تنازعنا معاشر المسلمين على مسائل الخلاف في الداخل ففرق اعداء الاسلام من الخارج كلمتنا من حيث لانشعر, وضعفنا عن الدفاع عن بلادنا, وسيطر الاعداء علينا، وقد قال سبحانه وتعالى : (وأطيعوا اللّه ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وينبغي لنا اليوم وفي كل يوم ان نرجع الى الكتاب والسنة في ما اختلفنا فيه ونوحد كلمتنا حولهما, كماقال تعالى : (فان تنازعتم في شيء فردوه الى اللّه والرسول) وفي هذه السلسلة من البحوث نرجع الى الكتاب والسنة ونستنبط منهما ماينير لنا السبيل في مسائل الخلاف، فتكون باذنه تعالى وسيلة لتوحيد كلمتنا.
المصحف
۱- في اللغة
الصحيفة : التي يكتب فيها، والجمع صحائف وصحف وصحف، والمصحف والمصحف : الجامع للصحف بين الدفتين.
وقالوا في تفسير الدفتين، الدفة : الجنب من كل شي ء وصفحته، ودفتا الطبل : الجلدتان اللتان تكتنفانه، ويضرب عليهما, ومنه دفتاالمصحف، يقال : حفظ ما بين الدفتين، اي : حفظ الكتاب من الجلد الى الجلد.
وبناء على ما ذكرنا, فان المصحف : اسم للكتاب المجلد, وذلك لانه اذا كانت الصحيفة : هي ما يكتب فيها وجمعها الصحف، والمصحف : هوالجامع للصحف بين الدفتين، والدفتان : هما جلدتا الكتاب،فالمصحف في كلامهم بمعنى الكتاب المجلد في كلامنا.
وبناء على ما ذكرنا: ان المصحف اسم لكل كتاب مجلد قرآنا كان ام غير قرآن .
۲- في مصطلح الصحابة
استعمل المصحف بالمعنى اللغوي في روايات (جمع القرآن) حتى عهد عثمان . فقد روى البخاري عن الصحابي زيد بن ثابت ما ملخصه : ان الخليفة ابا بكر امره بجمع القرآن . قال : فتتبعت القرآن اجمعه، فكانت الصحف عند ابي بكر حتى توفاه اللّه، ثم عند عمر في حياته، ثم عندحفصة بنت عمر.
وروى بعدها عن انس ما ملخصه : ان عثمان عندما اراد ان يجمع القرآن ارسله الى حفصة : ان ارسلي الينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها اليك …,الخبر.
ومن الواضح ان الصحف والمصاحف ذكرا في الخبرين المذكورين آنفا بنفس المعنى اللغوي : الكتاب المجلد .
واكثر تصريحا مما جاء عند البخاري، ما جاء عند ابن ابي داودالسجستاني في باب : جمع القرآن في المصحف من كتابه : المصاحف فقد روى فيه :
ا – عن محمد بن سيرين، قال : لما توفي النبي۹ اقسم علي ان لا يرتدي الرداء الا لجمعة، حتى يجمع القرآن في مصحف .
ب – عن ابي العالية : انهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة ابي بكر.
ج – عن الحسين : ان عمر بن الخطاب امر بالقرآن، وكان اول من جمعه في المصحف .
استشهدنابهذه الروايات الثلاث لانها تدل على ان في عصر روايتهاكان المصحف في كلامهم اعم من القرآن، فقد جاء فيها حسب التسلسل :
ا – حتى يجمع القرآن في مصحف.
ب – جمعوا القرآن في مصحف .
ج – وامر بالقرآن فجمع، وكان اول من جمعه في المصحف.
ولوكان المصحف لديهم هوالقرآن لكان تفسير الروايات كالاتي :
ا – حتى يجمع القرآن في القرآن .
ب – جمعوا القرآن في القرآن .
ج – وكان اول من جمع القرآن في القرآن .
۳- في روايات ائمة اهل البيت (ع)
وقد جاء المصحف في روايات ائمة اهل البيت (ع) بنفس المعنى اللغوي لمدرسة الخلفاء، فقد روى الكليني في باب (قراءة القرآن في المصحف): الحديث الاول عن ابي جعفر الصادق (ع)، قال : قراءة القرآن في المصحف تخفف العذاب عن الوالدين، ولوكانا كافرين.
وبناء على ما ذكرنا ثبت ان المصحف كان يستعمل في كلام الصحابة والتابعين والرواة بمدرسة الخلفاء ومدرسة اهل البيت (ع) ويراد به الكتاب المجلد، اي: ان المصحف استعمل في محاورتهمافي عصر الاسلام الاول في معناه اللغوي واشتهر بعد ذلك في مدرسة الخلفاء تسمية القرآن المدون والمخطوط بين الدفتين بآالمصحف .
۴- في اخبار مدرسة الخلفاء
وقد سمي في مدرسة الخلفاء غير القرآن بالمصحف كالاتي : مصحف خالد بن معدان : روى كل من ابن ابي داود (ت ۳۱۶هـ) وابن عساكر (ت ۵۷۱هـ)والمزي (ت ۷۴۲هـ) وابن حجر (ت ۸۵۲هـ) بترجمة خالد بن معدان وقالوا: ان خالد بن معدان كان علمه في مصحف له ازرار وعرى.
فمن هوخالد بن معدان صاحب المصحف ؟ كان خالد بن معدان من كبار علماء الشام ومن التابعين، ادرك سبعين من الصحابة، ترجم له ابن الاثير (ت ۳۶۰هـ) في مادة الكلاعي، وقال : توفي خالد سنة ثلاث اواربع اوثمان ومائة هجرية .
۵- اشتهار المصحف في كل ما كتب وجعل بين الدفتين : الكتاب المجلد
كان استعمال المصحف في ما كتب وجعل بين الدفتين – اي الكتاب المجلد – مشهورا ومتداولا لدى العلماء والباحثين بمدرسة الخلفاء, واليكم المثالين الاتيين لذلك : ا – عنون ابن ابي داود السجستاني من اعلام القرن الثالث الهجري في كتابه المصاحف كالاتي :
۱- جمع ابي بكر الصديق القرآن في المصاحف بعد رسول اللّه۹٫
۲- جمع علي بن ابي طالب القرآن في المصحف .
۳- جمع عمر بن الخطاب القرآن في المصحف.
ب – ومن المعاصرين قال ناصر الدين الاسد في كتابه مصادر الشعرالجاهلي : وكانوا يطلقون على الكتاب المجموع : لفظ المصحف، ويقصدون به مطلق الكتاب، لا القرآن وحده، فمن ذلك ما ذكره….
ثم نقل خبر مصحف خالد بن معدان من كتاب المصاحف لابن ابي داود السجستاني.
۶- في مصطلح الامم السابقة
تسمية الكتب الدينية للامم السابقة بالمصحف : وكذلك سميت الكتب الدينية للامم السابقة بالمصحف كما جاء في طبقات ابن سعد بسنده : عن سهل مولى عتيبة : انه كان نصرانيا من اهل مريس، وانه كان يتيما في حجر امه وعمه، وانه كان يقرا الانجيل، قال : فاخذت مصحفا لعمي فقراته حتى مرت بي ورقة، فانكرت كتابتها حين مرت بي ومسستها بيدي، قال : فنظرت فاذا فصول الورقة ملصق بغراءقال : ففتقتها فوجدت فيها نعت محمد (ص): انه لا قصير ولا طويل،ابيض، ذوضفرين، بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء, ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير, ويحتلب الشاة، ويلبس قميصامرقوعا, ومن فعل ذلك فقد برى ء من الكبر, وهويفعل ذلك، وهومن ذرية اسماعيل، اسمه احمد. قال سهل : فلما انتهيت الى هذا من ذكر محمد۹ جاء عمي، فلما راى الورقة ضربني وقال : ما لك وفتح هذه الورقة وقراءتها ؟ فقلت : فيها نعت النبي (ص) احمد، فقال :انه لم يات بعد.
وهكذا وجدنا المصحف اسما عاما للصحف بين الدفتين، وان صح ما جاء في رواية المصاحف لابن ابي داود ان ابا بكر كان قد سمى القرآن بالمصحف، فان هذه التسمية لم تشتهر حتى عصر عثمان، كمايظهر من الخبرين اللذين نقلناهما آنفا من صحيح البخاري، وانمااشتهرت تسمية القرآن بالمصحف بعد ذلك، وعند ذاك ايضا لم تبق هذه التسمية منحصرة بالقرآن، بل سميت كتب اخرى في مدرسة الخلفاء ومدرسة اهل البيت (ع)بـ المصحف . وكان منها مصحف فاطمة ابنة رسول اللّه۹ كالاتي خبره .
۷- مصحف فاطمة (ع) ابنة الرسول (ص):
جاء في الروايات ان فاطمة ابنة رسول اللّه (ص) كان لها كتاب اسمه المصحف فيه اخبار بالمغيبات . لقد جاء في بصائر الدرجات باكثر من سند عن الامام الصادق (ع) انه قال : لاقوام كانوا ياتونه ويسالونه عما خلف رسول اللّه (ص) الى علي (ع) وعما خلف علي الى الحسن : لقد خلف رسول اللّه (ص)عندنا ما فيها كل ما يحتاج اليه حتى ارش الخدش والظفر, وخلفت فاطمة مصحفا ما هوقرآن … الحديث.
اذن فقد كان لابنة رسول اللّه (ص) مصحف، كما كان لخالد بن معدان كتاب اسمه المصحف فيه علمه .
وان ائمة اهل البيت الذين انتشر منهم هذا الخبر نصوا على انه ما هوبالقرآن وليس فيه شي ء من القرآن، بل هواخبار بالحوادث الكائنة في المستقبل.
ومع الاسف الشديد افترى بعض الكتاب في مدرسة الخلفاء وقال :ان مصحف فاطمة عند اتباع مدرسة اهل البيت، قرآن آخر خالد ولا الكتاب لسيبويه .
۸- مصاحف الصحابة
انه كان لكثير من الصحابة مصاحف كتب كل منهم في مصحفه القرآن وما سمعه من رسول اللّه۹ في تفسير بعض آيات القرآن،اذا كان معنى مصاحف الصحابة في عصر الصحابة : القرآن المكتوب مع حديث الرسول في تفسير بعض آياته، كما هوالحال في تفاسيرالقرآن بالماثور مثل : الدر المنثور في تفسير القرآن بالماثورللسيوطي في مدرسة الخلفاء, والبرهان في تفسير القرآن لدى اتباع مدرسة اهل البيت (ع).
مثالان لمصاحف الصحابة
ا – مصحف ام المؤمنين عائشة : رووا عن ابي يونس مولى عائشة انه قال : امرتني عائشة ان اكتب لهامصحفا وقالت : اذا بلغت هذه الاية فذني (حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى), فلما بلغتها آذنتها، فاملت علي : حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا للّه قانتين، قالت عائشة : سمعتها من رسول اللّه (ص).
ا – مصحف ام المؤمنين حفصة : عن ابي مولى حفصه انه قال : استكتبتني حفصة مصحفا, فقالت : اذااتيت على هذه الاية، فتعال حتى امليها عليك كما قراتها، فلما اتيت على هذه الاية (حافظوا على الصلوات)، قالت : اكتب : (حافظواعلى الصلوات والصلوة الوسطى) [وصلاة العصر] ومصاحف اخرى سوف نذكرها في ما ياتي باذنه تعالى .
۹- مصحف الرسول (ص)
لقد اوصى رسول اللّه (ص) اوصى الامام عليا (ع) ان لا يرتدي رداءه بعد وفاة الرسول۹ حتى يجمع الصحف التي كانت في بيت الرسول (ص) التي كتب عليها القرآن بامر الرسول (ص)، ولم تكن آي القرآن التي كتبت في تلك الصحف بدعا عما كتبها الصحابة في صحفهم مما تعلموها من لفظ الايات ومعانيها مما تلقاها الرسول (ص) جميعا عن طريق الوحي، بل لابد ان تكون مشابهة لمصاحف الصحابة في كتابة اللفظ والمعنى معا, ما عدا امرا واحدا, وهوان كل صحابي كان يكتب مع ما يكتب من آي القرآن ما بلغه عن رسول اللّه (ص) في تفسير الاية، وكان رسول اللّه (ص) قد امرالامام عليا بكتابة كل ما يحتاجه المسلمون في تفسير الايات مماتلقاه عن طريق الوحي.
بناء على ما سبق كانت المصاحف في صدر الاسلام مثل كتب التفسير في عصرنا تشتمل على القرآن وما بينه الرسول (ص) في تفسير الايات .
ولما اقتضت سياسة الخلفاء بعد الرسول۹ تجريد القرآن من حديث الرسول۹ جرى في هذا الشان ما سنبينه في ما ياتي باذنه تعالى .
سياسة تجريد القرآن من حديث الرسول صلى الله عليه وآله
نزلت آيات في ذم سادة قريش الذين خاصموا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وحاربوه، وآيات اخرى في ذم قبائل بعض الصحابة من قريش، مثل قوله تعالى في سورة الاسراء: (والشجرة الملعونة في القرآن) في بني امية او افراد من الصحابة مثل قوله في سورة التحريم : (ان تتوبا الى اللّه فقد صغت قلوبكما وان تظاهرا عليه فان اللّه هومولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) (عسى ربه ان طلقكن اءن يبدله اءزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات واءبكارا).
والتي نزلت في ام المؤمنين عائشة وام المؤمنين حفصة، في مقابل آيات نزلت في مدح آخرين، مثل آية التطهير في قوله تعالى في سورة الاحزاب : (انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا). والتي نزلت في حق الرسول (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين .
هذه الى كثير غيرها كانت تخالف حكومة الخلفاء الثلاثة، فرفعواشعار حسبنا كتاب اللّه، وجردوا القرآن من حديث الرسول۹، وبدا العمل به ابوبكر، وامر بكتابة نسخة من القرآن مجردة عن حديث الرسول (ص)، وانتهى العمل على عهد عمر, فبدا عمله بمنع نشر حديث الرسول، وبعد وفاته وقعت الخصومة بين بعض الصحابة والتابعين وبني امية وعصبة عثمان، واخذ الخصوم يروون من حديث الرسول ما فيه ذم لعصبة الخلافة، وكانت بايدي الخصوم مصاحف فيها من بيان الرسول (ص) ما يستدل به الخصوم في مقابل عصبة الخلافة، فقام عثمان بتنفيذ شعار جردوا القرآن من حديث الرسول، واخذ نسخة المصحف المجردة من حديث الرسول (ص) من ام المؤمنين حفصة، واستنسخ منها عدة نسخ من المصاحف المجردة عن حديث الرسول (ص)، ووزعها في بلادالمسلمين، وجمع مصاحف الصحابة اللاتي كان اصحابها قد دونوافيها النص القرآني مع ما سمعوه من بيان الرسول في تفسير آياتهاواحرقها جميعا, فاستنسخ المسلمون مصاحف من تلك المصاحف المجردة عن بيان الرسول (ص).
واصبح المصحف بعد ذلك اسما علما للقرآن المجرد عن بيان الرسول۹، ومع مرور الزمن لم يعرف المسلمون في القرون التالية ان مصاحف الصحابة كان فيها بيان الرسول (ص) مع النص القرآني .
وعندما حث المنصور العباسي في سنة ثلاث واربعين بعد المائة من الهجرة علماء المسلمين على تدوين العلوم، وكتب المتخصصون منهم بعلوم القرآن مع بيان آياته كما كان عليه الامر على عهدالرسول (ص)، سمي المصحف الذي دون فيه القرآن مع بيان آياته بالتفسير, كما مر بيانه .