تمهيداً لإدراك مغزى ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ، واستحضار خلفيّتها تاريخيّاً ، قبل أن يُخلقوا ، يجدر بنا أن نشير إلى أنّهم قمّة المشروع الإلهي المقدّس في هذه الأرض ، مشروع الهداية والقيادة الرّبانيّة للبشريّة ، فهم مصداق لقمّة المشروع الإبراهيمي (المشروع الإلهي في آل إبراهيم (عليهم السلام)) .
والقرآن الكريم يعطي صورة واضحة عن هذا المشروع الربّاني المقدّس ، الذي يمثّل المرحلة الثالثة والأخيرة من المشروع الإلهي للخلافة في الأرض ، حيث تُمثّل المرحلة الأُولى من خلق آدم (عليه السلام) إلى دور نوح (عليه السلام)، والثانية من نوح (عليه السلام) إلى إبراهيم (عليه السلام) ، حيث تبدأ الثالثة وتستمر إلى يوم القيامة ، وتشمل أربعة أدوار رساليّة رئيسيّة لأربعة من أُولي العزم ، وهم : إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) ، ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (الحديد : 26) .
( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (الأنعام : 83 ـ 87) .
ومَن يتدبّر قصّة نوح (عليه السلام) ـ كما وردت في القرآن الكريم ـ يُدرك أنّه كان يُمثّل مرحلة جديدة بالخلافة في الأرض ، تكون وارثة لمرحلة آدم (عليه السلام) .
والقرآن الكريم يعطي تصوّراً واضحاً لهذه المراحل الثلاث ، في سياق عرضه لتاريخ البشريّة وتاريخ مسيرة الأنبياء في كثير من مقاطع القرآن الكريم ، ويجمع ذلك في الآية التالية :
( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ) (مريم : 58) .
وبالجمع بين هذه الآية والآية 26 من سورة الحديد ـ السابق ذكرها ، وملاحظة كون إبراهيم (عليه السلام) من ذريّة نوح (عليه السلام) ، يتّضح أنّ المشروع الإلهي يتشكّل من ذريّة نوح ، ثُمّ من ذرية إبراهيم (عليهما السلام) . ومن ملاحظة ورود اسم لوط (عليه السلام) ضمن ذكر ذريّة إبراهيم (عليه السلام) ، يتّضح أنّ القرآن الكريم يوسّع معنى الذريّة أحياناً لتشمل القريب الملائم (1) .
المشروع الإبراهيمي المقدّس يتألّف من ثلاثة فصول هامّة :
أوّلها : الفصل التأسيسي ، وهو الذي يمتد من ولادة إبراهيم (عليه السلام) إلى وفاته ، ويشاركه فيه ولَداه إسماعيل وإسحاق ، وأُمّاهما هاجر وسارة ، ثُمّ بعد وفاته استمّر إسماعيل وذرّيته في فصل ، وإسحاق وذرّيته في فصل آخر ، ولكن يكون دور إسحاق وذرّيته في قيادة البشريّة أكبر لمرحلة طويلة ، ثُمّ ينفرد فصل إسماعيل (عليه السلام) بالمهمّة إلى يوم القيامة (2) .
والقرآن الكريم تارةً يذكر الدور الإبراهيمي مجملاً دون بيان ، كما في الآية 26 من سورة الحديد ، والآية 58 من سورة مريم السابقتين ، وكما في قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) (العنكبوت : 27) .
وقوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيماً ) (النساء :54) .
وتارةً يبرز الدور الإسحاقي مع الإشارة إلى الدور الإسماعيلي كما في قوله تعالى : ( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ) (مريم : 50) .
وتارةً تجده يركّز على الدور الإسحاقي فقط :
( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (الأنبياء : 70 ـ 73) .
وتارةً تجده يذكر الشقّين معاً بوضوح :
( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (النساء : 163 ـ 164) .
وتارةً أخرى تجد القرآن الكريم يذكر الشق الإسماعيلي منفرداً :
( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (الحج : 26 ـ 27) .
وتارةً نجد القرآن الكريم يركّز على الشق الإسماعيلي مع الإشارة إلى الشق الإسحاقي :
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) (إبراهيم : 35 ـ 41) .
وفي كلّ سياق إشارة لها أبعاد ودلالات على جانب من المشروع ، وعلى علاقة الجانب به ستتجلّى أكثر فيما يأتي من أحاديث بعونه تعالى .
ومن الواضح أنّ المشروع بشقّيه كان واضحاً لإبراهيم (عليه السلام) ، وإنّ تقسيمه ذرّيته ـ التي انحصرت في إسماعيل وإسحاق ـ بين ذين المكانين المقدّسين ، ما هو إلاّ تأسيس للمشروع أو قُل تأسيس للمشروعين معاً .
ومن الواضح له أيضاً معالم كلّ من الدورين كما يتّضح أكثر إن شاء اللّه تعالى .
ولا شكّ أنّ كلاً من إسماعيل وإسحاق كان يدرك دوره . ولمّا كان الدور الإسحاقي ينحصر في يعقوب وذرّيته ، أصبحَ التركيز على يعقوب مع إبراهيم وإسحاق كما اتّضح من الآيات المذكورة ، وكما في مثل قوله تعالى :
( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ* إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ) (ص : 45 ـ 47) .
بينما نجد القرآن الكريم حينما يتحدّث فيما بذلَ من جهد ورعاية للمشروع الإبراهيمي هذا ، يؤكّد على دور يعقوب(3) بالنسبة للشق الثاني أكثر من إسحاق :
( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (البقرة : 132 ـ 133) .
نجده أيضاً يقتصر على ذكر إبراهيم ؛ لأنّه المُمهّد الأوّل للمشروع ، لا شطريه :
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (الزخرف : 26 ـ 28) .
أمّا الشق الإسماعيلي ، فتجد تأكيداً على إسماعيل في التمهيد ، ثُمّ ينتقل رأساً إلى آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؛ لأنّهم هم بيت القصيد في هذا الشق المقدّس . وممّا يُلفت أنّ شقّ إسماعيل (عليه السلام) لم يكلَّف بمهمّة لخدمة الدور اليعقوبي ، بينما نجد العكس من ذلك ، إذ نجد الشق اليعقوبي مكرّس لخدمة الدور المحمّدي كما سيتّضح إن شاء اللّه تعالى .
مراحل المشروع الإبراهيمي وأدواره :
ومن القرآن الكريم يتّضح أنّ المشروع الإبراهيمي ككلّ مرّ بأربعة مراحل كما يلي :
1 ـ من مولد إبراهيم (عليه السلام) إلى هجرته .
2 ـ من هجرة إبراهيم (عليه السلام) حتى وفاته .
3 ـ من وفاة إبراهيم حتى المبعث النبوي الشريف .
4 ـ من المبعث النبوي إلى يوم القيامة .
والمرحلة الأولى : خاصّة بإبراهيم وحده .
أمّا المرحلة الثانية ، فإنّ العنصر الرئيسي المشترك فيها ، هو دور إبراهيم (عليه السلام) وهاجر وابنها إسماعيل ، شريكيه في الشق الإسماعيلي من جهة ، ومن جهة أخرى يكون لوط وسارة وابنها إسحاق وابنه يعقوب ، شُركاه في الشق الإسرائيلي .
أمّا المرحلة الثالثة ، فيفترق فيها آل إبراهيم إلى فرقَتي عمل فرقة بني إسرائيل ، وفرقة بني إسماعيل ولكلّ منها مهمة ودور ، حيث إنّ مهمة هداية البشريّة العامّة وقيادتها عهدت إلى بني إسرائيل ، يضاف إليها دور التمهيد للدور المحمّدي الوريث والتبشير به ، بينما مهمّة بني إسماعيل هي : الاستقامة على ملّة إبراهيم وما في ذلك من دور هداية محدودة ، وكلّ ذلك يوظّف مباشرة في التمهيد للدور المحمّدي .
أمّا المرحلة الثالثة ، فتكون الهداية العامّة وقيادة البشريّة للشق المحمّدي ، وتكون مهمّة بني إسرائيل خدمة هذا الشق وهذا الدور ، فهو الوارث وهو الغاية للمشروع الإبراهيمي المقدّس .
إبراهيم (عليه السلام) من مولده حتى هجرته :
ولِدَ إبراهيم (عليه السلام) في أرض بابل ، وهو من ذرّية نوح (عليه السلام) ، وقد تربّى في بيت عمّه آزر ، فهو أبوه بالتربية والتبنّي ، والقرآن الكريم واضح الدلالة على هذه الحقيقة ؛ فإنّ إبراهيم استغفرَ لأبيه آزر لموعدة وعَدها إيّاه . ولمّا تبيّن له أنّه عدو منه ، تبرّأ منه ، ولا يجوز لنا تصوّر رجوعه بعد ذلك وترحّمه عليه ، فلابدّ أنّ الذي استغفرَ له إبراهيم الخليل بعد الهجرة لم يكن هو الذي تبيّن له أنّه عدو اللّه ، وقد أكّد إبراهيم هذا المعنى بتعبيره في الترحّم ـ كما يحكيه القرآن الكريم عنه ـ بعد أن أسكنَ هاجر وابنها إسماعيل في وادي مكّة ، حيث يقول في آخر فصل قرآني كريم :
( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) (إبراهيم : 40 ـ 41) .
وإبراهيم قبل الهجرة يبدأ دعوته بين قومه وفقَ السُنّة الإلهية في بعث الأنبياء ، وكانت فترة حافلة . ويظهر أنّها استمرّت سنين طويلة عاشَ فيها إبراهيم (عليه السلام) كثيراً ، كما يظهر جليَّاً من القرآن الكريم :
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (الأنعام : 74) .
( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً ) (مريم : 41 ـ 48) .
( وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) (الأنبياء : 51 ـ 52) .
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ) ، إلى قوله : ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) (الشعراء : 69 ـ 86) .
( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (التوبة : 114) .
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) (الزخرف : 26 ـ 27) .
وقصّة تحطيم إبراهيم (عليه السلام) لأصنام قومه معروفة ، وقد أكّد عليها القرآن الكريم بما يظهر أهمّيتها في هذه المرحلة من مشروعه ، ويظهر أنّ عدداً قليلاً من قومه قد استجابَ له :
( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (الممتحنة : 4 ـ 6) .
وهذه الآيات صريحة بأنّ المباينة والعِزلة حصلت بين إبراهيم وأتباعه وبين قومهم ، ويظهر أنّه (عليه السلام) ـ وبعد أن تبيّن له عدم قدرته على منازلتهم ، وبسط سيادة دين اللّه عليهم ـ قرّر الهجرة إلى بلاد أخرى تكون أكثر ملائمة لدعوته ، ولتأسيس المشروع الربّاني العظيم :
( وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) إلى قوله تعالى : ( فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (العنكبوت : 16 ـ 27) .
هجرة إبراهيم (عليه السلام) :
يظهر من الأخبار أنّ إبراهيم (عليه السلام) هاجرَ بعد أن تزوّج ابنة عمّه سارة ، وكانت هجرته إلى أرض مصر ، ولكنّه هاجرَ منها مرّة أخرى راجعاً إلى فلسطين ، بعد أن انضمّت إلى موكبه وبيته هاجر أُم إسماعيل :
( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) (الأنبياء : 70 ـ 71) .
وفي فلسطين استمرّ إبراهيم في دعوته ، وقد جعلَ اللّه سبحانه لوطاً (عليه السلام) نبياً تابعاً لإبراهيم (عليه السلام) .
( وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) إلى قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (العنكبوت: 28 ـ 32) .
وقد ذكرَ القرآن الكريم قصّة لوط في مواضع عديدة ، وتكرّر التأكيد على أنّ الملائكة بدأوا بإبراهيم (عليه السلام) وأحاطوه علماً بمهمّتهم ، وهي إنزال العذاب على قوم لوط ، وإنّه جادَلهم في ذلك وأخيراً سلّمَ لأمر اللّه ؛ وذلك لأنّ إبراهيم هو الرسول العام ورسالة لوط تابعة إلى رسالته فهو كالوكيل عنده ، فلم يشأ اللّه سبحانه أن يُنزل العذاب على لوط ويأمره بالهجرة إلى إبراهيم دون أن يكون إبراهيم على علم بتفاصيل الحدث وخلفيّاته ، وقد تقدّمت الإشارة إلى اعتبار لوط مُلحقاً بذرّية إبراهيم ، وإن كان ابن أخيه لا ابنه ، فهو من آل إبراهيم ومن أهل بيته .
ويتّضح من القرآن الكريم أنّ إبراهيم بلغَ من العمر عِتياً ولم يُرزق ولداً بعد ، وقد دعا ربّه أن يرزقه ذرّية صالحة فبُشِّر باستجابة دعوته مرّتين : المرّة الأولى : بمولد إسماعيل (عليه السلام) ، والمرّة الثانية : بمولد إسحاق (عليه السلام) .
( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) ، إلى قوله تعالى : ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ، إلى قوله تعالى : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ، ثُمّ إلى قوله تعالى : ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) ، وبعد ذلك يقول : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (الصافات : 83 ـ 113) .
ومِمّا يشير إلى أنّ إسماعيل أكبر من إسحاق ، ذِكر إسماعيل قبل إسحاق في الآيات التي تذكرهما كما بني إبراهيم (عليه السلام) ، (انظر : البقرة : 125 ، 133 ، 136 ، 140 / آل عمران : 84 / النساء : 163 / إبراهيم : 39) .
ومنها قوله تعالى عن لسان إبراهيم (عليه السلام) :
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) (إبراهيم : 39) .
وولادة إسماعيل لم تكن معجزة ولم يُفاجئ بها إبراهيم ولا هاجر ولا سارة ، وقد ثبت أنّ سارة هي العاقر وقد أصبحت عجوزاً ، وأصبح إبراهيم شيخاً كبيراً ، فكانت البشارة بإسحاق معجزة وأمراً عجيباً ، وكانت مناسِبة اجتماع الملائكة بإبراهيم (عليه السلام) بحضور سارة (رضوان اللّه عليها) ؛ للتداول بأمر قوم لوط ، وأمرِ لوط وأهله مناسِبة للبشارة بالكرامة المعجزة (4) .
( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبراهيم بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ )
في الإشارة إلى أن نسبته إلى إسرائيل ، وهو يعقوب بن إسحاق ، أكثر من نسبته إلى إسحاق مباشرة ؛ ولذلك نجد أنّ القرآن الكريم فيما يريد نسبة هذا الشق إلى إبراهيم (عليه السلام) يذكر إسحاق ، بينما نجده حينما يريد أن يتحدَّث في الشق مفصَّلاً يركِّز على يعقوب (عليه السلام) :
( وَوَصّى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيّ إِنّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (البقرة : 132 ـ 133) .
ويقول عن لسان يوسف (عليه السلام) :
( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (يوسف : 38) .
وعن لسان يعقوب (عليه السلام) في حديثه لابنه يوسف :
( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (يوسف : 6) .
( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبراهيم وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ) (مريم : 58) .
ففي هذه الآية إشارة إلى أنّ الشق الإسحاقي ينحصر في ذرّية إسرائيل .
ثُمّ إنّ الآيات التي تتحدّث عن النبوّة من بعد إبراهيم وإسحاق ـ ضمن هذا الشق من المشروع وفي الفترة التي تنتهي ببيعة النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ إنّما تنحصر في بني إسرائيل وحديث القرآن كلّه في هذا الشق يقتصر على ذِكر بني إسرائيل .
( وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (الجاثية : 16) .
وهكذا ينبغي أن نفهم كلّ الآيات التي تذكر فضل اللّه على بني إسرائيل وتفضيلهم ، فإنها إنّما تقصد هذا الشق من المشروع الإبراهيمي ، وهو كما بيّنا محدود في الفترة المذكورة (أي بين وفاة يعقوب ومولد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)) .
وهكذا أصبحَ آل إبراهيم أمام مرحلة جديدة تتوزّع فيها الأدوار ، فدور رئيسي لإبراهيم ، ودور إلى لوط يسكت عنه القرآن الكريم ، ودور لسارة وإسحاق يسكت عنه القرآن الكريم أيضاً ، ودور لهاجر وإسماعيل يذكره القرآن بلهجة حارّة ونكهة خاصّة ويصوِّر جانباً هامّاً منه .
دور إبراهيم (عليه السلام) :
ومن الواضح أنّ دور إبراهيم (عليه السلام) ـ بعد حادثة قوم لوط والبشارة بإسحاق ، وقبل أن يبوّأ له مكان البيت ويؤمَر بنقل هاجر وإسماعيل إليه ـ كان يتمثّل في استمراره بالدعوة ومهام الرسالة ورعايته آله وإعدادهم للأدوار المستقبليّة العظيمة .
وبعد أن أمرَ بنقل هاجر وإسماعيل إلى وادي مكّة عند البيت المحرّم ، أصبحَ أهله فريقَي عمل ، فريق في أرض فلسطين وفريق في مكّة ، وهو يشرف على الفريقين ويواصل مهمته في الدعوة والرسالة ، وسوف تتّضح هذه المعاني فيما يأتي من كلام عن كلّّ من الشقّين المقدّسين .
ولنبدأ بالشق الإسرائيلي ، ثُمّ نتلوه بالحديث في الدور الإبراهيمي الإسماعيلي للشق المحمّدي أو للمشروع المحمّدي المقدّس .
الشق الإسرائيلي ( أو المشروع الإسرائيلي ) :
وهو أحد شقّي المشروع الإبراهيمي العظيم ، الذي أعدّه اللّه سبحانه لهداية وقيادة البشريّة من عهد إبراهيم (عليه السلام) إلى يوم القيامة ، ويَنتسب إلى إبراهيم بواسطة إسحاق (عليهما السلام) ، وقد يُذكر معهما إسماعيل أيضاً ، ولكنّ القرآن الكريم واضح في الإشارة إلى أنّ نسبته إلى إسرائيل ـ وهو يعقوب بن إسحاق ـ أكثر من نسبته إلى إسحاق مباشرة ، ولذلك تجد أنّ القرآن الكريم حينما يريد نسبة هذا الشق إلى إبراهيم (عليه السلام) يذكر إسحاق ، بينما نجده حينما يريد أن يتحدّث في الشق مفصّلاً يركِّز على يعقوب (عليه السلام) .
( وَوَصّى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيّ إِنّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (البقرة : 132 ـ 133) .
ويقول عن لسان يوسف (عليه السلام):
( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (يوسف : 6) .
وعن لسان يعقوب (عليه السلام) في حديثه لابنه يوسف :
( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (يوسف : 6) .
( أُولئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ مِن ذُرّيّةِ آدَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ(5) * وَمِن ذُرّيّةِ إبراهيم وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ) (مريم : 58) .
وهكذا ينبغي أن نفهم كل الآيات التي تذكر فضل اللّه على بني إسرائيل وتفضيلهم ، فإنَّها إنَّما تقصد هذا الشق من المشروع الإبراهيمي ، وهو كما بيَّنا محدود في الفترة المذكورة (أي بين وفاة يعقوب ومولد الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ) .
ولا يخفى أنّ الفضل والتفضيل لا يشمل الكفَّار والعُصاة والفَسَـقَة من بني إسرائيل ، وإنّ الأنبياء والرُسل بعض من بني إسرائيل وليس كلّهم ، ولكنّ ذلك يشكّل نعمة كبيرة على كلّ بني إسرائيل تستوجب منهم الشكر ، وتضاعف مسؤوليتهم أمام اللّه وأمام التاريخ وأمام البشريّة : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (البقرة : 47) ، وكذلك آية : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ ) (المائدة : 20) .
إنّ هذه الآيات إنّما تقرِّر تكليف بني إسرائيل ضمن المشروع الإبراهيمي في هذا الدور كما ذكرنا ، والقرآن الكريم صريح في أنّ الفضل والتفضّل ـ الذي سيكون للشق الإسماعيلي (أو للمشروع المحمدي) ـ يكون أكبر ممّا ذُكرَ لبني إسرائيل ، وقد اتّضح ذلك من سياق القرآن الكريم في المقطع القرآني الذي استعرض قصّة بناء البيت ، ودعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، وأوضحَ اللّه ذلك لموسى (عليه السلام) كما في قوله تعالى :
( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (الأعراف : 155 ـ 157) .
إنّ هذه الآيات صريحة في تفضيل أُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على بني إسرائيل ، وذلك ببيانها أنّ ما طلبه موسى من رحمةٍ لقومه لم يُستجب ، وإنّما جُعلت الرحمة المعنيّة بأتباع محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذين يتّقون ، ويُؤتون الزكاة ، ويؤمنون بآيات اللّه ويتّبعون النور الذي أُنزِل معه .
وأكثر من هذا ، فإنّ القرآن صريح بذم بني إسرائيل بصورة عامّة لمواقفهم المخزية مع أنبيائهم ، ومدحه لهم أقلّ بكثير من ذمّه لهم ؛ لأنّ مواقفهم الذميمة أكثر من مواقفهم الحميدة ، رغم كثرة الأنبياء والرُّسل الذين بُعثوا فيهم .
وقد صرّح أنّ أنبياء بني إسرائيل أنفسهم لَعنوا الذين كفروا من بني إسرائيل ، وزاد القرآن في هذا اللعن وأيّده بلهجة شديدة : ( لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهُوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (المائدة : 78 ـ 79) وكذلك اقرأ الآيات التي بعدها .
وبما أنّ بني إسرائيل أصبحوا ـ بعد مبعث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ مجرّدين عن الميزة التي كانت ترشح عليهم الفضل بانتقال النبوّة والإمامة إلى الشق الإبراهيمي الآخر ، وأصبحت عليهم مهمّة إضافيّة : وهي مهمّة التصديق بالرسول مباشرة وقبل غيرهم ، والدعوة إليه ورفع الشبهات عن الدعوة الإسلاميّة ، ولكنّهم ارتدوا ونكثوا وكفروا ، فإنّهم أصبحوا ملعونين ومذمومين ، ولم يبقَ لهم من ذلك الفضل الّذي كان لسلفهم في ذلك الدور ، فلا فخر لهم ولا كرامة ، كما سيتّضح أكثر بعونه تعالى .
مراحل المشروع الإسرائيلي :
من القصص القرآني ومن الأخبار يمكننا القول : إنّ مسيرة بني يعقوب مرّت بثلاثة أدوار رئيسيّة : يمثّل الأوّل منها الفترة من وفاة إبراهيم إلى ميلاد موسى (عليه السلام) ، والثاني إلى عهد ميلاد المسيح ، والثالث هو الأخير .
1 ـ المرحلة الأولى :
رأينا أنّ القرآن الكريم يركِّز على دور إبراهيم (عليه السلام) في التأسيس ، وعلى دور إسحاق (عليه السلام) في انتساب المسيرة ، وعلى يعقوب (عليه السلام) في رعاية المشروع بجدّية .
وبعد هذا ، نجد القرآن الكريم يسلّط الأضواء على دور يوسف (عليه السلام) ، وكيفيّة انتقال يعقوب وبنيه إلى مصر والتمكين ليوسف ولهدى أبيه يعقوب من مستوى الحكم ، ولا يخفى أنّ الرسالة كانت ليعقوب (عليه السلام) ، وأبناؤه تابعون له فيها ، ويوسف كان أفضلهم ، وخُصّ بالنبوّة وبميراث الحكمة من آبائه ، وبعد يعقوب أصبحَ يوسف هو صاحب الرسالة حسب ما ذكرَ القرآن الكريم عن لسان مؤمن آل فرعون : ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكّ مِمّا جَاءَكُم بِهِ حَتّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ) (غافر : 34) .
وبعد تسليط الضوء على دور يوسف (عليه السلام) ـ وذِكر بعض الأنبياء بشكل مقتضب ـ يبرز القرآن الكريم مظلوميّة بني إسرائيل في آخر هذا الدور ، حيث أصبحوا أقليّة مستضعفة مضطهدة بعد أن كانت عزيزة تقوم بدور القيادة والهداية .
( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) (القصص : 4) .
( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا إِنّ الْأَرْضَ للّهِِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (الأعراف : 128 ـ 129)، ( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) (الدخان : 30 ـ 31) .
( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) (البقرة : 49) .
2 ـ المرحلة الثانية :
وهذه المرحلة تبتدئ بمولد موسى (عليه السلام) ، ويكون محور الهداية والقيادة فيها آل عمران الأُول ، وهو والد موسى (عليه السلام) ، ويذكرهم القرآن الكريم بآل موسى وآل هارون .
يظهر من سياق القرآن الكريم أنّ بني إسرائيل كانوا على دين أبيهم يعقوب في الجملة ، وكانوا يشكّلون أُمّة متميِّزة ، وقصّة انتصار موسى (عليه السلام) لذلك الرجل الذي من شيعته تدلّ على هذا المعنى : ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) (القصص : 15) .
فإنّ الآية ـ والآية التي تحكي الحادثة الثانية في اليوم الثاني ـ صريحتان بأنّه لموسى (عليه السلام) شيعة وله أعداء ، وكان عمل موسى على أساس فرض الولاية بينه وبين شيعته ، ولكنّه لم يرد قتل الرجل نهائياً ، فلمّا رأى أنّ وَكزَته قضت عليه ، لَعن الشيطان الرجيم الذي حاكَ هذه الحادثة ليوقع موسى في ورطة .. وطلبَ من اللّه سبحانه أن يستر له هذه الفعلة ويجعل له مخرجاً من تَبِعَتِها الجزائيّة ، فكان ذلك بأمره بالهجرة .
وقصّة هجرته وعودته إلى مصر ـ رسولاً داعياً فرعون وما دار بينه وبين فرعون ـ معروفة ، والّذي يهمّنا فيها أكثر في هذا البحث أنّ موسى (عليه السلام) جابهَ فرعون بدعوتين :
إحداهما : دعوة فرعون نفسه للإيمان .
ثانيهما : الطلب منه أن يطلق سراح بني إسرائيل مع موسى (عليه السلام) .
وكان لكلّ من الدعوتين أبعادهما وأهدافها ، فلو أنّ فرعون استجاب شخصيّاً وآمنَ واتّبع موسى (عليه السلام) ، لكان قد وفّر على الدعوة الإسلاميّة وقتاً وجهداً ، وأزالَ عَقبات كأْدَاء ، ولدخلَ موسى الحياة من أوسع الأبواب ، ولكان بنو إسرائيل أمام مهمّتهم في ظل قيادة موسى في ظروف مناسبة للغاية ، ولذلك قدّمَ موسى (عليه السلام) هذه الدعوة على الدعوة الثانية ؛ لأنّها تُغني عنها . أمّا عندما امتنع فرعون وكَفَر ، فقد كان على موسى أن يتحوّل إلى الدعوة الثانية ، وهي الطلب من فرعون تسريح بني إسرائيل مع موسى (عليه السلام) ؛ ليكونوا مادّة الانطلاقة إلى غيرهم .
( هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى ) (النازعات : 15 ـ 21) .
( إِنّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ) (المزمّل : 15) .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذّابٌ ) (غافر : 24) .
( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَى ) (طه : 42 ـ 44) .
(فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) (طه : 47) .
( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (الشعراء : 16 ـ 17) .
( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ) (الأعراف : 134 ـ 135) .
وكان الطريق لكلّ من الدعوتين واحداً ، وهو إظهار العجز وإقامة البرهان على صدق الدعوة ، والاستجابة إمّا أن تكون كاملة وإيمان وإتّباع الهدى والتسليم لموسى ولدور بني إسرائيل في الدعوة ، وإمّا أن تكون ناقصة وتقتصر على تسريح بني إسرائيل مع الرسول . والجزاء على كلّ من درجَتي الاستجابة يكون بحسبها ، فالجزاء على الإيمان والإتّباع يكون في الدنيا والآخرة . وأمّا الجزاء على العفو عن بني إسرائيل ، فيكون بالعفو عن عذاب آل فرعون في الدنيا وإمهالهم وتمتّعهم فيما هم فيه من وضعٍ دنيوي .
ولمّا أبى فرعون واستكبرَ ، رغم ما دَحضته الحجّة وأُسقِط ما في يده من كيد ، أمرَ موسى بالهجرة بجميع بني إسرائيل .
ويتّضح جليّاً أنّ فرعون دُمغ بالحجّة وضعُف أمام موسى ودعوته ، بالقدر الذي جعله غير قادر على قتله وقتل هارون .. ولكنّه فكّر في فرض الإقامة الجبريّة عليهما وعلى بني إسرائيل .
وقصّة الهجرة معروفة ، وأُغرق فرعون وجنوده ، ومدحَ اللّه سبحانه بني إسرائيل على صبرهم على الأذى وعلى الهجرة ، ومَنحهم النصر على فرعون وجنوده ، ولكنّه ذمّهم أيضاً على مواطن الفشل :
منها : عبادة العجل ، وتواطؤهم على معصية هارون ، وتجاوز ولايته عليهم بصفته وزير وخليفة موسى عليهم في سفره .
ومنها : فَشلهم في عدم الاستجابة للجهاد ، ومعصيتهم موسى وعدم دخولهم المدينة ؛ بحجّة أنّ فيها قوماً جبّارين ، فعوقبوا بالتيه المعروف .
ومنها : فشلهم في معصيتهم لأمر موسى في دخول الباب ، وقولهم حطّة ورفع الجبل فوقهم ، وكذلك في مواطن الوهن والخلل ، وقلّة الاندفاع في الطاعة كما في قصّة ذبح البقرة .
وهكذا فإنّ القرآن الكريم يعطي صورة واضحة لفشل بني إسرائيل في المهمة ، رُغم إيمانهم باللّه وبرسالة موسى وهارون (عليهما السلام) ، ولذلك بقوا في تيه ولم يتقدّموا خطوة أخرى في حمل الدعوة ، ولم تتوسّع دعوة موسى في زمانه ولم يتوسّع سلطان الإسلام .
وبعد موسى ، اختلف بنو إسرائيل ووقعت حروب بينهم ـ كما هو معروف ـ ومنها محاربة زوجة موسى لوصّيه وقائد المسيرة من بعده يوشع .
النفحة الربّانيّة ومُلك آل داود :
بعد موسى ـ وبعد أن ضُربت الذلّة على بني إسرائيل بسبب فشلهم في حمل الدعوة ، وفي الانقياد والتسليم للأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) ـ حَدثت حركة صحوة بين صفوف الوجهاء والمتنفذين منهم ، وتوجّهوا إلى نبيّهم آنذاك يَعرضون عليه استعدادهم للجهاد وإنّهم بحاجة إلى قيادة ميدانيّة : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (البقرة : 246) .
وبعد أن استوثقَ منهم النبي وأقام عليهم الحجّة وقطعَ كلّ عذر ، وأبانَ لهم أنّ الجهاد يتطلّب منهم الاستعداد النفسي لتحمّل كلّ تبعاته ، وإنّ الأمر ليس بالهيّن ، وحَمل السلاح ودخول مرحلة الكفاح المسلّح يقطع خط الرجعة ، ومع كلّ ذلك بقوا على موقفهم وإصرارهم على إعلان الثورة والمضي فيها إلى نهاية المطاف ـ بلّغَهم بحكم اللّه سبحانه وتنصيبه طالوت إماماً عليهم ، وكان موقفهم من هذا التنصيب فاشلاًً ، حيث جادلوا نبيّهم واعترضوا على أمر اللّه سبحانه ، ولم تنفتح نفوسهم عليه ولم تنشرح صدورهم ولم يُذعنوا لأمر اللّه إلاّ على مضض : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيّهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة : 247) .
ثُمّ بيّنَ لهم النبي علامة بدء الثورة ، وعلامة التنصيب الإلهي لطالوت ، وذلك حسب الطريقة التي جَعلها لبني إسرائيل من بعد موسى ، بأنّه تأتي الملائكة تحمل التابوت وفيه بقيّة أثريّة من تراث آل موسى وآل هارون (عليهما السلام) : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (البقرة : 248) .
وقد وردَ في الأخبار عن أهل البيت (عليهم السلام) ، أنّ ميراث الكتب والسلاح عند أهل البيت (عليه السلام) كالتابوت عند بني إسرائيل ، فمَن يعطيه الإمام السابق الكتب والسلاح فهو الإمام من بعده .
ولمّا قام طالوت (عليه السلام) بالأمر ، سارَ سيرة الأنبياء والأئمّة ، بهدي من اللّه وبصيرة وحكمة ، لا على الموازين الوضعيّة المتعارفة عند القادة السياسيين والعسكريين غير المُنصّبين من اللّه والمعصومين بتسديده ؛ وذلك أنّه بعد أن جمعَ الجيش وسار بهم نحو العدو ، بيّن لهم أنّهم سيعبرون نهراً وعليهم أن لا يشربوا منه ، ومَن يشرب منه يُعاقب بالتسريح من الجيش ، ويُحرم من شرف الجهاد المقدّس ويخرج من ولاية الإمام ، وإنّ مَن يصبر على العطش ولم يشرب من ذلك النهر ، يدخل في ولاية الإمام ويفوز بعزّ الانتماء إلى الجيش الإسلامي المجاهد .
واستَثنى الغَرفَة الواحدة باليد ، فإنّها مسموح بها ، وهنا فشلَ بنو إسرائيل مرّة أخرى وشرب أكثرهم من ذلك النهر ، ورجعوا خاسئين وبقي طالوت مع القلّة المؤمنة الموالية وعبروا النهر : ( فَلَمّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنّهُ مِنّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلّا قَلِيلاً منهم ... ) (البقرة : 249) .
وحتى الموالون الذين عبروا النهر مع طالوت (عليه السلام) أصابهم الفشل وأظهروا قلقهم وتخوّفهم ، ولم تكن درجة ولائهم عالية بالدرجة التي يحصل معها الاطمئنان الذي ينبغي أن يكون عند الموالي ، الذي يقاتل تحت راية الإمام المنصّب من قِبَل اللّه تعالى كما كان حال القلّة المؤمنة : ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (البقرة : 249) .
وهكذا التقى الجيشان وانتصر المسلمون على الكافرين ، بصبر وتوكّل الإمام والفئة المؤمنة وتوكّلهم على اللّه سبحانه ، وكالنصر على يد إمام الهدى المرشّح للإمامة العامّة داود النبي (عليه السلام) ، وقد كان ذلك من علامات إمامته : ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ... ) (البقرة : 250 ـ 251) .
وهكذا بدأت دولة آل داود (عليهم السلام) ، وقد جعلها اللّه سبحانه آية من مظاهر حكمته وقدرته ، ومَثلاً لمَا خصّ به أولياءه الصالحين من فضلٍ ومن قُدرات : (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) (الأنبياء : 79 ـ 82) .
( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) (النمل : 16 ـ 19) .
( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (النمل : 38 ـ 40) .
وكذلك انظر : سورة سبأ ، وسورة ص .
3 ـ المرحلة الثالثة :
وهي المرحلة التي ولِدَ فيها المسيح (عليه السلام) ، ويمكن أن نسمّيها (دور آل عمران الثاني) ، وهو والد مريم (عليها السلام) .
وفي هذه المرحلة جُعلت مريم آية وضَربت مثلاً للذرّية الصالحة ، وبها أُسِّس دليل وبرهان على أنّ الذرّية يمكن أن تُجعل عن طريق الأنثى دون الذكر ، حيث جُعلت ذرّية عمران من ابنته مريم ، وجُعل عيسى صفوة الذرّية النبويّة الوارثة مع أنّه ينتسب إلى إسرائيل وإلى إبراهيم من أُمّه فقط : ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (آل عمران : 35 ـ 37) .
وكذلك انظر : التحريم : 12 ، وسورة مريم .
ومن سياق القرآن الكريم وحديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عيسى ويحيى ، يتّضح أنّ الكيان المقدّس الذي يُطلق عليه آل عمران في هذه المرحلة يشمل : عمران ، ومريم ، وعيسى ، وزكريا ، ويحيى ، ولم تكن أُم يحيى وأُم مريم قاصرتين عن شرف العضويّة فيه .
وزكريا كان متزوّجاً خالة مريم وقد عمّر ولم ينجب ، وكانت امرأته عاقراً فلمّا رأى كرامات مريم تحفّزَ للدعاء ؛ ليُرزق آية ذات كرامات مشابهة ليرثه ويرث من آل يعقوب من ميراث النبوّة .
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران : 38 ـ 39) .
وكذلك انظر سورة مريم الآيات : 1 ـ 15 وكذلك الأنبياء : 90 .
وميلاد يحيى في أيّام ميلاد المسيح (عليه السلام) ، وكان كلّ منهما آية ، ولكنّ دور عيسى أوسع ووراثته لآل يعقوب أشمل ، وهو صاحب الرسالة العالَميّة ، فهو من أولي العزم .
وفي هذه المرحلة سجّل بنو إسرائيل أسوء فشل لهم ، منذ أن كُلّفوا بالقيام بالدور الطليعي في الاستجابة لأنبياء اللّه سبحانه . فقد اختلفَ بنو إسرائيل في هذا الدور اختلافاً شنيعاً وأتوا الأمور الفظيعة ، فقتلوا الأنبياء وفارقوا الدين بكلّ وقاحة وصلافة ، حتى أنّهم قتلوا زكريّا ويحيى ، وأقدَموا على قتل عيسى (عليه السلام) فرفعهُ اللّه سبحانه وشُبّه لهم فقتلوا الشبيه على أنّه هو المسيح ، وآذوا اللّه في مريم المقدّسة .
والواقع أنّ بني إسرائيل أسرفوا وفرّطوا في النعمة التي أنعمَ اللّه عليهم ، منذ عهد موسى (عليه السلام) كما ذكرنا ، ولكن في الدور الأخير أخذوا يقتلون الأنبياء ، والأخبار في هذا الباب تثير الدهشة والعجب ، وما فعلوه بزكريا ويحيى وعيسى يلقي ضوء على الحقيقة .
ويبدو أنّ إسرافهم تفاقمَ منذ عهد آل داود ، وقد رأينا كيف خالفوا مبدأ الولاية في اعتراضهم على اللّه سبحانه وعلى نبيّهم ، في قضيّة تنصيب طالوت إماماً لهم في الجهاد : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) (المائدة : 78) ، حيث يبدو أنّ تفريط بني إسرائيل منذ دور آل داود ، وصلَ حدّاً حملَ داود (عليه السلام) إلى إعلان لَعنهم والبراءة منهم ، وهذا لم يحدث من موسى (عليه السلام) رغم ما آتُوا من مخالفات فظيعة ، ففي ذلك إشارة إلى أنّ ما أتوا من فظائع منذ عهد داود أفظع ممّا أتوا في عهد موسى .
وممّا ظهر على أوضاعهم من انحراف هو تفريطهم في الولاية الإسلاميّة : ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (المائدة : 79 ـ 80) .
والقرآن الكريم يعطي صوراً ممّا كان يقترف بنو إسرائيل ، وأوّل الفظائع التي يؤاخذهم عليها قتلهم أنبياءهم ووصفهم اللّه بصفات النقص : ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (آل عمران : 181 ـ 183) ، ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) (آل عمران : 112) .
ومن المُلفت للنظر أنّ تِلكم الفضائع كانت تصدر من بني إسرائيل مع أنّهم يدّعون الدين ، بل إنّهم كانوا يُقدمون عليها باسم الدين ، ويُضفون عليها آراء سياسيّة ذات علاقة بالدين ، أي أنّهم لم يبرأوا من دين موسى ولا دين إبراهيم وإسرائيل بصراحة ؛ وإنّما هم يخالفون الولاية ويَنصبون لأهلها العداء ويقتلون الأنبياء وأبناء الأنبياء .
وموقفهم مع عيسى (عليه السلام) كان منعطفاً نحو العدّ التنازلي في مُنحني استبدالهم بغيرهم ، حتى أصبح أتباعه من غيرهم ، وأصبحوا فِرقاً أشتاتاً مُبَعثرين في الآفاق .
ــــــــــــــــــ
* المصدر : مجلَّة " رسالة القران " ( نشرة فصلية تُعنى بالشؤون القرآنية ) ، دار القرآن ـ قم ، ع 11 ( رجب ـ شعبان ـ رمضان ) ، 1413 هـ ، ص 161 ـ 180 .
1 ـ لأنّ لوطاً (عليه السلام) ابن أخيه ، وليس من سلسلة أولاده ، ولكنّه قريب في نَسَبه وملائم لحمل الذرّية الصالحة ومن سنخ إبراهيم ، ذرّيته لأنّه نبي .
2 ـ ماعدا ما يكون من دورٍ لعيسى (عليه السلام) مع المهدي المنتظر (عليه السلام) .
3 ـ وهو إسرائيل ، وإليه كانت نسبة بني إسرائيل ؛ لذلك صحّ لنا أن نطلق على الشق الإسحاقي بالشق الإسرئيلي ، كما يصحّ لنا أن نطلق على الشق الإسماعيلي بالشق المحمّدي .
4 ـ أو أنّ المناسبة مجيء الملائكة إبراهيم بالبشارة المعجزة مناسِبة لإخباره في مهمّة أخرى يختلف وقعها عليه ، ولكنّ نتيجتها لها علاقة بالمشروع الإبراهيمي الكبير ، وهي مهمّة إهلاك قوم لوط وهجرة لوط إلى إبراهيم .
5 ـ يظهر أنّ المقصود في عبارة : ( وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) أحد أبنائه ؛ لأنّ القرآن الكريم في سورة الحديد ( آية 26 ) يشير إلى أنّ النبوّة جُعلت في ذرّية نوح وإبراهيم (عليهما السلام) .