه أن يعطيني فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب اللّه تعالى، ولا علماً أملاه عليَّ وكتبته منذ دعا اللّه لي بما دعا، وما ترك شيئاً علمه اللّه من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية الا علمينه وحفظته فلم أنس حرفاً واحداً. اذاً فمصدر التفسير إنَّما هو ما اُخذ عن الرسول (ص).
____________________
(1) التوبة آية 37.
(2) البقرة آية 189.
(3) المائدة آية 90.
(4) البخاري، فتح الباري 9/249.
(5) راجع الفصل التالي (التفسير في عصر الرسول).
(7) الاتقان : 2/172. ط 1368.
(8) البخاري، فتح الباري ج 1/ص 423 ط. 1378.
(9) المصدر نفسه ج 2/ص 187.