بعد البحث القرآني القيّم الذي تناوله الشهيد السيد البهشتي حول كيفية فهم القرآن، وتفسير القرآن وتأويله والذي نشر في العدد السابق «التاسع» من مجلتنا «رسالة الثقلين» ننشر الاسئلة التي طُرحت عليه وأجوبته عنها أدناه:
«التحرير»
س: طرح المفسرون السابقون الكثير من المسائل الفلسفيةوالعرفانية، ولكنهم لم يهتموا بالدور الاساس للقرآن في المجتمع، بنفس المقدار من الاهتمام بالمسائل الفلسفية والعرفانية، ولعلّ هذا أحد دوافع الافراط في هذا الموضوع، فكان أثر ذلك اِفراط على الجانب الاخر، أدّى اِلى جرّ المسائل كافة اِلى جانب المسائل الاجتماعية والثورية، أليست الاستنتاجات الفلسفية أو العرفانية التي يتوصّل اليها الفيلسوف أو العارف من خلال القرآن تفسيراً بالرأي؟
ج: قد يتمكّن الفيلسوف أو العارف من خلال تكامله في مجال الفكر والاخلاق والعمل من إدراك إشارة قرآنية لا يدركها من هو دونه، فلا يُعدّ فهمه خاطئاً ولا يوصم بأنه تفسير بالرأي، وإذا انسجم فهمه مع عبارة الاية، أي إذا كان ارتباط ألفاظ الاية وكلماتها وعباراتها بالمعنى والمفهوم الجديد واضحاً لنا، فمن الممكن قبوله على أنه معنى قرآني، وفي غير هذه الصورة لا نعده كذلك، وأقصى ما بوسع المفسّر أن يقوله: إن هذا هو فهمي للاية، دون ان يحمّل القرآن هذا الفهم.
وعلى هذا الاساس فمن الخطأ الحكم على هذه الاستنتاجات بالخطأ تماماً أو القبول بها تماماً، فلا يمكن أن نقبل على الفور كل ما يقوله صاحب تفسير معين، لانه فيلسوف قدير، أو عارف عظيم، أو أخلاقي كبير، إذ تجب مراعاة كل ما مرّ من ضوابط في تمحيص كلام أيّ كان، ليمكننا تعيين قيمته واعتباره.
واذا أراد هذا العارف أو الفيلسوف أو الاخلاقي أن يحمّل القرآن موضوعاً لا علاقة له ولا ارتباط مع ألفاظ القرآن، فعلينا أن نحذّره بأنه في عرضة لخطر التفسير بالرأي.
وقد انتقدت ـ بشكل مفصل ـ في كتابي «اللّه في القرآن» نموذجاً لذلك في تفسير آية: (سَنُريهِمْ آياتِنا في الافاقِ وَفي أنْفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيّنَ لَهُمْ اَنَّهُ الحَقُّ اَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ اَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيء شَهيدٌ)[1] إذ استفاد منها كل من ابن سينا وصدر المتألّهين (الملا صدرا) والمحقق الطوسي في موضوع فلسفي وعرفاني، فأوضحت أنه لا ارتباط أصلاً بين هذه الاية والموضوع الذي يتحدثون عنه ومعهم بعض المفسرين والمتخصصين الذين سبقوهم، بالشكل الذي يمكننا تحميله على القرآن.
فهؤلاء بينوا معنى الاية بشكل يعود فيه الضمير في قوله: (إنَّهُ الحَقُّ )الى الله تعالى. في حين أن هذا الضمير ـ حسب الظواهر القرآنية ـ يعود الى نفس القرآن، وعلى هذا الاساس لا يكون هناك ارتباط بين الاية وكل المواضيع التي كتبها ـ في عدة صفحات ـ صدر المتألهين، وكذلك ابن سينا والمحقق الطوسي في شرحه للاشارات.
ان إعظامي لابن سينا والمحقق الطوسي وصدر المتألهين لم يمنعني من انتقادهم، وقد كان نقدي لطريقتهم في تفسير القرآن وليس لارائهم الفلسفية، فليكن الموضوع في الفلسفة أيّاً كان، لكن هذا الموضوع الفلسفي لا يستفاد من هذه الاية.
س: ما هي السبل المتوفرة لمعالجة عدم الاهتمام بالنظرة الاجتماعية للقرآن؟
ج: إن الاسلام دين لا يصنع الانسان في جانب واحد فقط، انما يصنع الانسان ذا القدرة على التكامل في مختلف الابعاد. وبناء انسان بعدة أبعاد، وليس ببعد واحد، بحاجة ملحّة الى عدم الغفلة عن أهمية المسائل الاجتماعية للقرآن في أي فترة كانت. ونحن الان في عصر نحتاج فيه كثيراً الى معرفة رأي القرآن في المسائل والمتطلبات الاجتماعية. ولا تساعدنا كثيراً جهود السابقين لانعدامها على هذا الصعيد، فيجب أن نبذل جهوداً حثيثة في هذا المجال.
وكما تحدثت آنفاً، فعلى الانسان لكي يدرك إشارات القرآن في هذه المجالات ان يمتلك معرفة بموضوعها، وهو الانسان هنا، فيجب معرفة الابعاد الاجتماعية للانسان والتي ذكرها القرآن نفسه، ليمكن إدراك آيات بناء الانسان والمجتمع بصورة أفضل، ومثلما كان للعارفين في الفكر الفلسفي والعرفاني والاخلاقي والمتصل بالسير والسلوك درجة عالية من التكامل مكّنتهم من إدراك الاشارات القرآنية في تلك المجالات على وجه حسن، كذلك يجب على دارسي القرآن اليوم ان يوسعوا مطالعاتهم في المجالات الاجتماعية، ليمكنهم ـ انطلاقا من هذه الخلفية الذهنية ـ أن يدركوا الاشارات القرآنية القيّمة في هذه المجالات، ومن ثم يقدمونها للاخرين، على أن يلتزموا بكل المقدمات التي ذكرت سابقاً، وأن لا يحملوا القرآن استنتاجاتهم، وأن يعترفوا بأنها ليست الاستنتاجات الوحيدة التي يمكن التوصل اليها من هذه الايات، إنما بالامكان التوصل الى غيرها.
س: تستخدم طريقة الدراسة المقارنة في فهم القرآن وتفسيره، مثلا كان بحثكم حول «الوجودية» فيما يرتبط بالاسلام بحثاً رائعاً جداً، ونظراً لظهور مذاهب إنسانية واجتماعية جديدة في العالم، وأننا بحاجة إلى فهم مسائل الاسلام الايديولوجية فيما يتعلق بهذه المذاهب والمسائل التي تطرحها، فما هي الحدود التي يجوز فيها مقارنة استنتاجاتهم في مختلف المجالات مع استنتاجاتنا من الايات القرآنية؟
ج: لا شك ـ إجمالا ـ أن اتباع كل مذهب يطرحون على أنفسهم أسئلة لدى مواجهتهم آراء وعقائد الاخرين، ويبحثون عن أجوبتها من مذهبهم.
إن ما قمت به بشأن «الوجودية» والمذاهب الاخرى في ارتباطها بالقرآن أراه منطقياً ومعقولاً، إذ نذهب أولاً الى نفس هذه المذاهب لنفهمها جيداً، ومن من ثم نتعرف على المسائل الجديدة التي أجابت عنها تلك المذاهب، ثم نرجع الى القرآن لنرى جوابه عنها، دون أن ننتظر من القرآن نفس الجواب الذي أعطاه مذهب آخر، كأن نعود الى «الوجودية» فنتقبل أفكار هذا المذهب وآراءه ومواقفه حول المسائل الجديدة، ومن ثم نرجع الى القرآن لنتخذ منه ظهيراً للفكر الذي قبلناه، فهذه طريقة خطرة جداً وبداية للانحراف في فهم القرآن.
أما الطريقة الصحيحة فهي الرجوع الى «الوجودية» لنرى نظريات وآراء هذا المذهب حول المسائل المعروضة، ثم نرجع الى القرآن لنرى رأيه في هذه المسائل، سواء كان مماثلاً لرأي «الوجودية» أم معارضاً له، فنحن واقعاً نريد رأي القرآن حقاً دون الالتزام بفكر معين، ودون أن نكون بصدد اتخاذ سند قرآني لفكر مقبول سلفاً.
إن الكثيرين لم يراعوا هذا الاصل فيما يتعلق بالاسلام والمذاهب، فنرى افرادا من أصحاب الدراسات في المذهب الماركسي يقولون إن هذا المذهب يبرهن باستدلالاته الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية على أن الملكية الخاصة تمثّل أحد العوامل المهمة في ضياع الانسان ومسخ انسانيته، وإذا أردنا القضاء على الاعراض الناجمة عن ذلك فليس أمامنا غير سبيل واحد هو حذف الملكية الخاصة بكل أشكالها، فالملكية الخاصة تستدعي نوعاً من تنزل الانسان عن مقام الانسانية الشامخ، وهذه رؤية عرفانية وأخلاقية واجتماعية واقتصادية في آن واحد، وهذه الفكرة وجدت في الماركسية، وهناك من استحسنها، فعاد الى القرآن ليتخذ من الايات القرآنية ما يدعم هذا الرأي، فقال إن الاسلام لم يعترف بالملكية الخاصة أيضاً، مستنداً الى آيات مثل: (وَلِلّهِ ما في السَّمواتِ وَالاْرَضِ) لانه إذا كانت السماوات والارض ملكا لله فلا أحد إذاً يملكها!
إنه الفهم التأويلي المنحرف. فعندما يعتقد الشخص بحذف الملكية الخاصة، ويعود الى القرآن باحثاً عما يدعم اعتقاده، فلا مفرّ من انحرافه تلقائياً، لكنه إذا قال إن الماركسية تنفي الملكية الخاصة بصورة كاملة ولا تعترف بها، فهل إن القرآن ينفيها أيضاً، ام لا؟ واذا جاء الى القرآن بروح الالتزام والقبول بكل ما يراه القرآن، سواءٌ عارض الملكية الخاصة أو أيّدها، عندها يمكن القول أنه حقّا يطلب معرفة القرآن، لكننا للاسف نرى أن الرجوع الى القرآن يتم في الاغلب بالروح الاخرى، بمعنى انه يبحث عن سند لافكاره.
مما لا شكّ فيه أنه يمكننا القيام بمطالعات في المذاهب الفلسفية والعرفانية والاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ومن ثم نرى الى أي الامور تطرقت وما هو رأيها، وسنلتقي ـ بالطبع ـ خلال هذه المطالعات بقضايا ومواقف جديدة، ومن الطبيعي أن نتساءل عن رأي ديننا في تلك القضايا، فنعود الى القرآن دون أن نتوقع منه تأييد هذه الامور أو معارضتها، ودون أن نقرر سلفاً ان نستخرج من القرآن ما يدعم الرأي الذي استحسناه، فاذا رجعنا الى القرآن بهذه الروح فإنه أمر ممتاز، وطالما نصل في هذه المقارنة الى نتيجة تشير الى ان إحدى آيات القرآن تطرقت الى الموضوع قبل 14 قرناً من تطرّق مذهب معين إليه.
س: أي نوع من القيادة يمتلكها القائد غير المعصوم؟ ولو فرضنا قائداً اجتماعياً له القدرة على فهم القرآن، فهل يُقبل منه كل ما يستنبطه؟ وما هي درجة هذا القائد؟ هل هي درجة نائب الامام، أم يمكن ان تكون درجة اي قائد ديني كان؟
ج: لا علاقة مباشرة لهذا السؤال بموضوع بحثنا، إنما يعود الى مسألة الامامة والقيادة في الاسلام ـ بالمنظور الشيعي ـ في عصر الحضور، ومن بعده عصر الغيبة. قد تطرقت الى هذا الموضوع بشكل مفصل في بحوثي التفسيرية التي ألقيتها تحت عنوان «مدرسة القرآن»، وهنا أوضح ذلك بصورة ملخصة: ففي كل شكل من أشكال القيادة الاجتماعية، إذا لزم الشخص ان يكون مستقلاً في القيادة، فلا يعمل تحت إشراف قائد أعلى منه، فلا بدّ من توافر شروط أساسية فيه، فيجب ان يكون مجتهداً وعادلاً، ومن أهل الرأي، وأن يُظهر نُضجاً ومهارة ولياقة في تدبير الامور.
ومن هنا ففي عصر الغيبة تكون مقدرة امثال هؤلاء الافراد على الاستنباط من الايات القرآنية المرتبطة بمنصبهم ودورهم القيادي اقوى من الافراد الخارجين عن هذه الدائرة، وكذلك يكون إدراكهم للاشارات القرآنية في هذا المجال أفضل من الاخرين. أما العاملون تحت إشراف القائد، فليس من الضروري أن يكونوا مجتهدين، لانهم يأخذون الرأي منه حين الحاجة.
س: هناك تماثل بين العالَم والقرآن من زاوية كونهما مخلوقَين للّه تعالى، بمعنى أنه إذا كانت المعرفة بالعالم تزداد بتقدم البشرية ـ فإن الاصول والقوانين الكلية التي تحكم العالم ثابتة ولا تتغيّر، إنما المعرفة البشرية بالعالم هي التي تزداد دقة وعمقاً ـ فهل أن القرآن تلك المعجزة الخالدة الذي جاء لكل العصور والاجيال يماثل العالَم من هذه الناحية؟
ج: معلوم أن في القرآن إشارات يرتبط فهمها مباشرة بتكامل الفكر البشري، إلاّ أن هذا لا يعني أن معرفة القرآن تواكب معرفة الطبيعة في كل الحالات.
س: ألا يرشدنا وجود بعض المسائل التي لم ترد بشأنها أي إشارة في القرآن ـ كعدد ركعات الصلاة، وكون صلاة الصبح ركعتين وصلاة المغرب ثلاثاً وهكذا ومسائل اُخرى من الاحكام الاسلامية ـ الى عدم تحديد انفسنا في استنتاج كل شيء من القرآن، بل علينا الرجوع أيضاً الى سنة النبي وأحاديثه وأخبار الائمة الاطهار(عليهم السلام)؟
ج: لا يرتبط سؤالك أيضاً بموضوع بحثنا، ولكن لكونه من القضايا الراهنة فاستثمر الفرصة لاجيب عنه باختصار شديد:
في الحقيقة إن هذا السؤال موجّه لاولئك الذين يرفعون شعار: «حسبنا كتاب الله»، ويريدون التعرف عملياً على الاسلام من خلال القرآن فقط. ففيما يتعلق بالكتاب والسنة يجب الالتفات الى نقطتين، الاولى: أن الكتاب على قسمين:
1 ـ القسم الذي يمكن فهمه بدون السنّة.
2 ـ القسم الذي لا يمكن فهمه بدون السنة، ففهمه بوضوح مرتبط بالسنة، اذاً هذا أحد علل وعوامل المسألة القائلة بأن الكتاب سند للاسلام، كما أن السنّة سند له.
والثانية: إننا لا نستطيع استخراج الكثير من تفاصيل الاحكام من الكتاب، وبعبارة أخرى لا ينحصر التشريع وسنِّ القوانين وبيان الشريعة والمعارف الالهية بالقرآن فقط.
وهنا تبرز مسألة وهي: هل أن ما اُوحي للنبي كان القرآن فقط، أم أن النبي تلقّى وحياً آخر إضافة الى القرآن؟ من خلال التحقيقات الاخيرة التي أجريناها في هذا المجال، جمعنا أدلة من مختلف مصادر الشيعة وأهل السنة تبرهن بوضوح كبير على أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يتلقى إضافة الى الوحي القرآني وحيا آخر قطعاً. إذا صار معلوماً أن كل ما اُوحي للنبي(صلى الله عليه وآله) لم يُجمع في القرآن، وذلك لان ما جاء في القرآن كان ذلك القسم من الوحي الذي كان معجزاً، أي أن القرآن وحي له صفته الخاصة هي بيانه الاعجازي. وثمة وحي آخر ليست عبارته إعجازية. فالقرآن وحي، لكن ليس كل وحي قرآن، فقد اُوحي للنبي غير القرآن، وعلينا الاستناد الى قسمي الوحي في معرفة دين اللّه.
________________________________________
([1]) فصلت: 53 .