منذ بداية القرن الثامن عشر ترسخت قواعد علم الفلك وأصوله , وانسلخت دراساته من المؤثرات الدينية وتعاليم الكنيسة في العصور الوسطى , وصارت تعتمد على نتائج الأساليب العلمية التجريبية . وتضافرت بعد ذلك أفرع مختلفة من العلوم الأخرى المساندة له , ومن بينها الرياضيات والطبيعة والكيمياء والجيولوجيا , وحاولت معاً تفسير نشأة السماء وكيفية تكوين مجوعات السدم والمجرات والنجوم والكوكبات والكواكب والأقمار فيها , ولم تخرج الآراء التي اقترحها العلماء _ حتى الوقت الحاضر _ في محاورها ومفاهيمها كثيراً عما سبق أن افترضه وظنه المفكرون والفلاسفة القدماء من قبل . وقد اقترح الفلاسفة الإغريق أصحاب المدرسة المادية أو الطبيعية بأنه لايمكن أن يخلق من العدم وجود , وأن السماء بظواهرها وعناصرها المختلفة لا بد وأن تكون قد نشأت أصلا من مادة ما . هذه المادة ظن بعض المفكرين بأنها من تراب أو هواء أو دخان ساخن أو من نار , أو حتى مادة مركبة من كل هذه العناصر السابقة مجتمعة . وفي القرن الثامن عشر افترض بعض العلماء تكوين السماء أصلا من مجموعة هائلة الحجم من أجسام صلبة معبمة تسبح في السماء بسرعة عالية , وعند احتكاك بعضها بالبعض الآخر تولدت عنها حرارة شديدة نتج عنها انصهار هذه المواد على شكل سحب غازية سديمية ساخنة , ونتيجة لتعرضها للبرودة التدريجية ودورانها حول نفسها وتقلصلها وانكماشها تولدت منها مجموعات المجرات والنجوم والكواكب . واقترح البعض الآخر أن السدم هي أصل مادة الكون , وأكد هذا الرأي العالم فون فايسكر عام 1946م والعالم فرد هويل عام 1946 .
ويقول تبارك وتعالى :
( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ) فصلت (11)
وقد فسر البعض هذه الآية الكريمة وأوضحوا أن الكون كان يتركب في البداية وعند نشوئه من الغازات الساخنة السديمية .
ويقول محمد كامل عبد الصمد : ( القرآن يصرح أن السماء كانت في بدء خلق الكون دخانا , والعلم يقرر ذلك بعد أبحاثة المضنية في هذا الصدد ) .
وفي تفسير هذه الآية الكريمة يرى المؤلف أن القرآن لم ( يصرح ) أن السماء كانت في بدء خلق الكون دخانا , بل إن السماء كانت خلال فترة من فترات تكوينها دخانا ، وأن الله تبارك وتعالى قصد إلى السماء بتدبيره ( وهي دخان ) أي في حالة كونها دخانا , ولا تدل الآية الكريمة على أن أصل كينونة السماء دخان . فالنشاء الأولى هي إذن وستظل إلى يوم الدين في علم الله وحده . ويعجز العقل البشري عن معرفة أصل المادة وكيفية النشأة الأولى , كما أن العلم ( لايقرر ) شيئاً في هذا الشأن , بل كل مايستطيع أن يقدمه العلم في البحث عن نشوء الظواهر الكونية هو مجرد نظريات ومقترحات ظنية وإن كانت مبنية على استنتاجات علمية , وإن الظن لا يعني من الحق شيئاً .
وقد حثت الآيات القرآنية الإنسان على أن يتأمل ويفكر ويستبصر في ملكوت السماوات والأرض ليطور علومه وتتسع آفاق معارفه وليستدل على قدرة الله ووحدانيته وربوبيته . ويقول تبارك وتعالى :
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شئ قدير ) العنكبوت (20)
( ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ) الواقعة ( 62)
(الله بيدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ) الروم (11)
(أولم ينظروا في ملكون السموات والأرض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ) الأعراف (185)
( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) الروم (25)
(وهو الذي بيدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ) الروم (27)
والقانون الإلهي الواحد المطلق المنظم لملكوت السماوات والأرض وما بينهما لا يمكن مناظرته بنتائج العلم الوضعي الذي وضع الإنسان قواعده وأساليب البحث فيه . ويذكر الله جل وعلا عباده بأن لهم قدرات ومهارات محددة , وأن هناك من الأمور العديدة في خلق السماوات والأرض سيظل الإنسان عاجزاَ عن إدراكها ومعرفة نشأتها .
ويقول عز وجل :
( . . . وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) الإسراء (85) .
وإن خلق السماوات والأرض إنما تم بإرادة الله سبحانه وتعالى وتدبيرة عندما قضى _ جل جلاله _ أمرهما , وأنه قادر على أن يخلق مثل هذا الكون وأن يعيد الخلق من جديد إذا ما قضى بذلك .
ويقول سبحانه وتعالى :
(بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ) البقرة (117) .
( أوليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون ) يس (81_83) .
وإذا كان العهد القديم يزعم أن خلق الكون قد أتعب اله حتى أنه استراح في اليوم السابع بعد الخلق فإن القرآن الكريم يوضح أن خلق الكون لم يكن على الله جل وعلا أمراً جسيماً وأنه قادر على أن يخلق مرة اخرى , وما مس الله سبحانه وتعالى من لغوب أو إعياء أو اجهاد في خلق هذا الكون الفسيح . ويقول عز وجل :
(ولقد خلقنا السموات والأرض ومابينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) ق (38) .
وإذا كان الإنسان بما أوتي من علم يمكنه أن يكتشف بعض البقوانين العلمية الخاصة بالسرعة والمسافة والزمن والكثافة لبعض عناصر الكون فإن هذه القوانين لايمكن مناظرتها بأي صورة من الصور بمشيئة الله عز وجل وإرادته في كيفية نشأة الخلق . فقد خلق الله تبارك وتعالى كل شئ بقدر وقدرة تقديراً , وما يظنه العلم الوضعي أن يتكون في بلايين السنين مثل تكوين النجوم والكواكب والسدم إنما ينشأ بأمر الله عز وجل في لمح البصر . ويقول سبحانه :
(إنا كل شئ خلقناه بقدر * وماأمرنا إلا واحدة كلمح البصر ) القمر (49_ 50 ) .
وتشير آيات القرآن الكريم إلى القانون الإلهي المطلق الواحد في خلق السماوات والإرض , وذلك بأنه الحق ويستدل الإنسان على أن الله سبحانه وتعالى خلق الكون كله بما فيه بالحق ,اي بقدرة الحق المطلقة التي لا يعجزها شئ أبداً ولاجل مسمى يقع في علم الله وحدة أي حتى يوم الساعة .
ولفظ كلمة ( الحق ) يدل على أن الكون لم يخلق عبثا أو لهواً , بل إن وراءه خالقاً واحداً صمداً مدبراً لشئونه منفرداص بخلقه ومهيمنا عليه . يقول المولى عز وجل :
( ماخلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى . . . ) الأحقاف (3) .
( خلق الله السموات والأرض بالحق . . . ) العنكبوت (44)
( خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فإحسن صوركم وإليه المصير ) التغابن (3) .
( ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ) إبراهيم (19) .
وكل ما في الكون من عناصر , بل وجزئيات هذه العناصر حتى ولو كان حجمها دقيقاً كحجم الذرة , في حركة دائمة منتظمة كقننة ومقدرة . وإن لهذه الحركة قانونا ثابتا إلهيا مطلقاً لا يختلف بين الذرة المتناهية الصغر أو النجم العملاق الهائل الحجم . ويؤكد نظام هذه الحركة للإنسان بوحدانية الخالق وتفردة بالخلق ووحدة التدبير وعدم التفاوت في الخلق كله . ويكتشف الإنسان يوماً بعد يوم عن حق ثابت في هذا التصميم لا يتقلب مع هوى ولا ينحرف مع ميل ولا يخلف لحظة ولا يحيد أبداُ . فقد أنزل الكتاب بالحق . . . فهو الحق الواحد في ذلك الكون , وفي ذلك الكتاب المبين وكلاهما صادر عن مصدر واحد , وكلاهما آية حق على وحدة المبدع العزيز المقتدر الحكيم .
وقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان وسخر له كل ما في السماوات والأرض , ونفخ فيه من روحه , وسجدت له الملائكة أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين .
وجعل الله الإنسان في الأرض خليفة يعمرها ويستثمر ما وهب له الله من معطيات ونعم وفضل , ومنحه العقل المفكر والخيال المبدع والحواس المتنوعة لكي يتأمل ويتدبر ويستبصر في ملكوت السماوات والأرض . وعلى الإنسان ان يدرك بأن كوكب الأرض الذي يعيش فوق سطحه والذي جعله الله سبحانه وتعالى مسكنا للإنسان ما هو إلا كوكب صغير الحجم جداً بالنسبة لهذا الكون الفسيح الأرجاء .
وعلى افتراض أن الكرة الأرضية تصغر حجمها لتصبح في حجم حبة الخردل . فإن الشمس بهذا المقياس تصبح هي الأخرى في حجم التفاحة . وإذا كانت المسافة بين الأرض والشمس تصغر لتصبح بوصة واحدة , فإن طول قطر كواكب المجموعة الشمسية يصل إلى نحو نصف ميل , ثم علينا أن نبتعد آلاف الأميال ( بهذا المقياس ) حتى نشاهد مجموعات شمسية أخرى , ومن ثم لا يمكن للإنسان أن يدرك المساحة الهائلة التي عليها الكون , وذلك لأنها تقع فيما وراء قدرات العقل البشري , وأبعد عن تصوراته وتخيلاته حتى لو استخدم مقاييس السنين الضوئية في تحديد المسافات بين النجوم يقول تبارك وتعالى :
( لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) غافر (57)
والسماء والأرض معروضتان للإنسان ليراهما في كل لحظة , وليقارن حجم نفسه بالقياس إليهما , ولكن حين يدرك الإنسان حقيقة الأبعاد بينه وبينهما فإنه يتصاغر ويتضاءل حتى يكاد يذوب شعوره بالضآلة . وليعلم الإنسان أن لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس