الحجّ في القرآن
  • عنوان المقال: الحجّ في القرآن
  • الکاتب: آية الله العظمى الشيخ جوادي آملي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 18:46:0 1-9-1403

يقول تعالي : (إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكّة مباركاً و هدي للعالمين * فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومَن دخله كان آمناً وللّه علي الناس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلاً ومن كفر فانَّ الله غني عن العالمين)(1).

 

صلة الآية بما سبقها :

لقد سُبقت الآية اكريمة الآنفة بقوله تعالي : (فاتّبعوا ملّة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)(2)،ثم جاء قوله تعالي : (انّ أول بيت وُضع للناس ...) والذي يدلنا علي هذا الترتيب انّ خطاب الآية ينصرف إلي اليهود الذين كانوا يزعمون انهم علي دين إبراهيم الخليل، فجاء القرآن يحاججهم : لو أنكم علي ملة إبراهيم الخليل فعلاً وحقّاً، إذاً لعظمتم البناء الإبراهيمي، واتّخذتموه قبلةً ومطافاً.

 

شبهة أهل الكتاب :

نستفيد من ظاهر الآية أيضاً انها جاءت ناظرة لشبهة كان يُلقي بها أهل الكتاب علي المسلمين، ومفاد الشبهة :

أولاً : لا مجال للباطل أن ينفذ إلي دين ابراهيم الخليل(عليه السلام). لذلك لا يصح القول بالنسخ الذي يذهب اليه المسلمون واتخذوا بمقتضاه الكعبة قبلة بدلاً من بيت المقدس .

فبيت المقدس لا زال في زعم أهل االكتاب هو قبلة المسلمين التي يجب أن يتولّوها كما كانوا يتولونها فعلاً قبل الهجرة إلي المدينة، وإنّ تحوّلهم عنه إلي الكعبة بذريعة النسخ لا يعدو أن يكون ضرباً من الوهم والخيال، لأنّ النسخ لا يجوز في حكم الله!

ثانياً : لقد أتيتم باطلاً في قولكم : إنَّ هذا السلوك هو من دين ابراهيم ; وفي زعمكم أنَّ ابراهيم(عليه السلام) كان مسلماً وأنكم مُتّبِعوُه . فأنتم اذن اجترحتم الباطل مرتين ; مرَّة حين قلتم بالنسخ ; ومرَّة حين نسبتم تصرفكم في تحويل القبلة إلي ابراهيم وقلتم إنكم تبعٌ له في ذلك!

 

معالجة شبهة أهل الكتاب :

إنَّ أول ما يمكن أن يقال في جواب الشبهة : إنَّ النسخ جائز وليس ثمة ما يدل علي استحالته.

ثمّ إنَّ الحكم الأصلي للقبلة كانَ يختص بالكعبة، يقول تعالي : (إنَّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة...) فابراهيم(عليه السلام) كان قد اضطلع بمهمة بناء الكعبة ورفع قواعدها واتخاذها قبلة ومطافاً قبل أن يقوم سليمان(عليه السلام) ببناء بيت المقدس في فلسطين.

لذا فإنَّ رجوع المسلمين إلي الكعبة قبلةً وترك بيت المقدس، إنما هو عودٌ إلي السيرة الابراهيمية، ورجوع إلي القبلة الأُلي التي تولاّها ابراهيم، ومن اقتفي أثره من أنبياءالله.

هذه الحقيقة يحدثنا بها القرآن حين يعرض سبحانه إلي سيرة ابراهيم. فابراهيم(عليه السلام) حين ترك ابنه وزوجته في أرض مكة القفرة دعا ربّه : (ربنا إني أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عِندَ بيتك المحرّم ... )3 ثم أبان(عليه السلام)مُراده من ذلك بقوله : (ربَّنا ليقيموا الصلاة )4 فالقصد اذن هو اقامة الصلاة في أشرف بقعة من بقاع الأرض، أي انّ أفضل ذرية أُمرت أن تقيم الصلاة في أعظم أرض.

 

الموقع الإعرابي لكلمتي آ(مباركاًآ) وآ(هديآ) :

إنَّ (مباركاً) و (هدي )إما أن تكون منصوبة علي الحال، وهي متعلقة (ببكة )فيكون المعني ; إنَّ البيت في حال البركة والهداية . وإمّا أن تكون آ(حالاًآ) للضمير آ(وضعآ) فيكون المعني : آ(وضع مباركاً وهديآ) أو آ(للناس مباركاً وهديآ) أو (للذي ببكة مباركاً وهدي).

وما يعنينا التأكيد عليه أنَّ جميع هذه الاحتمالات نافذة قابلة للتطبيق، لأنَّ الكعبة منار هداية لجميع الناس، بحيث يستطيع البشر كافة أن ينالوا قسطاً من هداية الكعبة وبركاتها.

 

مواقع استعمال آ(الأوليةآ) في القرآن :

لقد استعمل القرآن الكريم مصطلح آ(الأوليةآ) في مواطن كثيرة تدل علي النسبة، بيد أنَّ الاستخدام لهذه اللفظة في قوله تعالي : (أول بيت وضع للناس )هو استعمال نفسيّ.

أما في قوله تعالي من سورة التوبة (لا تقم فيه أبداً )5 حكاية عن نهي النبي من الاقامة في مسجد ضرار، وحثّه في المقابل للاقامة في مسجد قبا حيث يصفه سبحانه بقوله : (لمسجد أُسّس علي التقوي من أوّل يوم أحق أن تقوم فيه )6. فانَّ استعمال (أول يوم)في الآية يكون نسبيّاً لا نفسياً، والمعني : أنَّ المسجد أُسّس يوم بُني علي التقوي.

ولقد ذكر الشيخ الطوسي(رحمه الله) عند تفسير الآية : آ(أول الشيء ابتداؤه، ويجوز أن يكون المبتدأ لهُ آخر، ويجوز أن لا يكون له آخر، لأنّ الواحد أول العدد، ولا نهاية لآخره، ونعيم أهل الجنة لَهُ أول، ولا آخر له، فعلي هذا انما كان أول بيت، لأنه لم يكن قبله بيت يحج اليهآ)7.

وقد ذهب مفسرّون آخرون8 إلي أنَّ الأول لا يستلزم دائماً، وبالضرورة أن يكون لَهُ ثان، فقد يقول المرء : هذا سفري الأول إلي بيت الله الحرام، دون أن يستلزم كلامه ضرورة أن يوفق لحج البيت مرةً أخري . وعلي هذا يكون معني الأولية هنا، أنّه لم يكن قبله شيء. وعليه ; حين يقال أول بيت، فلا يستلزم القول أن يكون ثمة بيت ثان وهكذا.

وهذا الكلام لا يتعارض مع وجود بيوت أخري للعبادة، تكون ثانية وثالثة وهكذا ; من زاوية : (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه )9 بيد أنَّ وجود هذه البيوت لا يكون في مقابل وجود الكعبة . فكلام الشيخ الطوسي وإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ أنّ مصداقه غير صحيح . فما يقوله من أن تنعم أهل الجنة له أول ولا آخر له لا يصح، رغم أنَّ لهذا النعيم أولاً . ووجه عدم الصحة أنّ هذه النعم بنفسها لا أول لها ولا آخر، فالجنة موجودة الآن ـ لا أنها تخلق بعد الدنيا ـ ونعمها دائمة ثابتة دون انقطاع، خصوصاً تلك الجنة التي يقول عنها تعالي : (عِندَ مليك مقتدر )10.

 

الأولية بالذات وبالغير :

إنَّ الأولية بالذات تختص بالله سبحانه فـ آ(هو الأول والآخرآ)11. وفيوضاته غير محدودة إذ آ(وَكلّ مَنّه قديمآ) وهو آ(دائم الفضلآ) لا أوّل لها ولا آخر، لكنه أول بالعرض لا بالذات، فانَّ بدايته ترتبط بـ آ(هو الأولآ) ونهايته بـ آ(هوالآخرآ) وذلك خلافاً لذات الله تعالي التي لا أول ولا آخر لها، وانما هو سبحانه بالذات، الأول والآخر.
 

 

الكعبة أول معبد :

إنَّ الآية الكريمة تدل علي أنَّ الكعبة هي أول معبد بني علي سطح الارض. أما كون دلالة الآية علي أنَّ الكعبة كانت أول بيت بني للسكن، فهو أمر مستبعد، ومثل هذا الاستنباط محفوف بالمشكلات، خصوصاً وأنَّ الأولية مقيّده بكون الكعبة بنيت آ(مسجداًآ).

بيد أنَّ ذلك لا يمنع من القول : إنَّ مكة هي أول أرض تكوّنت من سطح اليابسة، بعد أن انزاح عنها الماء . أما إن تُفيد الآية أنّ الكعبة كانت أول بيت; فالأمر ينطوي علي اشكال كما أشرنا.

إلاّ أنَّهُ علينا أن نذكر أنَّ الآية مثلما لا تثبت ; فهي لا تنفي أيضاً، ومَرَدُّ ذلك أنَّ الجملة الوصفية أو المقيّدة لا مفهوم لها ـ بالمعني الاصولي ـ وما لا مفهوم له لا اطلاق له أيضاً. والذي نقصدهُ بأنَّ الجملة لا مفهوم لها، أنَّ الجملة الوصفية واللقبية ليسَ بمقدورهما أن يقيِّدا الدليل اذا كانَ مطلقاً، لا انَّه بمقدورنا أن نقتنص الإطلاق منهما. وبه يتضح الفرق بين قولنا : إنّ الجملة لا مفهوم لها، وبين كون الدليل مطلقاً.

فالجملة الوصفية أو اللقبية لا مفهوم لها بمعني لا تثبت، ولا تُفيد الاطلاق، وانما يكون لها مفهوم في مقام التحديد وَ حسب، فلذلك اذا دلَّ دليل من الخارج ـ من خارج الآية ـ أنَّ الكعبة هي أول بيت بني علي سطح الأرض، علي أساس آ(دحو الأرضآ) فإنَّ الآية لا تخالف ما يدل عليه مثل هذا الدليل. وإنما يصعب استظهار مثل هذا المعني من الآية نفسها.

 

بناء الكعبة :

إنَّ المقصود من آ( البيت آ) هو خصوص الكعبة، حيث يقول تعالي في سورة المائدة : (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس )12

آ(قياماًآ) هي مفعول ثان للفعل آ(جعلآ) . انَّ الله جعل الكعبة أو البيت الحرام يتصف بكونه عنصر قيام لجميع الناس .

وستتضح العلاقة بين هذه الصفة، وبين ما رأيناه في الآية مورد البحث، من أنَّ البيت ينطوي علي سرّ البركة والهداية للناس كافة.

وما ينبغي أن نشير اليه أنَّ البيت كانَ موجوداً قبل ابراهيم(عليه السلام)، إلاّ أنَّ عوامل كثيرة أثَّرت عليه من قبيل الطوفان، فلم يبق علي هيئته الاولي. وحين قام ابراهيم(عليه السلام) بتشييد البيت ورفع قواعده، أصبحنا منذ تلك اللحظة أمام معالم واضحة لتاريخ البيت ومساره علي مرَّ العصور.

واحدة من هذه المعالم، يحدثنا عنها ما يحكيه سبحانه علي لسان إبراهيم، في سورة ابراهيم، حيث يقول(عليه السلام) : (ربنا إني أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم )13 فحين ترك الخليل زوجته هاجر وولده اسماعيل(عليهما السلام)، في هذه الأرض القفرة وَهمَّ بوادعهما، سألته هاجر : آ(إلي من تدعني؟آ) فأجاب : إلي ربّ هذه البنية.

لذلك يقول ابراهيم(عليه السلام) : (ربنا إني أسكنت . . .) ثم بيَّن ما يقصده بما يحكيه القرآن علي لسانه : (ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون)14 لأنك أنت آ(مقلب القلوبآ). ولقد قال ابراهيم (أفئدةً من الناس) وإلاّ لو كان الخليل(عليه السلام) قد قال كما يذكر الطبري في تفسير الآية : (أفئدة الناس) لحج جميع الناس سواء منهم اليهودي والنصراني وأصحاب الملل الأخري.

لم تكن مكة أرضاً مواتاً يمكن استصلاحها لتعمر بالنبات والزرف وإنما كانت أرضاً جبلية صخرية تفتقر إلي الماء. لذلك عبَّرت الآية في دعاء الخليل(عليه السلام) عن وادي مكة بانَّهُ (غير ذي زرع) وَلم تعبّر عنه بأنَّهُ آ( لم يزرع آ) اذ لو كانت الأرض صالحة للزراعة، بيد أنها مهملة بانصراف الجهد الانساني عنها، لقيل عنها آ( لم تزرع آ) من باب آ( عدم الملَكة آ) أما أنّها غير صالحة للزراعة والأعمار أصلاً فقد عبر عنها بأنهار آ( غير ذي زرع آ).

إلاّ أنَّ الخليل(عليه السلام) العارف بقدرات الله غير المتناهية، قال معَ ذلك : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) وقد أوكل الأمر اليه سبحانه في أن يفعل ما يشاء.

 

لقد تضمن هذا المقطع من الدعاء بيان المقاصد التالية :

1 ـ انَّ القصد الأساس هو أن يقيموا الصلاة (ربنا ليقيموا الصلاة) وإن كان ثمة مقاصد أخري في السياق.

2 ـ طلب(عليه السلام) أن يعطف قلوب وعقول شطر من الناس إليهم.

3 ـ ثم أراد من ربّه أن يشملهم من الثمرات رزقاً (لعلّهم يشكرون).

لقد تكرَّرت مضامين هذا الدعاء الابراهيمي في سورة البقرة، حيث قال(عليه السلام)فيما يحكيه القرآن علي لسانه : (ربّ اجعل هذا بلداً آمناً )15. فانبثقت بعد فترة عين زمزم ببركة هذا الدعاء وباستغاثة هاجر(عليها السلام) وبصرخات اسماعيل(عليه السلام)وبكائه، وهو طفل صغير.

ولما انبثق الماء حلت الطيور حوله، وأخذت القوافل تحط رحالها عنده، فتحولت مكة إلي آ( بلدآ) وأجيبت الدعوة.

حينما جاء ابراهيم الخليل(عليه السلام) ورأي الوادي قد تحوَّل إلي بلد، أعادَ(عليه السلام) دعاءه مع تغيير السياق : (واذ قال ابراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً )16 فقد دخلت هنا (الالف واللام) علي كلمة (بلد )بينما بقي طلب (الأمن )ثابتاً لكلا الحالتين.

لقد حقق سبحانه لابراهيم دعوته وحلَّ الأمن في مكة، حتي تميَّزت عما حولها من البلاد، اذ يقول تعالي : (أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون)17.

إنَّ استعمال (يتخطّف )ينطوي علي دلالة عميقة في رسوخ الأمن، فالخطفة تعني انقضاض الصقر علي فريسته في حال غفلتها، ومكة في أمان من ذلك.

لقد استجيبت دعوة ابراهيم و أضحي الحرم آمناً، حتي علي صعيد الحكم الفقهي، ذلك أنَّ (ومن دخله كان آمناً)18.

انَّ جملة (عند بيتك المحرّم) تدل دلالة واضحة علي أنَّ للبيت وجوداً قبل ابراهيم(عليه السلام)، وإنما غاية ما هناك أنه تعرض لحوادث طبيعية وغير طبيعية، جعلت البيت عرضة للهدام والخراب . حصل ذلك قبل ابراهيم وبعده أيضاً، حيث تهدمت الكعبة اثر السيول، وفي عصر الاسلام قام الحَجاج برميها بالمنجنيق من علي جبل أبي قبيس.

لذا فانّ الصخور السوداء التي تعلو جدران الكعبة الآن، هي ليست نفس الصخور التي كانت عليها قبل عدة قرون.

والذي يظهر أنَّ الكعبة كانت في صدر البعثة النبوية، لا يتجاوز ارتفاعها ضعف طول الانسان المتوسط . نستفيد ذلك من واقعة ارتقاء الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) علي كتفي رسول الله(صلي الله عليه وآله)، حيث رمي الأصنام وقذف بها نحو الأرض أثناء فتح مكة.

أما الجانب المعنوي في هذه الواقعة فله حسابه الآخر، حيث عبَّر الامام علي(عليه السلام) : انَّهُ حين كان علي كتف رسول الله(صلي الله عليه وآله) لو رام أن ينال الثُريا لنالها.

ما نستفيده من هذا العرض أنَّ الكعبة كانت عرضة للهدام والتخريب أكثر من مرَّة .وفي هذا السياق جاء الخطاب إلي ابراهيم الخليل : (واذ بوَّأنا لابراهيم مكان البيت) حيث تكفل سبحانه بيان المكان ووضع التصميم الهندسي والمعماري للكعبة، ثم كان علي ابراهيم أن يضطلع بمهمة التنفيذ والبناء، حيث جاء في تتمة الخطاب الالهي : (ألاّ تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والرّكّع السّجود )19.

بين الكعبة وبيت المقدس :

إنَّ لبيت المقدس قدسيته ومكانته، إلاّ أننا لا نجد في القرآن أنَّ الله سبحانه ينسبه إلي نفسه في الكيفية، التي نتلمسها في الكعبة، والتي تختص بها دون غيرها، كما في قوله تعالي : (بيتي) و (بيت الله ).

بعد أن أقام ابراهيم البيت، جاءه الخطاب الالهي : (وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً)20 انَّ جملة (يأتوك )هي جواب الأمر، بمعني سيأتون في المستقبل . وَ هؤلاء سيأتون بأيّ كيفية ممكنة، فمنهم المشاة، ومنهم من يأتي (وعلي كل ضامر) أي الهزيل من النوق وغيرها.

وبه يتضح أنَّ الملبين للنداء الإبراهيمي، منهم من يأتي مشياً، ومنهم من يأتي راكباً علي كل ضامر . أما اولئك الذين لهم القدرة أن يركبوا علي غير الهزيل الضامر، فإنّ حظّهم في الاستجابة للنداء أقل من غيرهم.

وفي كل الأحوال، فإنَّ الملبين للنداء سينطلقون من كل مكان يقصدون البيت . (يأتين من كلّ فج عميق )21

يتضح من سياق الآيات أنَّ ابراهيم(عليه السلام) طوي مراحل متعدّدة بأمر الله تعالي. فبادئ الأمر تعرف علي أرض مكة، ثم ترك فيها زوجته وولده، وطلب من ربّه أن تكون لهما بلدة آمنة.

وحين عاد اليها مجدداً رآها وقد آلت إلي أن تكون آ(بلدةآ) فكرّر دعوته في أن يجعلها أمناً وأماناً. ثم جاءه الخطاب بتشييد قواعد البيت، وفي الأثناء توجه إلي ربّه بدعائه : (تقبّل منّا إنَّك أنت السميع العليم)22.

وحين بُنيت الكعبة ; وصفها تعالي بقوله : (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس)23 ولم يقتصر الأمر علي الكعبة وحدها في أن تكون حراماً، وعنصر قيام للناس، وإنما اتسع المكان ليشمل الحرام، وامتد الزمان ليستوعب الشهر الذي يتم فيه الحج، فكل ذلك وما يتخذ الناس من الهدي والقلائد أصبح شعاراً وقياماً للناس (والشهر الحرام والهدي والقلائد)24.

لقد ذكر الطبري في تفسيره للآية، أنّ البيت كان قواماً للناس في الجاهلية، حتي وهم لا يرجون جنّة ولا يخافون ناراً، فشدَّد الله ذلك بالاسلام . ثم أضاف : آ(كان الرجل لو جرّ كل جريرة، ثم لجأ إلي الحرم لم يتناول ولم يُقرب .وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربهآ).

بل زاد الأمر علي ذلك بعدم التعرض للحيوان اذا قُلِّد بقلادة، إذ يصبح في أمان حتي وهو يأكل من علف غير صاحبه.

وبشكل عام، كانت معالم الأمن ظواهر واضحة، يمكن تلمسها والاحساس بها لزوّار البيت الحرام.

القبلة إلي البيت المقدس :

ليس ثمة شك، أنّ بيت المقدس أضحي قبلة من عصر سليمان(عليه السلام) فما بعد، فسليمان هو الذي وضع تصميم بيت المقدس وقام ببنائه.

لقد كان رسول الله(صلي الله عليه وآله)، حين كان في مكة، يتوجه علي خط واحد إلي الكعبة وبيت المقدس، حيث كان يقف في كيفية تجمع بين القبلتين.

ومثل هذا الجمع كان سهلاً في مكة ; لأنَّ بيت المقدس يقع في شمال غربي الكعبة، ورسول الله(صلي الله عليه وآله) يقف في جنوب الكعبة فيكون بمقدوره أن يجمع القبلتين علي خط واحد.

أما في المدينة فقد اختلف الأمر تماماً، لذلك كان يقصد بيت المقدس قبلة حين الصلاة بعد أن تعذّر الجمع بينه وبين الكعبة، بل كانت الكعبة تقع إلي وراء ظهره.

بيد أنَّ الحال لم يدم، حيث تمّ تحويل القبلة إلي الكعبة ورسول الله(صلي الله عليه وآله) واقف يصلّي في مسجد القبلتين، فاستدار وهو في الصلاة نحو الكعبة.

المسجد الحرام والمسجد الاقصي :

جمعت الآية الكريمة من سورة الاسراء بين المسجد الحرام والمسجد الاقصي، حيث يقول تعالي : (سبحان الذي أسري بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي الذي باركنا حوله)25.

إنّ عوامل الأرض، والمناخ، والماء، ساهمت جميعاً في إعطاء مزايا لأطراف المسجد الاقصي، وكانت سبباً في كثرة النعم والخيرات . ومع ذلك فقد قُدّر لمكة أن تنعم بكلّ هذه الثمرات والخيرات أو اكثر، رغم أرضها ومائها ومناخها. والسّر في وفور الخيرات والثمرات دائماً في مكة هي دعوة الخليل المستجابة (وارزقهم من الثمرات).

الفوارق بين الكعبة والمسجد الاقصي :

لقد اضطلع بمسؤولية بناء الكعبة ابراهيم الخليل، وهو(عليه السلام) من أولي العزم. بينما اضطلع سليمان(عليه السلام) ببناء بيت المقدس، وهو ليس من أولي العزم، وإنما من الحفّاظ لشرائع أولي العزم.

بيد أنّ هذا الفارق ليس هو الوحيد بين الكعبة والمسجد الاقصي، وإنما ثمة فارق آخر يتمثل بالوعد الإلهي، بحماية الكعبة وحراستها من الأعداء ; هذا الوعد الإلَهي تحوّل إلي سيرة عملية، في حين لا نجد ما يناظر هذا الوعد بالنسبة لبيت المقدس.

فلو أراد أحد أن يتعرض للكعبة لعرّض للاستئصال، كما حماها سبحانه بطير أبابيل، وصانها بمعجزات أخري . أمّا عملياً فلا نجد مثل هذا الوعد بالنسبة لبيت المقدس، اذ استطاع آ(بخت نصرآ) أن يهدم بيت المقدس تماماً، إلاّ أنَّهُ لم يتعرض لما تعرض اليه أبرهة الحبشي.

بناء الكعبة لمنفعة الناس :

ما نستفيده من ظاهر الآية الشريفة مدار البحث أنَّ أول بيت وضع لعبادة الناس كان في مكة، وقد وضع لينتفع منه الناس، حيث يقول تعالي : (وضع للناس) وان كان التعبير في مورد التكليف بالحج جاء قريناً بحرف الجر آ(عليآ) حيث يقول تعالي : (لله علي الناس) إلاّ أننا سنوضح أنَّ العبادة والتكليف لا يمكن أن يكونا ضدَّ الناس أبداً، بل هما لصالحهم دائماً.

لذلك تجد أهل السلوك يعبّرون عن التكليف بالتشريف . فالرجل حين يبلغ السادسة عشرة من عمره، والمرأة حين تبلغ العاشرة يعبِّرون عنهما أنهما قد بلغا سنَّ التشريف (ويعنون به التكليف) وأصبحا أهلاً للخطاب الالهي، في حين لم يكونا قبل ذلك أهلاً لتلقي ما ينطوي عليه الخطاب من أحكام نظير قوله تعالي : (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)26.

وعن الأحكام الإلهية عموماً بما تنطوي عليه من تكليف يقول تعالي : (ذلكم خير لكم)27 وانطلاقاً من هذه الزاوية بالذات عُبِّر عن العبادة بـ آ( اللام آ).

معبد الانبياء :

ظاهر ما عليه الآية من الاطلاق انَّ البيت الحرام والكعبة المشرّفة كانا أول معبد في تاريخ البشر، بحيث لم يكن لنبي قبلة غير الكعبة.

هذا الاستنتاج نستطيع أن نؤيده من آيات في سورة آ(مريمآ). ففي هذه السورة نقرأ عن المسيح : (وجعلني مباركاً أينما كُنت وأوصاني بالصلوة والزكوة ما دمت حيّاً )28 وذلك علاوة علي ما في سورة من وصايا لأنبياء آخرين، حيث يقول تعالي ـ بعد أن ذكر عدداً من الأنبياء ـ : (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممّن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تُتلي عليهم آيات الرحمن خرّوا سُجّداً وبكيّاً)29.

فمسار الأنبياء(عليهم السلام) من آدم حتي نوح، ومن نوح حتي ابراهيم، وما بين هؤلاء الأنبياء ومن ذراريهم يمدحهم الله بقوله : (إذا تتلي عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً)ومن الواضح أنَّ السجود يستلزم وجود الجهة، سواء أكان المعني السجود بنفسه أو السجود في اطار الصلاة، حيث تقام الصلاة لقبلة بعينها.

علي أنَّ الراجح هو قيامهم بالصلاة، كما تؤيد ذلك الآية التي تليها، حيث يقول تعالي : (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتّبعوا الشّهوات فسوف يلقون غيّاً)30.

يتضح مما تقدم أنَّ الانبياء كانوا من أهل الصلاة، وأنَّ الصلاة والسجود يستلزمان جهةً وقبلة.

وفي مسألة القبلة إما أن نستند إلي قوله تعالي فنقول : (فأينما تُولّوا فثمَّ وجهُ الله)31. وهو قول بعيد. وإمّا أن نقول بجهة خاصة كانت قبلة لهم.

وما نستفيده من ظاهر الآية في اطلاقها، أنَّ الكعبة كانت قبلة الصلاة والسجود لجميع أنبياء الله من آدم حتي النبي الخاتم(عليهم السلام). أما احتمال غير الكعبة قبلة لهم، فهو مما لا يتسق مع ما عليه الآية من اطلاق.

لماذا سميت مكة ببكة؟

قال تعالي : (للذي ببكة) وقد قيل : إنَّ المقصود بـ آ(بكةآ) هو مكة، إذ تبديل الميم إلي الباء يحدث أحياناً نظير آ( لازب ولازم آ) . بيدَ أنَّ تعليل ذلك لا يكون بالتبديل، وانما : آ(لانَّ الناس يَبُكَّ بعضهم بعضاًآ)32 اثر الازدحام والكثرة عند اجتماع الناس فيها.

وآ(بكآ) تأتي بمعني التحطيم، فهي بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة والبغاة اذا بغوا فيها، فتدفعهم.

معني مباركاً :

يقول تعالي في وصف بيته الذي بمكة : (مباركاً وهدي للعالمين ). والمعني أنَّ البيت منشأ الوفير من البركات، وهو وسيلة هداية للناس . وتطلق آ(البركةآ) علي المال والشيء الثابت، فما له ثبات ودوام فهو مبارك.

من هنا أطلق علي تجمعات الماء في الصحراء أنها آ(بِركْةآ) لما تتّسم به من ثبات، ولأنها تحفظ الماء من الهدر فيدوم.

وبتعبير الشيخ الطوسي فإنَّ الصدر يسمي آ(بركآ) ; لأنَّه المكان الذي تحفظ فيه العلوم والأسرار والأفكار وتثبت . وكذا يقال آ(بَرَكآ) لوَبَر البعير من جهة صدره.

وذات الله مباركة لجهة ثبات خيرها ودوامها.

أما بالنسبة للبيت فلأنه ينعم بالخير والثبات أكثر من الأماكن الأخري فهو يكون آ(مباركاًآ) ; أي وفير الخيرات دائمها. أماكون الكعبة وسيلة هداية للناس كافة، فمرد ذلك إلي أنَّ جميع العباد والسالكين يقصدونها; ومنها صدعت دعوة الحق إلي البشرية جمعاء ; اذ مِنها انطلق نداء نبينا(صلي الله عليه وآله) : آ(لا إله إلاّ اللهآ) إلي أرجاء الدنيا، ومنها سيبلغ نداء خاتم الأوصياء المهدي(عليه السلام) أسماع البشرية في اليوم الموعود.

فهي إذن محضن الحق، تتوفّر علي وسائل كثيرة أخري لهداية الناس.

وفي مكة آيات لله لا تحصي . (فيه آيات بيّنات).


مقام ابراهيم :

يقول تعالي : (مقام ابراهيم )لقد ذهب البعض للقول : إنَّ ابراهيم(عليه السلام) كما آ(كان أمة واحدة آ) فانَّ مقامه أيضاً بمنزلة آ(آيات بيناتآ) ; أي انَّ المقام في آثار أقدام الخليل(عليه السلام) وفير بالمعجزات، حتي أضحي المقام بمنزلة آ( أمة واحدة آ) في باب الاعجاز، كما هو شأن الخليل نفسه.

والسؤال : كيف أضحي آ(مقام ابراهيمآ) آيات بينات بصيغة الجمع، في حين انّ السياق يقتضي التعبير بالمفرد، فيقال : آية بينة ؟

ثمة في الجواب عدّة احتمالات، نشير للأول منها من خلال ما يلي :

أوّلاً : لقد تحوَّل الصخر الصلد إلي عجين لين، وذلك في حدِّ ذاته آية ومعجزة.

ثانياً : ثمة مكان محدَّد من الصخرة هو الذي لانَ دون البقية.

ثالثاً : انَّ لين الصخرة حصل لعمق وبشكل معين ثم عادت الصخرة فيما عدا ذاك لصلادتها.

رابعاً : لقد بذل الأعداء جهوداً محمومة لمحو هذا الأثر، بيدَ أنَّه بقي يتطاول علي الزمان محفوظاً من عبث الطغاة.

خامساً : ثمة قوي مولعة بخطف ما يقع بيديها من آثار قديمة في بلاد المسلمين تتسم بطابع فني، أو تحمل خصائص مقدَّسة، ومع ذلك بقي هذا الأثر دون أن تفلح هذه القوي بنقله إلي خارج العالم الاسلامي.

كيف تشكّل الاثر في مقام ابراهيم ؟

هل تشكّل الأثر في مقام ابراهيم حين وقف(عليه السلام) علي المكان ـ الصخرة ـ أثناء بناء الكعبة؟ أو أنَّ الآية حصلت حين عادَ ابراهيم للمرة الثانية فطلبت منه زوجة ولده اسماعيل أن ينزل لتغسل له (رأسه أو رجله) إلاّ أنَّه لم ينزل، وإنما وضعَ قدمه علي الصخرة فتركت هذا الأثر؟ أو الأثر انطبع علي الصخر حين اعتلاه الخليل ليؤذّن في الحج امتثالاً لأمر الله تعالي : (وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً)33.

يمكن أن يكون الأثر قد حصل في جميع هذه الحالات، أو في إحديها.

فجميع هذه الوجوه محتمل الوقوع . بيد أنَّ ما يهمّنا التأكيد عليه هو أنَّ الخليل(عليه السلام)وضع قدميه علي الصخرة فانطبعت آثارهما، وبقيت الآثار حتي اللحظة . أما في أي حالة من الحالات آنفة الذكر تمَّ ذلك، فالأمر مُناط للروايات الخاصة التي تتكفل اضاءة المسألة وبيانها.

إنَّ هذه الخصيصة التي حصلت لإبراهيم(عليه السلام)، حيث يحدثنا (سبحانه) في سورة سبأ، بقوله تعالي : (وَ لقد آتينا داود منّا فَضلاً يا جبال أوِّ بي معه والطّير وأَلنَّا لَهُ اْلحديدَ )34.ليس هذا وحده، وانما عُلِّمَ داود صناعة الدروع، حيث يقول تعالي : (وَعلّمناه صنعة لبوس)35 لقد كان الحديد البارد الصلد يلين بين يدي داود(عليه السلام).

وما ينبغي الانتباه اليه انَّ القرآن استعمل (ألنَّا )في مسألة الحديد، في حين استعمل (علمناه )في صناعة الدروع . والسّر انَّ صناعة الدروع هي جزء من العلوم الحرفية الصناعية التيي يمكن تعلّمها واكتساب المهارة فيها، وبالتالي يمكن انتقالها إلي الآخرين . أما إلانة الحديد فهي ليست مسألة مهنية تدخل في اطار العلم والتعلّم، وَ بالتالي لا يمكن أن تنتقل إلي الآخرين، ولذلك لم يعبّر عنها بـ آ(وعلمناه إلانة الحديدآ).

قد يقال : إنَّ من الممكن إلانة الحديد عبر تذويبه في صهاريج الفولاذ، إلاّ أنَّ الآية لا تتحدث عن هذا النمط من الإلانة والتذويب الذي يقع في مجال العلم، وإنما تتحدث عن فعل اعجازي، حيث كانَ داود(عليه السلام) يمسك الحديد الصلب بين يديه وَيشكّله كيفما شاء، تماماً كما يمسك الانسان العادي الشمع بين يديه ويعيد تشكيله بما يشاء.

ومقام ابراهيم(عليه السلام) هو من هذا القبيل، مع فارق بين الاثنين حيث لانَ الحديد لداود، والصخر لابراهيم، والتقدير آ(وألنا له الحجرآ).

لقد أضحي الصخر ليناً ناعماً بين قدمي الخليل، حتي ترك أثرهما عليه، مُضافاً لذلك أنَّ الصخر أضحي بمثابة آ(المحفظةآ) لقدم الخليل(عليه السلام) كما الحديد بالنسبة لداود(عليه السلام).

والآن عودة إلي بدء، فقد انطلقنا من السؤال التالي : كيف يكون مقام ابراهيم لوحده بصيغة المفرد دالة علي (آيات بينات) وهي بصيغة الجمع؟

ذكرنا حتي الآن أحد احتمالين حيث لا حظنا أنه هناك عدد من الآيات المعجزة في المقام يشكل مجموعها : آيات بيّنات والاحتمال الأول هذا ذهب اليه الزمخشري.

أما الاحتمال الثاني، ففحواه انَّ (آيات بينات )تنطوي علي عدد كبير ـ من الآيات والمعجزات ـ إحديها (مقام ابراهيم )، وثانيتها : (وَ مَن دخله كانَ آمناً).

الأمنان التكويني والتشريعي لبيت الله الحرام :

إنَّ للكعبة أمناً تكوينياً، اذ دأب الكثير من الطغاة علي التعرض للبيت في محاولة للقضاء عليه، ولالحاق الأذي بأهل مكة، إلاّ أنَّ الله سبحانه حفظ البيت وجعله في أمان . يقول تعالي : (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خَوف )36. ويوم لم يكن ثمة أثر للتشريع والأحكام، كان أهل مكه وهم مشركون يتمتعون بأمن خاص . ثم هناك الأمن التشريعي، ومؤدّاه : (من دخله كان آمناً )بل انَّ الطبري نقل في تفسيره للآية (97) من سورة آل عمران، أنَّ المجرم الجاني كان في الجاهلية اذا لجأ إلي الكعبة لا يتعرض له أحد بسوء.

وهنا لا نحتاج للتكلّف فنحضر (آيات بينات )في خصوص آ(مقام ابراهيمآ) أو خصوص ما للبيت من أمن إلهي مجعول . فبئر آ(زمزمآ) وآ(حجر اسماعيلآ) وآ(الحجر الاسودآ) هي أيضاً آيات بينات.

بل إنَّ البيت بنفسه هو معجزة وآية بينة، بدليل ما حلَّ بأصحاب الفيل الذين همّوا بهدم الكعبة، فواجههم (سبحانه) بجيووش الهيّة، كما تحكي لنا ذلك سورة الفيل : (ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل ... فجعلهم كعصف مأكول ). اذن، ليس ثمة ما يدعونا للقول : إنَّ آ(مقام ابراهيمآ) هو وحده بيان لآيات بينات، وانما خُص بالذكر من باب ذكر الخاص بعد العام.

يقول تعالي في سورة البقرة : (واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّي وعهدنا إلي إبراهيم واسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرّكّع السّجود)37. لقد ذُكر في بحث مفصَّل انَّ آ(البيتآ) مرجع للناس كافة وَملاذ لهم، وهو محاط بأمن تكويني وأمن تشريعي . فاذا أراد أحد التعرّض للبيت بهدف الهدم والافناء فإنَّ الله (سبحانه) يكون بالمرصاد.

أما الأمن التشريعي فمن مصاديقه، انَّ الانسان اذا كان عليه حد ولجأ إلي الحرم، أمن اقامة الحدود عليه طالما مكث بالحرم ; ألاّ أن لا يراعي حرمة البيت، فحينئذ يشمله القصاص . يقول تعالي : (والحرمات قصاص )38.بمعني انَّ الانسان اذا تعرض لحرمة الكعبة، والمسجد الحرام، وعموم الحرم، والشهر الحرام، فسينزع عن نفسه الأمان، ويكون عرضة للقصاص والحد.

فاذا اجترح الانسان جناية في الحرم أقيم عليه الحد حتي وهو داخله . أما اذا ارتكب الجناية خارج الحرم ولجأ اليه أمن الحد وأمهل حتي يخرج منه . ولكن يضغط عليه حتي يلجأ إلي خارجه ; فلا يبتاع منه ولا يُطعم ولا يُحسن اليه.

ثمة غير الآية التي نتحدَّث عنها، آية أخري تشير إلي ما يتحلي به الحرم من أمن، حيث يقول تعالي في سورة العنكبوت : (أو لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون)39.

والسّر انَّ ما من أحد يتعرض إلي البيت بقصد االإفناء، ولأهله بقصد الاستئصال، إلاّ وكان الله له بالمرصاد، فيذيقه العقاب بلا امهال : (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم )40.

ثمة رواية ينقلها المرحوم ابن بابويه في كتاب آ(من لا يحضره الفقيهآ) مؤدّاها : اذا كان البيت يتحلي بحرمة خاصة، واذا كان (سبحانه) قد أرسل (طيراً أبابيل)علي جيش أبرهة حين قصد الكعبة ; فلماذا لم تشمل الحماية الالهيّة ابن الزبير حين تحصَّن داخل الكعبة، حيث قام الحجاج بن يوسف برمي الكعبة بالمنجنيق من علي جبل أبي قبيس بأمر من عبدالملك فهدّمت الكعبة وأعتقل ثم قتل؟

ذكر آ(الصدوقآ) في الجواب : انّ حرمة الكعبة انما تكون لحرمة الدين وحفظه وصيانته . وحافظ الدين وحارسه في زمان حضور الامام المعصوم، هو الإمام نفسه، وفي زمن غيبته يضطلع بالمهمة نوّابه.

ثم نقل عن الامام (الذي يبدو هو الامام السجاد(عليه السلام)) انَّ الزبير لم ينصر امام زمانه سيّد الشهداء الحسين(عليه السلام) حتي استشهد مظلوماً، وحينما آلت الامامة إلي الامام الذي يليه (الامام السجاد(عليه السلام)) لم ينصره ولم يدع اليه . لذلك لم ينصره الله ولم يدفع عنه حتي وهو يلوذ بالكعبة ويلجأ إلي داخل البيت، كما حصل في جيش أبرهة حيث أرسل (سبحانه) (طيراً أبابيل )في حين لم يحصل الشيء نفسه حين رمي الحجاج الكعبة بالمنجنيق.

لذلك انتهي الامر باعتقال الامويين لابن الزبير وهو رجل فاسد فقتلوه ثم اعادوا بناء الكعبة دون مشكلة تُذكر. أما بالنسبة لابرهة فالامر يختلف تماماً، اذ كان هدفه افناء الكعبة وتحويل قبلة الناس إلي جهة اخري، لذلك لم يمهله سبحانه .

بمعني آخر، إنّ تصرّف الحجاج بن يوسف لم يشكل نقصاً للآية (من يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) ولا يتعارض معها. ولا زال الأمر يشكل حالة مطّردة، فلو افترضنا انَّ هذه الديار تتحوّل إلي ديار ظلم، فالله (سبحانه) لا يتدخل لقمع الظالم واستئصال الظلم إن لم يكن أهل الديار علي الصراط المستقيم ; وانما يمكن أن نفسِّر أمثال هذه الوقائع علي أساس : (نُولّي بعض الظالمين بعضاً )41 أي انَّ الوقائع تتحرك علي مسار قانون آخر.

إنَّ الفكرة المحورية التي ينبغي أن ننتبه اليها، هي انَّ علي المسلمين أن ينهضوا بتكليفهم، ويضطلعوا بواجباتهم، ثم ينتظروا الوعيد الالهي : (من يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب اليم ).

نسبة آ(البيتآ) إلي الله والناس

ثمة في مطلع الآية مورد البحث ما يؤكد الفكرة التي نبحثها، ويدل عليها، حيث يقول تعالي : (إنَّ اوّل بيت وضع للناس)...

لقد نسب الله (سبحانه) البيت إلي ذاته المقدّسة كما نسبه إلي الناس، ولكن مع فارقين: أحدهما أدبي، والآخر معنوي. أما الأدبي فيتجلي في نسبة البيت اليه (سبحانه) من دون آ(لامآ) حيث قال : (أن طهّرا بيتي) أما حين النسبة إلي الناس فقد دخلت آ(اللامآ) حيث قال سبحانه : (... وضع للناس ). والمعني المراد : أنَّ الكعبة هي بيت الله، وليست بيتاً للناس، بيد أنها وضعت للناس ومن أجلهم.

أما الفارق المعنوي فهو يتجلي في أنَّ إضافة البيت الي الله (سبحانه) هي التي منحته الشرف والرفعة . وذلك علي عكس الحالة الثانية، اذ اكتسب الناس الشرف والرفعة باضافتهم إلي البيت.

فشرافة آ(البيتآ) من نسبته لله تعالي ; وشرافة الناس من نسبتهم إلي البيت.

قوله تعالي : (وضع للناس) الوضع هنا تشريعي، والمقصود : انَّ البيت معبد وقبلة ومطاف للناس ; جميع الناس دون أن يكون من اختصاص فئة دون أخري. والطريف الذي يلاح1 انَّ التعبير جاء بصيغة آ(وضع للناسآ) لا بصيغة آ(بنيآ) للناس.

الكعبة هي القبلة لوحدها :

لنفترض انَّ الآية الكريمة أشارت إلي الأرض التي تحيط الكعبة، فمع هذا الافتراض، تكون الاشارة من باب أنَّ هذه المساحة تشكل منطقة الحرم . أما ما هو مهم، فهو البناء الخاص ; أي الكعبة.

وما يقال ـ علي سبيل التقرير ـ من أنَّ الكعبة قبلة، فذلك في مقابل مَن ذهب للقول : إنَّ الكعبة قبلة للقريب ; ولأهل مكة يكون المسجد الحرام قبلة، أما البعيد فقبلته الحرم المكي برمته42.

فهذا الرأي خطأ; والصواب أنَّ الكعبة هي قبلة الجميع سواء منهم القريب والبعيد . والفارق الذي يقال إنما يصدق علي جهة الاستقبال.

لقد حثّ الاسلام النبي والآخرين، علي أن يقولوا في كلِّ الحالات : آ(والكعبة قبلتيآ)43 حتي أضحت هذه الجملة ذكراً يردّده الجميع.

إنَّ لجميع الأموات والأحياء شأناً مع الكعبة، فالمحتضر يستقبلها، والميت يدفن باتجاهها . بيد أنَّه ليس لأحد من هؤلاء شأن مع مسجد الحرام أو الحرم بنفسهما. أما قوله تعالي : (شطر المسجد الحرام )44 فهو من جهة : (فلنولينك قبلة ترضاها )45 فالقبلة المتمثلة بالكعبة هي المقصد.

ثم إنَّ الذي يولي وجهه شطر المسجد الحرام حتي يكون قد اتجه إلي الكعبة ; فالاختلاف اذن في جهة الاستقبال، لا في القبلة نفسها. فالقريب يتوجه نحو البيت، ويستقبل بوجهه آ(جرم الكعبةآ) . أما البعيد فهو يُولي نحو الحرم، إلاّ أنه يتوجه إلي الكعبة.

وبالنسبة لقوله تعالي : (وحيث ما كُنتم فولّوا وجوهكم شطره )46 فانَّ المقصود هو استقبال المسجد الحرام، لا اتخاذه قبلة . فالمسجد الحرام ليس قبلة بنفسه، ولا الحرم المكي، وانما تقتصر القبلة علي الكعبة نفسها كما أثبت ذلك المضطلعون بالدراسات الاسلامية (الفقهية).

ومن طريف ما يمكن أن يشير اليه هنا، ما ذهب اليه بعض الأكابر من العلماء من أنَّ الكعبة بنفسها ليست قبلة أيضاً; بل القبلة ماثلة في حيّز الفضاء الخاص الذي تشغله . ورحم الله أستاذنا ; المحقق الداماد الذي كان يكرّر هذه الجملة بدأب : ليست الكعبة هي القبلة، اذ يمكن لهذه آ(البُنيةآ) أن تنهدم أو تنهار في يوم من الأيام اثر سيل أو غيره ; فهل يبقي المسلمون يومئذ دون قبلة!

لذلك قالوا : إنَّ القبلة هي ليست هذه البناية والجدران المضلعة، بل هي الفضاء الخاص الممتد آ(من تخوم الأرض إلي عنان السماءآ)47. واستدلوا علي ذلك بأنّ المصلّي اذا صلّي في مكان منخفض أو مرتفع عن مستوي سطح الكعبة وبنائها، فهو يتوجه في الحالتين إلي الفضاء الممتد من تخوم الارض إلي عنان السماء، وكون هذا الفضاء قبلة لا يطرأ عليه أي تغيير أو تبديل.

ومن الطريف أن نختم هذه الفقرة بكلمات للفخر الرازي في فضل الكعبة وشرفها انتقلت من بعده إلي كتب الآخرين ; حيث قال : آ(ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة، فالآمر هو الملك الجليل ; والمهندس هو جبريل ; والباني هو الخليل ; والتلميذ اسماعيل(عليهم السلام)48 وكفي بذلك فضلاً وشرفاًآ).

بيد أنّ مثل هذا الشرف والفضيلة لم يثبتا لبيت المقدس.


مصاديق آ(آيات بيناتآ) :

ثمة آيات بينات في هذه الديار المقدسة، هي بمجموعها دلالة واضحة علي الغيب . انَّ الآية معناها العلامة، وهي بالاصطلاح القرآني علامة صدق الانبياء، فيما يدعون اليه من ربوبية الخالق وعبودية المخلوق.

لقد توفّر الفخر الرازي في تفسيره علي ذكر علامات (آيات) كثيرة تدل علي خصوصية الكعبة وكيفية بنائها49، وهي تتحرك اجمالاً في نطاق هذا المحور، وفيما يلي نستعرض بعض هذه الآيات ـ العلامات ـ :

1 ـ انبثاق زمزم ودوام فوران مائها :

ثمة الكثير من الآيات البينات في خصوص بئر زمزم، فماؤها شفاء، وهو لا يفسد حتي لو طالت عليه المدة . ثم إنَّ بئراً يبقي ماؤها يفور منذ آلاف السنين، في ارض تفتقر إلي الأمطار الغزيرة ولا تكاد تسقط فيها الثلوج إلاّ نُزراً، هو بحدّ ذاته معجزة وآية معجزة وآية من الآيات الالهيّة البينة.

أما لو كانت هذه البئر في أرض تغزر فيها الأمطار ويتكاثر سقوط الثلوج، لأمكن تفسير دوام انبثاق مائها علي أساس : (فسلكه ينابيع في الأرض )50.

ثم إنَّ في مائها بركة خاصة، كان رسول الله(صلي الله عليه وآله) يطلبه هدية من القادمين من مكة.

وبئر هذا منبثقها ; وهذا دوام فوران مائها، وفي مائها البركة والشفاء، بحيث لا يفسد ماؤها ولا يُصاب بالعَفَن، لهي حقاً محفوفة بالمعجزات، بل إنَّ ماءها وحده هو تجلي لـ آ(آيات بيناتآ).

2 ـ المشعر الحرام .

في أطراف مكة (المشعر الحرام، عرفات، ومني) علامات تتجلي فيها آيات بيّنات . فرغم أنَّ تلك المنطقة بعيدة عن مدار السيل، إلاّ أنَّه يكثر فيها الحصي وأجزاء الصخر المفَتَّت إلي قطع صغيرة، كتلك التي تتركها السيول حين تدهم منطقة صخرية جبلية.

فالحصي هناك كثير، ويكفي أن نتصوّر كثرته بما يحمله كل حاج بمفرده، اذ يحتاج كحد وسط أو أدني إلي سبعين حصاة ; ومع ذلك لا زال الحصي وفيراً لم ينفذ، وفي ذلك وحده معجزة . يقول الفخر الرازي في تفسيره الكبير: آ(وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة، ثم لا يري هناك إلاّ ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير51. وقد يقال الآن : إنَّ المسؤولين في الحجاز هم الذين يتولون عمليه رفع الحصي المجتمع وتسطيح الأرض مجدداً، ولكن ماذا بالنسبه لذلك الزمان؟

3 ـ رعاية الحيوان لحرمة الكعبة :

تسعي الطيور أن لا تحط في أعلي الكعبة كي لا يتلوث المكان بفضلاتها ; واذا كانت فيي حالة انحدار من الأعلي نحو الأرض، فانها تبتعد عن الكعبة بزاوية معينة . وفي ذلك وحده علامة علي آية بينة.

وَ ما ينبغي أن نشير اليه، أنَّ عدم تلويث الطيور للمشاهد المشرفة والعتبات المقدسة، هو ظاهرة مشهودة أيضاً، وان كان الأمر يختلف بالنسبة إلي الكعبة في تلك الزاوية التي ينحدر بها الطير بعيداً عن الكعبة.

لقد تحدّثوا بمثل هذه الكرامة لحرم الامام أميرالمؤمنين(عليه السلام) فقالوا : إنَّ الطير تراعي هذا الأدب من باب : آ(ينحدر عنّي السيل وَلا يرقي إليّ الطيرآ)52.

وقالوا عن الحرم المكي أيضاً : إنَّ الوحوش لا تعتدي علي بعضها البعض وهي في الحرم، ولا تلحق الاذي بالحيوانات الأليفة.

وما نخلص إليه : انّ ثمة الكثير من الشواهد الظنية التي تُفيد أنّ هذه المنطقة ليست عادية، فالحيوان فيها آمن، والانسان يتحلي بأمن نسبي ملحوظ (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )53 في حين كان من حولهم (... ويتخطّف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون )54.

4 ـ مقام ابراهيم :

يحتل مقام ابراهيم(عليه السلام) موقعاً خاصاً في صلاة الحاج وطوافه، كما ينص علي ذلك القرآن . وللمقام حرمة خاصة كونه مصداقاً للآيات البينات.

يقول تعالي : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام ابراهيم مصلّي، وعهدنا إلي ابراهيم واسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرّكّع السّجود)55 هل تجب الصلاة خلف المقام مُباشرة أم أنها تكفي عندَ المقام ؟ ثمة أقوال انتهي اليها البحث الفقهي وُفق اختلاف المدرك (الرواية)، اذ احتاط بعضهم فذهب إلي وجوب الصلاة خلف المقام مُباشرة ; فيما عدّ البعض الآخر الصلاة عندَ المقام كافية.

لقد تحدّثنا في فقرات البحث السابقة، عن كيفية كون مقام ابراهيم معجزة، وأشرنا إلي ما يتصل بذلك من حديث، فلا نُعيد.

تقابل آ(اللامآ) و آ(عليآ) :

يقول تعالي : (ولله علي الناس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلاً) إنَّ (علي الناس) في الآية هي في حقيقتها آ(للناسآ) أي : لنفع الناس وفائدتهم، لا لضررهم وعليهم . كما أنَّ آ(اللامآ) في ( لله ) لا تفيد معني النفع والاستفادة، وانما معناها : انَّ هذا الأمر هو من قبل الله ومن جهته إلي الناس.

فالتكليف الإلهي يقترن دائماً بالخير، نظير قوله تعالي : (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)56 وإذا كان الشيء خيراً فلا يكون بضرر أحد.

لذلك نخلص إلي أنَّ آ(اللامآ) وآ(عليآ) حين يكونان في مقابل بعضهما البعض، فإنَّ التقابل علامة علي أنَّ الأمر أو الشيء يكون حكماً من أحد الطرفين، وجعلاً وواجباً علي الطرف الثاني، ولا يمكن أن يدل (التقابل) علي الضرر.

فضيلة الحج علي سائر العبادات :

لا يبدو من ظاهر آيات القرآن الكريم، أنَّ ثمة عبادة غير الحج جاءت في صيغة (لله علي الناس )إذ لم نجد نظير هذا الاسلوب في عبادة مثل الصلاة والزكاة، وبالتالي لا يقال : آ( لله علي الناس اقامة الصلاة آ) أو آ( لله علي الناس إيتاء الزكاة آ).

وهذا التمييز يُعدّ في حدّ ذاته علامة علي خصوصية فريضة الحج وما تنطوي عليه من عظمة من بين سائر العبادات.

فعن الصلاة جاءنا الخطاب القرآني بصيغة (وأقيموا الصلوة )57 أما الحج فتميَّز وانفرد بصيغة : (لله علي الناس ... ).

آ(الحجآ) لغة

الحج مصدر، وقد ذهب البعض إلي أنّهُ اسم مصدر، ومعناه قصد بيت الله الحرام.

إنَّ آ(حج البيتآ) هو عبادة مألوفة منذ عصور قديمة ; وبالذات منذ عصر الخليل ابراهيم(عليه السلام) . وقد اعتادوا أن يعدّوا السنين بالحج، وفي ذلك يقول نبيُّ الله شعيب لموسي الكليم(عليهما السلام) : (قال إني أريد أن أُنكحك إحدي ابنتيَّ هاتين علي أن تأجرني ثماني حجج )58.

ويقال في لغة الشهور آ(ذو الحجةآ) لوقوع آ(حج البيتآ) في هذا الشهر، ويعبّر أربع حجج بدلاً من أربع سنوات وهكذا.

هناك في الآية : (لله علي الناس حج البيت ... ) الكثير مما ينبغي التأكيد عليه ; من نظير:

1 ـ يتضح من ظاهر آيات القرآن أنَّ الحج هو العبادة الوحيدة، التي عُبّر عنها بصيغة (لله علي الناس).

2 ـ لقد قُدّم آ(للهآ) علي المبتدإ المؤخّر، لكي يفيد السياق معني الحصر، ويدل علي أنَّ العبادة (الحج) لله وحده.

3 ـ لقد بيّنت الآية الأمر بصيغة البدل، والإبدال يفيد التكرار كما يقال، إذ لم يقل سبحانه : آ( لله علي المستطيع ...آ) وإنما قال : (لله علي الناس حج البيت من استطاع).

4 ـ انصرفت الآية وهي في معرض بيان من يشمله التكليف من آ(الناسآ) للتعبير بصيغة بيان آ(البعض من الكلآ) فقالت : (من استطاع اليه سبيلاً) وهذا الاسلوب بمثابة التفصيل بعد الاجمال، والتبيين بعد الإبهام ; وهو يفيد التكرار والتأكيد.

ولو جاءت الآية بصيغة آ( لله حج البيت علي المستطيع آ) أو آ( لله علي المستطيع آ) أو آ( علي من استطاع اليه سبيلاً حج البيت آ) لما أفهمت المعني آنف الذكر.

المقصود من آ(البيتآ) هو (أول بيت وُضع للناس) والاستطاعة تنقسم إلي استطاعة عقلية، واستطاعة شرعية، وكلاهما تتضمنهما الآية.

فمن الناحية العقلية يستطيع كل انسان آ(مستطيعآ) أن يتشرف بالحج آ(ولو متسكعاًآ) وان كان الحج مستحباً بالنسبة اليه، ليس بواجب ; وان لم يكن مستحباً فيحمل علي معني الزيارة ويدخل في المعني العام لقوله تعالي: (مباركاً وهدي للعالمين) فهو مصدر هداية وبركة للجميع المستطيع وغير المستطيع، وحاجاً كان أو معتمراً ; واجباً أدّاه أو ندباً. إلاّ انَّ الحج الواجب لا يجب إلاّ علي المستطيع. وفي البحث الفقهي ثمة آراء ; فهل تلزم الاستطاعة آ(اليهآ) فقط ; أم أنَّ الاستطاعة آ(اليهآ) وآ(عنهآ) كلتيهما لازمتان59؟

الهوامش :

ــــــــــــ

(1) آل عمران : 9697.

(2) آل عمران : 95.

(3،4) إبراهيم : 37.

(5،6) التوبة : 108.

(7) التبيان 2 : 535.

(8) مجمع البيان 2 : 477.

(9) النور : 36.

(10) القمر : 55.

(11) الحديد : 3.

(12) المائدة : 97.

(14 ـ 13) ابراهيم : 37.

(15) البقرة : 126.

(16) ابراهيم : 35.

(17) العنكبوت : 67.

(18) آل عمران : 97.

(19) الحج : 26.

(21ز20) الحج : 27.

(22) البقرة : 127.

(24ز23) المائدة : 97.

(25) الاسراء : 1.

(26) البقرة : 43.

(27) البقرة : 54، 184، 271.

(28) مريم : 31.

(29) مريم : 58.

(30) مريم : 59.

(31) البقرة : 115.

(32) نور الثقلين 1 : 367.

(33) الحج : 27.

(34) سبأ : 10.

(35) الأنبياء : 80.

(36) قريش 4.

(37) البقرة : 125.

(38) البقرة : 194.

(39) العنكبوت : 67.

(40) الحج : 25.

(41) الانعام : 129.

(42) جواهر الكلام 7 : 320.

(43) شرائع الاحكام : 1.

(44، 45، 46) البقرة : 144.

(47) الوسائل 3 : 247.

(48) التفسير الكبير 8 : 145.

(49) التفسير الكبير 8 : 145.

(50) الزمر : 21.

(51) التفسير الكبير 8 : 145.

(52) نهج البلاغة خطبة : 3.

(53) قريش : 4.

(54) العنكبوت : 67.

(55) البقرة : 125.

(56) البقرة : 216.

(57) البقرة : 43.

(58) القصص : 27.

(59) جواهر الكلام 17 : 273.