نقد التفسير في عصر الصحابة والتابعين(*)
يجدر بنا - ونحن نريد ان نمحّص نتاج هذه المرحلة التفسيرية - أن نستذكر حصيلة أبحاثنا السابقة فيما يتعلق بالمحتوى الداخلي لرجال المرحلة من الصحابة والتابعين. ذلك لان المعرفة التفسيرية تتأثر بطبيعة الحال - بخصائص هذا المحتوى ومقوماته لانها عطاؤه ونتاجه.
ولا بد لنا قبل هذا من أن نتعرف على هذا المحتوى الداخلي فنقسمه الى جانبين رئيسين :
الاول : الجانب الفكري، ونعني به مقدار الثقافة الاسلامية التي كان يتمتع بها الصحابة وما يستلزم ذلك من وعي وشعور بالمسؤولية تجاه الثقافة ومعرفة الاساليب العملية لحمايتها.
الثاني : الجانب الروحي، ونعني به درجة التفاعل مع الثقافة الاسلامية والامتزاج الروحي والوجداني بها ومدى الايمان بصحتها والاخلاص لها.
وبهذا الصدد عرفنا سابقاً : ان الصحابة بالنسبة الى الجانب الاول كانوا على جانب من السذاجة الفكرية وذلك بحكم ان الرسول الاعظم (ص) لم يخطط الى تهيئة الصحابة لقيادة التجربة الاسلامية بشكل رئيسي وانما أوكل القيادة الى أشخاص معينين هيأهم لهذه المهمة القيادية(3) ولكنهم اقصوا عنها بعد وفاة الرسول(4). فكان من نتائج ذلك :
أ - عدم استيعاب الصحابة للثقافة الاسلامية، نتيجة لعدم تفسير الرسول الاعظم للقرآن بشكل شامل على المستوى العام.
ب - سذاجة الصحابة في ضبط وحماية أقوال الرسول وسلوكه.
ج - بقاء الصحابة على سذاجتهم الفكرية وميلهم للبساطة وعدم التعمق وتأثرهم في فهم الاسلام باطاراتهم الفكرية الخاصة.
وكما عرفنا - سابقاً - ان الصحابة بالنسبة الى الجانب الثاني كانوا مختلفين في درجة الانفعال بالثقافة الاسلامية والاخلاص لها نتيجة لمختلف الظروف الموضوعية التي أحاطت ظروف انتمائهم الى الاسلام واتصالهم بالنبي (ص) ومدى طموحهم وآمالهم. وقد رجعت الامة الى جميع هؤلاء دون تمييز بين المخلصين منهم أو الاقل اخلاصاً أو المنافقين. فكان من نتائج ذلك تأثر الثقافة الاسلامية التي اعطيت للمسلمين من قبل الصحابة :
أ - بالاتجاهات السياسية المختلفة التي عاشتها تلك الفترة.
ب - بالاتجاهات المصلحية ذات الطابع الشخصي أو القبلي.
مظاهر هذه النتائج في المعرفة التفسيرية
وقد تأثرت المعرفة التفسيرية بهذه النتائج التي فرضها المحتوى الداخلي للصحابة على الثقافة الاسلامية فاتسمت بدورها بنفس نقاط الضعف التي اتسمت بها الثقافة الاسلامية بشكل عام.
ومن أجل أن نحدد هذه النقاط ونوضح مدى تأثير المعرفة التفسيرية بها يجدر بنا أن نذكر بعض الشواهد من المعرفة التفسيرية على مظاهر نقاط الضعف. ولنأخذ كل واحد منها بشكل مستقل.
أولاً - عدم استيعاب الصحابة للثقافة الاسلامية :
لسنا بحاجة هنا الى أن نرجع مرة اخرى لنعرف مدى صحة هذا الحكم بعد أن عرفنا ذلك في بحث (التفسير في عصر الرسول) ولا نريد هنا الا ان نبحث عن المظاهر التي أشاعتها في المعرفة التفسيرية نقطة الضعف هذه، ويمكن أن نلخص ذلك في النقاط التالية :
أ - ان طبيعة المرحلة التي عرفناها سابقاً وهي مواجهة القرآن الكريم كمشكلة لغوية يمكن أن ترجع ببعض جوانبها الى هذه النقطة. لان الصحابة حين فقدوا العنصر الخارجي الذي كان من الممكن أن يساهم في معرفتهم التفسيرية مساهمة فعالة كان من الطبيعي أن ينحصر نتاجهم التفسيري بما يقتضيه المحتوى الداخلي لهم. ولم يكن ذلك المحتوى بالمستوى الذي يمكنه أن يواجه القرآن الكريم بشكل أعمق من المشكلة اللغوية فجاءت المرحلة وهي لا تعنى بكثير من الجوانب العقلية والاجتماعية التي اهتمت بها مراحل متأخرة.
ب - انفتاح باب الرأي والاستحسان الامر الذي أدى الى نتائج خطيرة في المعرفة التفسيرية وانتهى الى ظهور الصراع التاريخي بين مذاهب التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي. ولعلنا نوفق لدراسة هذا الصراع وأسبابه بشكل خاص.
ج - اعتماد الصحابة على أهل الكتاب في تفسير القرآن لأن السبب الرئيسي لوقوع الصحابة في مثل هذه المفارقة هو الفراغ الذي كانوا يعانونه في المعرفة التفسيرية نتيجة لعدم الاستيعاب من جانب والمتطلبات الفكرية التي كانت تواجههم كقادة فكريين من جانب آخر. وسوف نعرف قريباً مدى الخطأ الذي وقع فيه بعض الصحابة نتيجة هذا الرجوع منهم الى هذا المصدر في التفسير.
د - بعض المضاعفات التي سوف نتعرف عليها في نقاط الضعف الآتية حيث كان من الممكن تفادي هذه الاخطاء لو تهيأت للصحابة الظروف التي تجعلهم في مستوى الثقافة الاسلامية في التفسير. ومن هذه المضاعفات تأثرهم ببعض الاطارات الفكرية الخاصة في تفسيرهم للقرآن، أو فهمهم للاستعارة القرآنية بشكل آخر لا ينسجم مع الواقع القرآني. بسبب عدم اطلاعهم على الاطار الفكري لتلك الاستعارة القرآنية.
ثانياً - سذاجة الصحابة في ضبط وحماية المعرفة الاسلامية
لم يكن أكثر الصحابة في عصر الرسول الاعظم يتمتعون بالمقدار الكافي من الوعي للظروف والمضاعفات وما يستدعيه مرور الزمن وانتهاء عصر الوحي من وضع ضمانات لحماية المعرفة التفسيرية وغيرها من المعرفة الاسلامية وضبطها. فنجم عن هذا الاهمال مجموعة من المضاعفات ونقاط الضعف أصابت جوانب من المعرفة التفسيرية.
فقد عرفنا : ان المعرفة التفسيرية في عصر الصحابة والتابعين اعتمدت على مجموعة من المصادر كان منها النص القرآني، والمأثور عن الرسول، وأقوال الصحابة الذين عاشوا الاحداث الاسلامية التي ارتبط بها النص القرآني. ومن أجل أن تكون هذه المصادر ذات دور ايجابي في عملية التفسير كان يجب أن تكون موضع اهتمام في صيانتها وضبطها وحمايتها ليمكنها أن تؤدي مهمتها في تغذية المعرفة التفسيرية.
ونحن نلاحظ مجموعة من نقاط الضعف اكتنفت عملية الاستفادة من هذه المصادر نتيجة للسذاجة في الضبط والحماية.
1 - نلاحظ ان بعض الالفاظ القرآنية تقرأ بأساليب مختلفة تؤدي في بعض الاحيان الى الاختلاف في معنى اللفظ ومؤداه، هذا الشيء الذي أدى في نهاية تطوره الى ولادة علم القراءات.
وقد عولجت ظاهرة تعدد القراءات في البحوث التفسيرية العامة على اساس ان القرآن الكريم جاء به الوحي الى الرسول الاعظم (ص) بهذا الشكل المختلف.
ولكننا لا يمكن أن نقبل مثل هذه المعالجة بشكل مطلق وفي جميع الحالات خصوصاً في الحالات التي يكون لاختلاف القراءة تأثير على المعنى ويكون المعنى بدوره مرتبطاً بحكم كما في (يطهران) بالتخفيف و(يطهّرن) بالتشديد. اذ في مثل هذه الحالة لا يمكن أن نتعقل الترديد في الحكم الشرعي المستفاد منها(5).
وحينئذ نجد أنفسنا أمام تفسيرين لهذه الظاهرة بشكل عام أو على الاقل في بعض الحالات :
الاول : هو اهمال ضبط الكلمات القرآنية بشكل معين في عهد الرسول من قبل بعض الصحابة أنفسهم أو نسيان الطريقة الصحيحة لنطق اللفظ نتيجة عدم التدوين.
الثاني : تدخل عنصر الاجتهاد والاستحسان في القراءة بعد فقدان حلقة الوصل التي كانت تربط بين بعض الصحابة والرسول.
ومن الممكن أن يكون السببان مشتركين في نشوء هذه الظاهرة.
ويبدو لنا بشكل واضح تأثير اختلاف القراءات على فهم النص القرآني اذا لاحظنا هذا النص التاريخي عن مجاهد أحد كبار مفسري التابعين : (لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج الى أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن)(6).
2 - ولعل من أبرز مظاهر عدم الضبط وأبعدها أثراً في القرآن الكريم هو ما يقال عن نسخ التلاوة، حيث لا يمكن تفسير بعض النصوص التي تتحدث عن هذا النسخ - اذا أردنا أن نحسن الظن في الصحابي الذي رواها - الا على أساس انه كان يسمع من النبي (ص) الحديث أو الدعاء فيتصوره قرآناً أو يختلط عليه الامر بعد ذلك. والا فكيف نفسر ادعاء عمر بن الخطاب آية الرجم مع أنه يصرح انها مما مات عنه الرسول وهو يقرأ من القرآن ؟ !!(7).
3 - والى جانب القرآن الكريم تعرض المأثور عن رسول اللّه الى هذه الظاهرة ونلاحظ ذلك في اختلاف ما يروى عن رسول اللّه (ص) في التفسير(8).
كما نجد مثل هذا الشيء في نقل الحوادث التاريخية التي ارتبطت بها بعض الآيات القرآنية. حيث نلاحظ مفارقات كثيرة في ذلك مما أدى في بعض العصور المتأخرة الاسلامية الى نشوء بعض الفرق والمذاهب المختلفة. ويظهر ذلك بمراجعة أي كتاب من كتب أسباب النزول(9) ومن الواضح أن تفسير هذه الظاهرة انما يكون بموجب نفس الاسس السابقة التي عللنا بها ظاهرة تعدد القراءات حيث يمكن ارجاع ذلك لعدم ضبط الصحابة لاقوال الرسول وسلوكه أو الى عدم التدوين الذي أدى في عصرنا ما بعد الصحابة الى هذا الاختلاط.
4 - وقد تعرضت المعرفة التفسيرية الى نقطة ضعف هامة نتيجة لهذه البساطة في الشعور بالمسؤولية وعدم التقدير الواعي لظروف الحماية وأساليبها. حيث نجد المرحلة تعتمد بشكل رئيسي على أقوال أهل الكتاب ونظرياتهم.
_____________________
(*) حينما ندرس التفسير في عصر الصحابة والتابعين لا يفوتنا أن نؤكد على أمرين منعاً لما يمكن أن يقع فيه البعض من الالتباس :
1 - اننا ندرس الصحابة على أساس المستوى العام الذي كان يتمتع به هؤلاء الرجال والذي كان يمثل روح ذلك العصر من ناحية فكرية واجتماعية، وهذا لا يعني وجود بعض الرجال من الصحابة والتابعين ممن كانوا على درجات متفاوتة وكبيرة من الوعي والاخلاص والعلم.
2 - لا يمكننا - بالرغم من كل نقاط الضعف التي اصيبت بها المعرفة التفسيرية في عصر الصحابة والتابعين - ان ننكر عظيم الخدمات التي قام بها هؤلاء الرجال والعطاء الذي وهبوه للمعرفة التفسيرية. الشيء الذي كان موضع استلهام كثير من المدارس التفسيرية حتى عصرنا الحاضر.
(3) راجع التفسير في عصر الرسول.
(4) ذكرنا ذلك في التمهيد من تاريخ التفسير.
(5) يحسن بهذا الصدد مراجعة البيان في تفسير القرآن لآية اللّه الخوئي (المدخل) ص : 102 -117.
(6) الترمذي : 11/6.
(7) البخاري : 4/120 باب رجم الحبلى من الزنا في كتاب الحدود. والاتقان 1/58.
(8) كمثال على ذلك قارن بين الروايات التي يذكرها السيوطي في الاتقان 2/191 - 205.
(9) وبصدد أسباب النزول نجدعلماء التفسير يأخذون قول الصحابي بمنزلة المرفوع في أسباب النزول من دون تردد والكثير منهم يعمم هذا الحكم الى جوانب المعرفة التفسيرية. في الوقت الذي يجب علينا كباحثين أن نميز بين الصحابة الذين عاشوا هذه الاحداث عن كتب وشاهدوا تفاصيلها. وبين الآخرين الذين اعتمدوا في نقلهم لها على الشائعات والاقاويل. الامر الذي يؤدي في أكثر الاحيان الى الالتباس في نقل الخصوصيات والتفصيلات. فنحن حين نشاهد بعض المسلمين يختلفون في المسجد الذي اسس على التقوى هل هو مسجد (قبا) أو مسجد الرسول (ص) في زمن الرسول ويرفعون هذا الاختلاف للرسول الاعظم ليحكم فيه*.. نسمح لانفسنا أن نشكك في كل ما يروى عن الصحابة بهذا الشأن اذا لم يكن الشخص الراوي قد عاش الحادثة بنفسه