ـ كلام الزملكاني:
ولكمال الدين عبدالواحدبن عبدالكريم الزملكاني (توفّي سنة 651) كلام لطيف في وجه إعجاز القرآن، يري أنّه من جهة سبكه و نظمه الخاصّ، من اعتدال مفرداته تركيباً وزنة، و إعتلاء مركّباته معنيً. ولعلّه يقرب من اختيار المتأخّرين علي ما سنذكر، أورده في صدر كتابه الذي وضعه للكشف عن إعجاز القرآن(1) قال: لمّا كانت ترجمة هذا الكتاب مؤذنة بكونه كاشفا عن إعجاز القرآن احتيج إلي بيان ذلك فنقول: «الأكثر علي أنّ نظم القرآن معجز خلافا للنظّام، فإنّه قال: إنّ اللّه سبحانه صرف العرب عن معارضته و سلب علومهم، إذ نثرهم و نظمهم لايخفي ما فيه من الفوائد، و من ثمّ قالوا: «لَوْنَشَاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إن هَذا إلاّ أساطيرُ الأَوّلين»(2). و هذا علي حدّ ما جعل اللّه سلب زكريّا (عليه أفضل السلام) النطق ثلاثة أيّام من غير علّة آيةً، أو أنّهم لم يحيطوا به علماً علي ما قال تعالي: «بَلْ كَذَّبَوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوْا بِعِلْمِهِ»(3).
و هذا خلف من القول، إذ لو كان كذلك لكان ينبغي أن يتعجّبوا من حالهم دونه، فإنّ من يضع يده علي رأسه دون سائر الحاضرين يحبس اللّه أيديهم لايعجب منه بل من حالهم. ولكان ينبغي أن يعارضوه بما قبل صرفهم عنه من كلامهم الفصيح، و لأنّ سلب قدرهم يجريهم مجري الموتي فلايجدي اجتماعهم قوّة و ظهوراً علي المعارضة، و هو مخالف لقوله تعالي: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَت الإنْسُ و الْجِنُّ عَلي أَنْ يَأتُوا بِمِثْل هَذا القرآن لاَيَأْتُونَ بِمِثْلِهِ»(4). و أمّا قصّة زكريّا فحجّة له فيما نحن بصدده، إذ الآية كانت في سلبه النطق لافي نطق غيره...
وإذا ثبت كونه معجزا تعيّن أن يكشف عن جهة الإعجاز إذا لايصحّ التحدّي بشيء مع جهل المخاطب بالجهة التي وقع بها التحدّي. ولو كان كذلك لأمكن كلّ أحد أن يتحدّي.
قال: فإذن إعجازه إمّا من جهة ذوات الكلم، أو عوارضه من الحركات، أو مدلوله، أو المجموع أو التأليف أو أمر خارج عن ذلك. و الأوّل و الثاني باطلان، إذ صغير العرب يمكنه ذلك. و أمّا المدلول فليس صنيع البشر و لايقدرون علي إظهار المعاني من غير مايدلّ عليه. و أمّا المجموع فالكلام عليه كالكلام علي ما سبق. و أمّا الخارجي فباطل إلاّ علي رأي النظّام، و قد عرف..
قال: فتعيّن أن يكون الإعجاز نشأ من جهة التأليف الخاصّ به لامطلق التأليف، و ذلك بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنةً و علت مركّباته معنيً. و هذا القسم الذي عقد له علم البيان، و من ثمّ سلك من رسخ قدمه في الحماقة التأليف عند قصد المماثلة، من ذلك ما حكي عن مسيلمة أنّه قال: «الفيل ما الفيل، و ما ادراك ماالفيل، له ذنب وثيل و خرطوم طويل». و حكي أنّ اعرابياً حضر صلاة جماعة فقدّم فقرأ في الاُولي ـ بعد الفاتحة ـ: الايا مهلك الفيل، و من سارمع الفيل، وكيد القوم في تبّ و تضليل، بطير صبّه اللّه علي الفيل أبابيل، ضحي من طين سجّيل، فصارالقوم في قاع كعصف ثم مأكول. و قرأ في الثانية: قد أفلح من هينم في صلاته و أطعم المسكين من مخلاته و اجتنب الرجس و فعلاته، بورك في بقره و شاتِهِ... ولم يشك الجمع في أنّ ماقرأه سورتان من القرآن.
فإن قلت: لم لايجوز أن يكون إعجازه نشأ من جهة ما فيه من الأنب ءالسالفة واللاحقة و لم يكن ذلك شأن العرب...
قلت: قد ذهب إلي هذا المذهب قوم، لكن ليس الإعجاز منحصرا في ذلك، بل نظمه المخصوص معجز علي ما قال تعالي: «لاَ يَأتُونَ بِمثِلِه»، و المراد النظم بدليل «فَأْتوا بِسورَةٍ مِن مِثْلِهِ» و ليس في كل سورة إخبار بالغيب، دلّ علي أنّ المراد نظمه.
فإن قلت: الضمير في «مثله» عائد الي اللّه تعالي.
قلت: يضعّفه قوله تعالي «قُلْ فَأتُوا بعَشْر سَوَرٍ مِثْلِه»(5) و السياق واحد.
فإن قلت: الواحد من العرب قد يؤلّف الخطبة أو القصيد و يعجز غيره عن مثلها، ولم يعد ذلك معجزاً، كما تراه من خطب علي عليه السلام و كلام قسّ و شعر امرئ القيس و الاعشي و غير هما من المتقدّمين و المتأخّرين. و لقد ألّف الناس كتبا في الفنون وصنّفوا خطبا اعترف بأنّها يتيمة دهر و فريدة عصر!
قلت: أين النبع من الغَرَب، و الصبر من الضَرَب(6) و هل يحتوي كتاب أو يشتمل خطاب علي ما اشتمل عليه كتاب اللّه تعالي من سهولة لفظ و جزالته و بلاغة معني و غرابته، و عجائب لاتنقضي و عرائس في نفائس الحلي تنجلي، و من ثمّ قالوا: «أنّ له لحلاوة و أنّ عليه لطلاوة و أنّ أسفله لمعرق و أنّ أعلاوه لمثمر». و عن ابن مسعود: «اذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهنّ». أي اتتبّع محاسنهنّ. لم يقل ذلك من أجل أوزان الكلمات ولا من أجل إعرابها ولا من أجل الفواصل في أواخر الآيات، و لا من أجل التأليف فقط، بل ذلك راجع إلي دقّة النظم مع زيادة الفائدة.
هذا وأنّه لصادر علي لسان من لم يمارس الخطّ و الخطب و ينافس في معرفة الدّر من المخشلب(7). و إذا جعلت الكلمات اليسيرة من عيسي (عليه السلام) آية، مع أنّها الجارية من الأكابر عادة، فلئن تجعل الغايات الكثيرة و السورة الطويلة المشتملة علي أصناف فنون الآداب و الفصاحة و البلاغة التي يعجز عنهما الوصف و يكلّ دونهما حدّ الطرف، من رجل حاله ماسبق، أحري و أولي.
وسأوضّح لك ذلك بشيء من دقيق المسالك، منه فواتح السور التي هي حروف هجاء و اذا نظرتها ببادي الرأي وجدتها ممّا يكاد يمجّه السمع و يقلّ به النفّع، مع أنّها من الحسن ترفل في أثواب الحبر و يقصر عنها دقيق النظر، و ذلك من وجوه:
الأوّل: إنّها كالمهيّجة لمن سمعها من الفصحاء و الموقظة للهمم الراقدة من البلغاء لطلب التساجل و الأخذ في التفاضل. ألا تراها بمنزلة زمجرة الراعد قبل الماطر في الاعلام لتعي الأرض فضل الغمام و تحفظ ما اُفيض عليها من الأنعام و تخاف مواقع الانتقام بما فيه من العجمة التي لاتؤلّف الكلام.
و ما هذا شأنه خليق بالنظر فيه و الوقوف علي معانيه بعد حفظ مغانيه. بل حكم الدواعي الجبليّة أن تبعث علي ذلك اضطرارا اختيارا، لاسيّما و هي صادرة عن رجل عليه مهابة و جلالة قد قام مقام اُولي الرسالة و كشف ما هم عليه من الجهالة و الضلالة و تواعدهم بأنّ الهلكات نازلة بهم لامحالة.
الثاني: التنبيه علي أنّ تعداد هذه الحروف ممّن لم يمارس الخطّ و لم يعان النظر فيه، علي ما قال تعالي: «وَ مَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كتابٍ وَلاتَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ»(8).
متنزّل منزلة الأقاصيص عن الأُمم السالفة ممّن ليس له اطّلاع علي ذلك.
الثالث: انحصارها في نصف اسماء حروف المعجم، لأنّها اربعة عشر حرفا و هي: الألف واللام و الميم و الصاد و الراء و الكاف و الهاء و الياء و العين و الطاء و السين و الحاء و القاف و النون.
الرابع: مجيؤها في تسع و عشرين سورة بعدد الحروف.
الخامس: كما روعي تنصيفها باعتبار هجائها روعي تنصيفها باعتبار أجناسها، كالمجهورة، و هي ماعدا قولك: «ستشحثك خصفه» و هذه «المهموسة» و الزخوة، و هي ماعدا قولك: «أجدك قطبت» و هي «الشديدة» و ما بينهما، و هي قولك: «لم يرعونا» والمطبقة، و هي الضاد و الظاء و الصاد والطاء. والمنفتحة (و هي ماعداها). والمستعلية، و هي ما في قوله: «ضغط خص قظ» و المنخفضة (و هي ماعداها). و حروف القلقلة و هي قولك: «قد طبج».
فإن قلت: هذه لايمكن تنصيفها. قلت: إذا كان الجنس حروفه مفردة فاسقط منه حرفا كما سبق في حروف الهجاء ثمّ نصّفه فتجد نصفه الأخفّ و الأكثر استعمالاً فيها.
و من وقف علي ذلك علم أنّ هذا القرآن ليس من كلام البشر و جزم بأنّه كلام خالق القوي و القدر. فإنّ المتبحّر في معرفة الحروف و تصرّف مخارجها الخفيف و الثقيل و عدد أجناسها لايهتدي إلي هذا النظر الدقيق.
و ممّا يشدّ من عضد ما ذكرناه أنّ الألف و اللام و الميم يكثرن في الفواتح ما لم يكثر غيرها من الحروف لكثرتها في الكلام. و لأنّ الهمزة من الرئة فهي من أعمق الحروف، و اللام مخرجها من طرف اللسان ملصقة بصدر الغار الأعلي من الفم، فصوتها يملأ ماورائها من فضاء الفم. والميم مطبقة لأنّ مخرجها من الشفتين إذا إُطبقتا فرمز بهنّ إلي باقي الحروف... و كذلك لسائر الحروف الفواتح شأن ليس لغيرها.
قال: و وراء ذلك من الأسرار الإلهيّة مالاتستقلّ بفهمه البشريّة... و من تدبّر بعض آيات الكتاب العزيز علم أنّ جوهره أصفي من الإبريز و أنّه المعجز الجامع للمعاني الجمّة في اللفظ الوجيز...
قال: و إن أردت مثالاً في ذلك فعليك بسورة الفاتحة فإنّها عنوان مقاصد القرآن و به سمّيت أُم القرآن لجمعها مقاصده و لذلك جعلت مفتتحه و به سمّيت الفاتحة و الكافية(9).
11 ـ اختيارابن ميثم:
قال كمال الدين ميثم بن عليبن ميثم البحراني (636 ـ 699) شارح نهج البلاغه: اختلف المتكلّمون في سبب إعجاز القرآن، فذهب أكثرالمعتزلة إلي أنّ سببه فصاحته البالغة. و ذهب الجويني إلي أنّه الفصاحة و الاُسلوب، و لذلك كان في شعرالعرب و خطبهم ما فصاحته كفصاحة القرآن دون اُسلوبه. و كان في كلامهم ما اُسلوبه كاُسلوبه دون فصاحته...
و ذهب المرتضي رحمه الله إلي أنّ اللّه صرف العرب عن معارضته. و هذا الصرف يحتمل:
1 ـ أن يكون لسلب قدرهم.
2 ـ و يحتمل أن يكون لسلب دواعيهم.
3 ـ و يحتمل أن يكون لسلب العلوم التي يتمكّنون بها من المعارضة و نقل عنه أنّه اختار هذا الاحتمال الأخير.
و الحقّ أنّ وجه الإعجاز هو مجموع الأُمور الثلاثة، و هي: الفصاحة البالغة، و الاُسلوب، و الاشتمال علي العلوم الشريفة.
فأمّا كلام العرب فيوجد في بعضه الفصاحة البالغة، و أمّا الاُسلوب فنادر و ممكن عندالتكلّف، و قلّما يمكن اجتماعهما، لأنّ تكلّف الاُسلوب يذهب بالفصاحة. و أمّا العلوم الشريفة الموجودة في القرآن فتعود إلي علم التوحيد، و علم الأخلاق، و السياسات، و كيفيّة السلوك الي اللّه ، و علم احوال القرون الماضية. فربما وجد في كلام بعض حكمائهم كقَسّ بن ساعدة و نحوه ممّن قرأ الكتب الإلهيّة السابقة، شيء من تلك العلوم، فيكون ذلك منه علي سبيل النقل. و مع ذلك فلايوجد معه اُسلوب القرآن و فصاحته.
و الحاصل: أنّ كلامهم قد يوجد فيه ما يناسب بعض القرآن في الفصاحة، و هو في مناسبته له في الاُسلوب أبعد.
و أمّا في العلوم و المقاصد التي اشتملت عليها فأشدّ بعداً، فإنّ للقرآن باطناً و ظاهراً كما قال صلي الله عليه و آله وسلم : إنّ للقرآن ظهراً و بطناً وحدّاً و مطلعاً، فيأخذ كلّ منه حسب فهمه و استعداده.
و فيه آيات كثيرة بشّرت و أنذرت بحوادث مستقبلة، و ذلك ممّا لايفي به القوّة البشرية إلاّ بتأييد و وحي إلهي، فتكون تلك ممتنعة في كلامهم، فضلاً أن يعبّروا عنها بما يناسب لفظ القرآن في فصاحته و أُسلوبه...(10).
12 ـ تحقيق الأمير العلوي:
ولصاحب الطراز الأمير يحيي بن حمزة العلوي الزيدي (توفّي سنة 749) تحقيق مستوعب عن مسألة إعجاز القرآن و عن وجوهه المتنوّعة علي أُسلوب أدبيّ كلاميّ لم يسبق لمثله نظير في مثل تحقيقه، و البحث عن مزايا المسألة و زواياها، بحثاً مستوفي مستقصي، فنقتطف منه ما يناسب المقام، و نؤجّل تمامه إلي سائر المباحث من فصول قادمة إن شاءاللّه ...
إنّه (رحمه اللّه ) وضع خاتمة كتابه (الطراز) لذكر التكميلات اللاحقة لفنون البديع ـ و هو الفنّ الثالث منها ـ و جعله علي أربعة فصول:الاوّل: في فصاحة القرآن بالذات..
(و قد ألحقنا هذا الفصل بحقل الدلائل علي الإعجاز في القسم الثاني الآتي من الكتاب) و الذي نذكره هنا هو الفصل الثاني في كون القرآن معجزاً... و كذا الفصل الثالث في بيان وجوه إعجاز القرآن...
أمّا الفصل الرابع ـ في ردّ المطاعن علي القرآن ـ فقد أجّلناه إلي مجاله المناسب الآتي. و إليك الآن الفصلين الثاني و الثالث، قال:
الفصل الثاني: في بيان كون القرآن مُعجزاً
اعلم أنّ الكلام في هذا الفصل و إن كان خليقاً بإيراده في المباحث الكلاميّة، و الأسرار الإلهية، لكونه مختصّاً بها و من أهمّ قواعدها، لما كان علامةً دالّةً علي النُبُوَّة و تصديقاً لصاحب الشريعة حيث اختاره اللّه تعالي بيانا لمعجزته و علما دالاّ علي نبوّته و بُرْهاناً علي صحّة رسالته، لكن لايخفي تعلّقه بما نحنُ فيه تعلّقا خاصّاً، و التصاقاً ظاهراً، فإنّ الأَخْلَق بالتحقيق أنّا إذا تكلّمنا علي بلاغة غاية الإعجاز بتضمّنه لأفانين البلاغة، فالأحقُّ هو إيضاحُ ذلك، فنُظْهِرُ وجه إعجازه، و بيانَ وجه الإعجاز، و إبراز المَطَاعِن التي للمُخَالفين، و الجواب عنها، و الذي يُقْضَي منه العَجب، هو حالُ علماء البيان، و أهل البراعة فيه عن آخرهم، و هم أنّهم أغفلوا ذكر هذه الأبواب في مصنّفاتهم بحيث أنّ واحداً منهم لم يذكره مع ما يظهرُ فيه من مزيد الاختصاص و عِظَم العُلْقَة، لأنّ ما ذكروه من تلك الأسرار المعنويّة، و اللطائف البيانيّة من البديع و غيره، إنّما كانت وُصْلَةً و ذَريعَةً إلي بيان السرِّ و اللبَاب، و الغرض المقصودُ عند ذوي الألباب، إنّما هو بيان لطائف الإعجاز، و إدراكُ دقائقه، و استنهاضُ عجائبه، فكيف ساغَ لهم تركها و أعرضوا عن ذكرها، و ذكروا في آخر مصنّفاتهم ما هو بمعزل عنها، كذكر مخارج الحُروف و غيرها ممّا ليس مُهِمّا، و إنّما المُهِمّ ما ذكرناه، ثمّ لوعَذَرْنا مَن كان منهم ليس له حظّ في المباحث الكلاميّة، و لاكانت له قدَمٌ راسخة في العلوم الإلهية، و هم الأكثرُ منهم كالسكّاكي، و ابن الأثير، و صاحب التبيان، و غيرهم ممّن برَّز في علوم البيان، وصَبَغ بها يَدَه، و بلغ فيها جَدَّه وجَهْده، فما بَال مَن كان له فيها اليد الطولي، كابن الخطيب الرازي، فإنّه أعرض عن ذلك في كتابه المصنّف في علم البيان، فإنّه لم يتعرّض لهذه المباحث، و لاشمّ منها رائحة، ولكنّه ذكر في صدر كتاب النهاية كلاما قليلاً في وجه الإعجاز لايَنقعُ من غُلّة، ولاينفع من علّة، فإذا تمهّد هذا فاعلم أنّ الذي يدلّ علي إعجاز القرآن مسلكان:
المسلك الأوّل منهما: من جهة التحدّي، و تقريرُه هو أنّه (عليه السلام) تحدّي به العرب الذين هُم النهاية في الفصاحة و البلاغة، و الغاية في الطلاقة و الذّلاقَة، و هم قد عجزوا عن معارضته، و كلّما كان الأمر فيه كما ذكرناه فهو مُعْجِزٌ، و إنّما قلنا: إنّه (عليه السلام) تَحَدَّاهمْ بالقرآن لما تَواتَرَ من النقل بذلك في القرآن، و قد نزَّلهم اللّه في التحدِّي علي ثلاث مراتب:
الأُولي: بالقرآن كلّه، فقال تعالي: «قلْ لَئن اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ علي أَنْ يأتوا بمثلِ هذا القرآن لايأتُونَ بِمِثْلِه ولو كانَ بَعْضُهُمْ لبعْضٍ ظهيراً».
الثانية: بعشْر سُوَرٍ منه كما قال تعالي: «أمْ يقولونَ افتَرَاه قُلْ فأتُوا بعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ».
الثالثة: بسُورةٍ واحدة كما قال تعالي: «فأتُوا بسُورَةٍ منْ مِثْلِهِ وادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه » ثمّ قال بعد ذلك «فإن لمْ تَفْعَلوا ولَنْ تَفْعلوا» فنفي القدرة لهم علي ذلك بقضيّة عامّة، و أمْرٍ حَتْمٍ لاتردُّدَ فيه.
فدلّت هذه الآيات علي التحدّي، مرّةً بالقرآن كلّه، و مرّةً بعشر سُوَر، و مرّة بسورة واحدة، و هذا هو النهاية في بلوغ التحدّي، و هذا كقول الرجل لغيره: هاتِ قوماً مثل قومي، هَاتِ كنِصفهم، هاتِ كَرُبْعهم، هَاتِ كواحدٍ منهم.
و إنّما قلنا: إنّهم عجزوا عن معارضته لأنّ دواعيهم متوفّرةٌ علي الإتيان بها، لأنّه (عليه السلام) كلّف العرب تَرْكَ أديانهم، و حَطّ رئاستهم، و أوْجَب عليهم ما يُتْعِبُ أبدانهم، و يَنْقُصُ أموالَهم، و طالَبهَم بعداوة أصدقائهم، و صَدَاقَةِ أعدائهم، و خَلع الأنداد و الأصنام من بين أظهرهم، و كانت أحبَّ إليهم من أنفسهم، من أجل الدين، و لاشكّ أنَّ كلّ واحدٍ من هذه الاُمور ممّا يَشُقُّ علي القلوب تحمّلهُ، ولاسيّماً علي العرب مع كثرة حَميّتِهِم وعظيم أَنفَتهِمْ، ولاشكّ أنّ الإنسان إذا استنْزَلَ غيره عن رئاسته، و دعاه إلي طاعته، فإنَّ ذلك الغيرَ يُحاولُ إبطال أمره بكلّ ما يَقْدر عليه و يجدُ إليه سبيلا.
ولمّا كانت معارضة القرآن بتقدير وقوعها مُبْطلةً لأمر الرسول صلي الله عليه و آله وسلم ، علمنا لامحالة قطعا توفرَ دواعي العرب عليها، و إنما قلنا: إنّه ما كان لهم مانعٌ عنها لأنّه (صلّي اللّه عليه و آله وسلّم) ما كان في أوّل أمره بحيث تَخَاف قهره كلُّ العرب، بل هوالذي كان خائفا منهم، و إنّما قلنا: إنّهم لم يُعارضوه لأنّهم لو أتوا بالمعارضة لكان اشتهارُها أحقّ من اشتهار القرآن لأنّ القرآن حينئذٍ يَصير كالشبهة و تلك المعارضة كالحجّة، لأنّها هي المُبْطلة لأمره، و متي كان الأمر كما قلناه و كانت الدواعي متوفّرةً علي إبطال ابَّهَةَ المدّعي و إبطال رونقه، و إزالة بهائه، كان اشتهارُ المعارضة أولي من اشتهار الأصل، فلمّا لم تكن مشتهرة علمْنا لامحالَةَ بُطلانها، و أنّها ما كانت، و إنّما قلنا: إنَّ كلّ من توفّرتْ دواعيه إلي الشيء و لم يُوجَدْ مانع منه، ثمّ لم يتمكّن من فعله، فإنّه يكون عاجزاً، لأنّه لامعني للعجز إلاّ ذاك، و بهذا الطريق نَعْرِف عجْزَنا عن كلّ مانعْجزُ عنه كخلق الصور و الصفات، و يؤيّد ما ذكرناه من عجزهم و يوضّحه، أنّهم عدلوا عن المعارضة إلي تعريض النفس للقتل، مع أنّ المعارَضةَ عليهم كانت أسهل و ما ذاك إلاّ لمّا أحسُّوا به من العجز من أنفسهم عنها، فثبت بما ذكرناه كونُ القرآن معجزاً، و تمام تقرير هذه الدلالة بإيراد الأسئلة الواردة عليها و الانفصال عنها...
ثمّ جعل يورد أسئلة ثمانية للملاحدة حاولوا فيها اخفاء وجه الإعجاز في القرآن... وأجاب عن كلّ واحدة منها إجابة وافية علي اُسلوب منهجي رتيب، أبدي خلالها جوانب لامعة من إعجاز القرآن، قد أجّلناها إلي بحث الدلائل علي الإعجاز، فانتظر.
المسلك الثاني: في الدلالة علي أنّ القرآن معجز من جهة العادة و تقريرُه أنّ الإتيان بمثل كلّ واحدة من سور القرآن، لايخْلُو حالُه إمّا أن يكون معتاداً، أو غير معتاد، فإنْ كان معتاداً كان سكوتُ العرب مع فصاحتهم و شدّة عداوتهم للرسول صلي الله عليه و آله وسلم و مع توفّر دواعيهم علي إبطال أمره، و القدْح في دعواه بمبلَغ جَهْدهم وجدّهم، يكون لامحالَة من أَبْهَرِ المعجزات، و أظهر البيّنات علي عجزهم عن الإتيان بمثل سورة منه.
و إمّا إن لم يكن معتادا، كان القرآن مُعْجزاً، لخروجه عن المألوف و المعتاد، فثبت بما ذكرناه أنّ القرآن سواء كان خارقاً للعادة أو لم يكن خارقاً، فإنّه يكون مُعْجزا، و هذه نكتة شريفةٌ حاسِمةٌ لأكثر أسئلة المنكرين التي يوردونها علي كونه خارقاً للعادة كماتري.
الفصل الثالث: في بيان الوجه في إعجاز القرآن
اعلم أنّ الكلام في الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزاً دقيقٌ، و من ثمّ كثرت فيه الأقاويلُ و اضطربت فيه المذاهب، و تفرّقوا علي انحاءِ كثيرة، فلنذكّر ضبط المذاهب، ثمّ نُرْدفه بذكرما تحتمله من الفساد، ثمّ نذكر علي أثَرِهِ المختارَ منها، فهذه مباحث ثلاثة:
المبحث الأوّل: في الإشارة إلي ضبط المذاهب في وجه الإعجاز فنقول: كون القرآن معجزاً ليس يخلو الحال فيه، إمّا أن يكون لكونه فعلاً من المعتاد، أو لكونه فعلاً لغير المعتاد، فالأوّل هوالقول بالصِّرفَةِ، و معني ذلك أنّ اللّه تعالي صََرف دواعيهم عن معارضة القرآن مع كونهم قادرين عليها، فالإعجازُ في الحقيقة إنّما هو بالصرفة علي قول هؤلاء، كما سنحقّق خلافهم في الردّ عليهم بمعونة اللّه تعالي، و نذكر من قال بهذه المقالة، و إن كان الوجة في إعجازه هو الفعل لغير المعتاد، فهو قسمان:
القسم الأوّل: أن يكون لأمر عائد إلي ألفاظه من غير دلالتها علي المعاني، ثمّ هذا يكون علي وجهين:
أحدهما: أن يكون مشترطاً فيهم اجتماع الكلمات و تأليفها، و هذا هو قول من قال: الوجهُ في إعجازه هو اختصاصه بالأُسلوب المفارق لسائر الأساليب الشعرية و الخطابيّة، و غير هما، فإنّه مختصّ بالفواصل و الأسجاع، فمن أجل هذا جعلنا هذا الوجه مختصّاً بتأليف الكلمات.
و ثانيهما: أن يكون إعجازُه لأمر راجع إلي مفردات الكلمات دون مؤلّفاتها، و هذا هو رأيُ من قال: إنّه إنّما صار معجزاً من أجل الفصاحة، و فسّر الفصاحة بالبراءة عن الثقل و السلامة عن التعقيد، و اختصاصه بالسلاسة في ألفاظه.
القسم الثاني: أن يكون إعجازُه إنّما كان لأجل الألفاظ باعتبار دلالتها علي المعاني، و هذا هو قول من قال: إنّ القرآن إنّما كان معجزاً لأجل تضمّنه من الدلالة علي المعني، و هذا القسم يمكن تنزيلُه علي أوجه ثلاثة:
الوجه الأوّل: أن تكون تلك الدلالةُ علي جهة المُطابَقةِ و فيه مذاهبُ ثلاثة:
أوّلها: أن يكون لأمر حاصل في كلّ ألفاظه، و هذا هو قوُل من قال: إنّ وجه إعْجاره، هو سلامتهُ عن المناقضة في جميع ما تضمّنه.
و ثانيها: أن يكون لأمر حاصلٍ في كلّ ألفاظه و أبعاضها، و هذا هو قول من قال: إنّ إعجازَه إنّما كان لما فيه من بيان الحقائق و الأسرار، و الدقائق ممّا يكون العقلُ مشتغلاً بدَرْكها، فإنّ العلماءَ مِنْ لُدُنْ عَصْرِ الصحابة (رضياللّه عنهم) إلي يومنا هذا ما زالوا يستَنْهِضُون منه كلّ سرٍّ عجيب، و يستنبطون من ألفاظه كلّ معني لطيف غريب، فهذا هو الوجه في إعجازه علي رأي هؤلاء.
و ثالثها: أن يكون وجه إعجازه لأمرٍ حاصلٍ في مجموع ألفاظه و أبعاضها، ممّا لايستقلّ بدركه العقل، و هذا هو قول من قال: إنّ الوجه في إعجازه ما تضمّنه من الأُمور الغيبيّة، و اللطائف الإلهية، التي لايختصّ بها سوي علاّمِها، فهذه هي أقسامُ دلالة المطابقة، تكون علي هذه الأوجه الثلاثة التي رمزنا إليها.
الوجه الثاني: أن تكون تلك الدلالة علي جهة الالتزام، و هذا مذهبُ من يقول: إنّ القرآن إنّما كان معجزاً لبلاغته، و فسّر البلاغة باشتمال الكلام علي وجوه الاستعارة، والتشبيه المضمر الأداة، والفصل، والوَصْل، و التقديم، و التأخير، و الحذف، و الإضْمار، والإطناب، والإيجاز، و غير ذلك من فنون البلاغة.
الوجه الثالث: أن تكون تلك الدلالةُ من جهة تضمّنه لما يتضمّنه من الأسرار المُودَعة تحت ألفاظه التي لاتزال علي وجهِ الدهر غَضَّةً طَرِيَّة يجتليها كلُّ ناظر و يعلُو ذِروتها كلّ خرِّيتٍ مَاهِر، فظهر بما لخّصناه من الحصر أنّ كون القرآن معجزاً، إمّا أن يكون للصرْفة، أو للنظم، أو لسلامة ألفاظه من التعقيد، أو لخُلُوّه عن التناقض، أو لأجْل اشتماله علي المعاني الدقيقة، أو لاشتماله علي الإخبار بالعلوم الغيبيّة، أو لأجْل الفصاحة و البلاغة، أو لما يتركّب من بعض هذه الوجوه أو من كلّها، كما فصّلناه من قبل، و نحنُ الآن نذكر كلّ واحد من هذه الأقسام كلّها، و نبطله سوي ما نختارُه منها و اللّه الموفّق.
المبحث الثاني: في إبطال كلّ واحد من هذه الأقسام التي ذكرناها سوي ما نختار منها.
و جملة ما نذكره من ذلك مذاهب:
المذهب الأوّل منها: الصرْفة، و هذا هو رأي أبي إسحاق النظّام، و أبي إسحاق النصيبي، من المعتزلة و اختاره الشريف المرتضي من الإماميّة، و اعلم أنّ قول أهل الصرفة يمكن أن يكون له تفسيرات ثلاثة، لما فيه من الإجمال و كثرة الاحتمال كما سنوضّحه.
(ذكرنا التفاسير الثلاثة عند الكلام عن مذهب الصرفة).
ثمّ قال: و حاصل الأمر في هذه المقالة، أنّهم قادرون علي إيجاد المعارضة للقرآن، إلاّ أنّ اللّه تعالي منعَهم بما ذكرناه، قال: والذي غَرَّ هؤلاء حتّي زعموا هذه المقالة، مَا يَروْنَ من الكلمات الرشيقة، و البلاغات الحسنة، و الفصاحات المستحسنة، الجامعة لكلّ الأساليب البلاغيّة في كلام العرب الموافقة لما في القرآن، فزعم هؤلاء أنّ كلّ من قدر علي ما ذكرناه من تلك الأساليب البديعة، لايقصر عن معارضته، خَلا ما عَرَضَ من منع اللّه إيّاهم بما ذكرناه من الموانع، و الذي يدلّ علي بطلان هذه المقالة براهين.
(نقلنا براهينه الثلاثة ضمن دلائل العلماء علي دحض شبهة الصرفة).
المذهب الثاني: قول من زعم أنّ الوجه في إعجازه إنّما هو الأُسلوب، و تقريره أنّ اُسلوبه مخالف لسائر الأساليب الواقعة في الكلام، كاُسلوب الشعر، واُسلوب الخُطَب و الرسائل، فلمّا اختصّ باُسلوب مخالف لهذه الأساليب، كان الوجه في إعجازه. و هذا فاسدٌ لأوجه:
أوّلها: أنّا نقول: ما تريدون بالأُسلوب الذي يكون وجهاً في الإعجاز، فإن عَنيْتُم به اُسلوباً أيَّ اُسلوب كان، فهو باطلٌ، فإنَّه لو كان مطلق الأُسلوب معجزاً، لكان اُسلوب الشعر معجزاً، و هكذا اُسلوب الخطب و الرسائل، يلزمُ كونه معجزاً، و إنْ عَنيْتُم اُسلُوباً خاصّاً، و هو ما اختصّ به من البلاغة و الفصاحة، فليس إعجازُه من جهة الأُسلوب، و إنّما وجهُ إعجازه الفصاحة و البلاغة كما سنوضّحه من بعد هذا عند ذكر المختار، و إنْ عنَيْتم بالأُسلوب أمراً آخرَ غير ما ذكرناه فمِنْ حقَّكم إبرازُه حتّي ننظُر فيه فنُظهر صحّته أو فساده.
و ثانيها: أنّ الأُسلوب لايمنعُ من الإتيان باُسلوب مثله، فلوكان الأمرُ كما زعمتموه، جازت معارضةُ القرآن بمثله، لأنَّ الإتيان باُسلوب يماثله سهلٌ و يسيرٌ علي كلّ أحد.
و ثالثها: أنّه لو كان الإعجاز إنّما كان من جهة الأُسلوب لكان ما يحكي عن (مُسَيلمَة) الكذّاب معجزاً و هو قوله: إنّا أعطيناك الْجَواهر، فصلِّ لربِّك و جاهر، و قوله: و الطّاحِنَات طَحْناً، و الخابِزاتِ خبزاً، لأنّ ما هذا حالُه مختصّ باُسلوب لامحالةَ، فكان يكون معجزاً، و أنّه محالٌ.
و من وجهٍ رابعٍ و هو أنّه لو كان وجهُ إعجازه الأُسلوب، لما وقع التفاوتُ بين قوله تعالي، «وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ»(11) و بين قول الفصحاء من العرب (القَتْلُ أنفي للقتل) لأنّهما مستويان في الأُسلوب، فلمّا وقع التفاوت بينهما دلّ علي بطلان هذه المقالة و اللّه أعلم.
المذهب الثالث: قول من زعم أنّ وجه إعجازه إنّما هو خلوُّه عن المناقضة، و هذا فاسدٌ لأوجه.
أمّا أوّلاً: فلأنّ الإجماع منعقدٌ علي أنّ التحدّي واقع بكلّ واحدة من سور القرآن، و قد يوجد في كثير من الخطب، و الشعر، و الرسائل، ما يكون في مقدار سورة خالياً عن التناقض، فيلزم أن يكون معجزاً.
و أمّا ثانياً: فلأنّه لو كان الأمر، كما قالوه في وجه الإعجاز، لم يكن تعجُّبُهم من أجْل فصاحته، و حسن نظمه، ولوجب أن يكون تعجُّبُهم من أجْل سلامته عمّا قالوه، فلمّا علمنا من حالهم خلاف ذلك بطَلَ ما زعموه.
و أمّا ثالثاً: فلأنّ السلامة عن المناقضة ليس خارقاً للعادات، فإنّه رُبّما أمكن كثيراً في سائر الأزمان، و إذا كان معتاداً لم يكن العلمُ بخلُوِّ القرآن عن المناقضة و الاختلاف معجزاً، لِمَا كان معتاداً، و من حقّ مايكون معجزاً أن يكون ناقضاً للعادة.
و أيضاً فإنّا نقول: جعلُكم الوجهَ في إعجازه خلوُّه عن المناقضة و الاختلاف ليس عِلْماً ضروريّاً، بل لابدّ فيه من إقامة الدلالة، فيجب علي مَنْ قال هذه المقالة تصحيحُها بالدلالة، لتكون، مقبولةً، و هم لم يفعلواذلك.
المذهب الرابع: قول من زعم أنّ الوجه في الإعجاز اشتمالُه علي الأُمور الغيبيّة بخلاف غيره، و هذا فاسدٌ أيضاً لأمرين:
أمّا أوّلاً: فلأنّ الإجماع منعقدٌ علي أنّ التحدّي واقعٌ بجميع القرآن، و المعلومُ أنّ الحِكَمَ و الآداب و سائر الأمثال ليس فيها شيء من الأُمور الغيبيّة، فكان يلزم علي هذه المقالة أن لايكون معجزاً و هو محال.
و أمّا ثانياً: فلأنّ ما قالوه يكون أعظم عذراً للعرب في عدم قدرتهم علي معارضته، فكان من حقّهم أنْ يقولوا: إنّا متمكّنون من معارضة القرآن، ولكنّه اشتملَ علي مالايمكنُنا معرفتهُ، من الأُمور الغيبيّة، فلمّا لم يقولوا ذلك دلّ علي بطلان هذه المقالة.
المذهب الخامس: قول من زعم أنّ الوجه في الإعجاز هو الفصاحة، و فسّر الفصاحة بسلامةِ ألفاظه عن التعقيد الحاصل في مثل قول بعضهم:
وَ قَبْرِ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرُ وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
و هذا فاسدٌ لأمرين:
أمّا أوّلاً: فلأنّ أكثر كلام الناس خالٍ عن التعقيد في الشعر، و الخطب، و الرسائل، فيلزم كونها معجزةً.
و أمّا ثانياً: فلأنّه لو كان الأمر كما زعموهُ لم يفترق الحالُ بين قوله تعالي: «وَمِنْ آياتِهِ الجَوار في البَحْرِ كَالأعلام. إن يَشَأ يُسْكِن الرِّيحَ فَيَظْلَلن رَوَاكِدَ علي ظَهْرِهِ إن فِي ذلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُور. أَو يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثير»(12) و بين قول من قال: و أعظمُ العلاماتِ الباهرة جَريُ السفُن علي الماء، فإمّا أن يريدَ هبوبَ الريح فتجري بها، أو يُريدَ سكونَ الريح فتَرْكُدَ علي ظهْره، أو يُريد إهلاكَها بالإغراق بالماء لأنّ ما هذا حالهُ من المعارضة سالمٌ عن التعقيد، فكان يلزم أن يكون هذا الكلام معارضاً للآية، لاشتراكها في الخفّة و البَراءة عن الثقَل و التعقيد.
و من وجهٍ ثالث: و هو أنّه كان يلزم أنّ لايقعَ تفاوت بين قوله تعالي: (وَلكُم فِي القِصاصِ حياةٌ) و بين قول العرب (القتلُ أنفَي للقتل) لاشتراكهما جميعاً في السلامة عن الثقل و هذا فاسدٌ.
المذهب السادس: قول من زعم أنّ الوجه في الإعجاز إنّما هو اشتمالُه علي الحقائق و تضمّنه للأسرار و الدقائق التي لاتزال غَضَّةً طريَّةً علي وجه الدهر، ما تَنَالُ لها غايةٌ، و لا يوقف لها علي نهاية، بخلاف غيره من الكلام، فإنّ ما هذا حالُه غيرُ حاصل فيه، فلهذا كان وجه إعجازه، و هذا فاسدٌ أيضاً لأمرين:
أمّا أوّلا: فلأنّ الأصل في وجه الإعجاز أن يكون القرآن متميّزاً به لايشاركه فيه غيره، و ما ذكرتموه من هذه الخصلة فإنّها مشتركة، و بيانُه هو أنّا نري بعض من صنّفَ كتاباً في العلوم الإسلاميّة و اعتَني في قَبْصه(13) و اختصاره، فإنّ مَن بَعْدَه لايزال يَجتني منه الفوائد في كلّ وقت و يستنبطها من ألفاظه و صرائحه كما نري ذلك في الكتاب الأُصوليّة و الكتب الدينيّة و الفقهيّة، و سائر علوم الإسلام، و إذا كان الأمر كما قلناه، وجب الحكم بإعجازها و هم لايقولون به.
و أمّا ثانياً: فلأنّ قوله تعالي: «وَ إلهكُمْ إلهٌ وَاحدٌ»(14)، و قوله تعالي: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَإلهَ إلاّ اللّه ُ»(15)، قوله تعالي: «قُل هُوَ اللّه أَحدٌ»(16) صريحة في إثبات الواحدانيّة للّه تعالي بظاهرها و صريحها، و ما عدا ذلك من المعاني لايخلو حالُه، إمّا أن يستقلّ العقلُ بدَرْكه أو لايَسْتقلُّ بدركه، فإن استقلّ بدركه فقد أحاط به كغيره من سائر الكلام، فلاتفرقه بينه و بين غيره، و إن كان لايستقلّ العقل بدركه، فذلك هو الأُمور الغيبيّة، و هي باطلة بما أسلفناه علي من قال بها، فحصل من مجموع ما ذكرناه ها هنا أنّه لاوجه لجعْل دلالته علي الأسرار و المعاني وجهاً في إعجازه لأنّ غيره مشارك له في هذه الخصلة، و ما وقعت فيه الشركة فلاوجه لاختصاصه وجعله وجهاً في كونه، معجزاً.
المذهب السابع: قول من زعم أنّ الوجه في إعجازه هو البلاغة، و فسّر البلاغة باشتماله علي وجوه الاستعارة، و التشبيه، و الفصل، و الوصل، و التقديم، و التأخير، و الإضمار، و الإظهار، إلي غير ذلك، و هؤلاء إن أرادوا بما ذكروه أنّه صار فصيحاً بالإضافة إلي ألفاظه، و بليغا بالإضافة إلي معانيه، و مختصّاً بالنظم الباهر، فهذا جيِّدٌ لاغُبارَ عليه كما سنوضّحه عند ذكر المختار، و إن أرادوا أنّه بليغ بالإضافة إلي معانيه دون ألفاظه، فهو خطأ، فإنّه صار معجزاً باعتبار ألفاظه و معانيه جميعاً، و غالبُ ظَنّي أنّ هذا المذاهب يُحكي عن أبي عيسي الرماني.
المذهب الثامن: قول من زعم أنّ الوجه في إعجازه هو النْظمُ، و أراد أنّ نظمَه و تأليفه هو الوجهُ الذي تميّزَ به من بين سائر الكلام فهؤلاء أيضاً يُقال لهم ما تريدون باختصاصه بالنظم، فإن عَنَيْتُم به أنّ نَظمه هو المعجزُ من غير أن يكون بليغاً في معانيه، و لا فصيحاً في ألفاظه، فهو خطاً، فإنّ الإعجاز شاملٌ له بالإضافة إلي كلا الأمرين جميعاً، و إن عَنيْتُمْ أنّه مختصٌّ بالبلاغة و الفصاحة، خلا أنّ اختصاصه بالنظم أعجبُ و أدخَلُ، فلهذا كان الوجه في إعجازه فهذا خطأ، فإنّ مثل هذا لايُدْركُ بالعقل، أعني تميُّزَه بحسن النظم عن حسن البلاغة و الفصاحة، و أيضاً فإنَّ ما ذكروه تحكُّمٌ لامُستَنَد له عقلاً و لا نقلاً، و أيضاً فإنّا نقولُ: هلْ يكون النظمُ وجهاً في الإعجاز مع ضمّ البلاغة و الفصاحة إليه، أو يكون وجهاً من دونهما، فإن قالوا بالأوّل فهو جَيِّدٌ، ولكنْ لِمَ قَصَرُوه علي النظم وحْدَه و لم يضمّوهما إليه، و إن قالوا: إنّه يكون منفرداً بالإعجاز من دونهما، فهذا خطأ أيضاً، فإنّ نظم القرآن لو انفرد عن بلاغته و فصاحته لم يكن معجزاً بحال.
المذهب التاسع: مذهب من قال: إنّ وجهَ إعجازه إنّما هو مجموع هذه الأُمور كلّها، فلا قولَ من هذه الأقاويل إلاّ هو مختصّ به، فلا جَرَم جعلنا الوجه في إعجازه مجموعها كلّها، و هذا فاسدٌ، فإنّا قد أبطلنا رأيَ أهل الصرفة، و زَيّفنا كلامهم، فلا وجه لعدّه من وجوه الإعجاز، و هكذا، فإنّا قد أبطلنا قول من زعم انّ الوجه في اعجازه اشتماله علي الإخبار بالأُمور الغيبيّة، و أبطلنا قول أهل الأُسلوب و غيره من سائر الأقاويل، فلا يجوز أن تكون معدودة في وجوه الإعجاز، لأنّ الأُمور الباطلة لايجوزُ أن تكون عِلَلاً للأحكام الصحيحة، و من وجهٍ ثانٍ و هو أنّ الفصاحة و البلاغة إذا كانتا حاصلتين فيه فهما كافيتان في الإعجاز، فلا وجه لعدّ غيرهما معهما.
المذهب العاشر: أن يكون الوجه في إعجازه إنّما هو ما تضمّنه من المزايا الظاهرة و البدائع الرائقة في الفواتح، و المقاصد، و الخواتيم في كلّ سورة؛ و في مبادئ الآيات، و فواصلها، و هذا هو الوجه السديدُ في وجه الإعجاز للقرآن كما سنوضّح القول فيه بمعونة اللّه تعالي، فهذا ماأردنا ذكره من المذاهب في الوجه الذي لأجله صارالقرآن معجزاً للخلق كلّهم.
المبحث الثالث: في بيان المختار من هذه الأقاويل.
و الذي نختاره في ذلك ما عوّل عليه الجهَابذةُ من أهل هذا الصناعة الذين ضربوا فيها بالنصيب الوافر، و اختصّوا بالقدح المعلّي و السهم القَامر، فإنّهم عوّلوا في ذلك علي خواصّ ثلاثة هي الوجه في الإعجاز.
الخاصّة الأُولي: الفصاحة في ألفاظه علي معني أنّها بريئةٌ عن التعقيد، و الثَقَل، خفيفةٌ علي الألسنة تجري عليها كأنّها السلسال، رِقَّةً وَ صَفَاءً و عذوبة و حلاوة.
الخاصّة الثانية: البلاغة في المعاني بالإضافة إلي مَضْربِ كلّ مَثَلٍ، وَ مَساقِ كلّ قصّة، و خَبَرٍ، و في الأوامر و النواهي، و أنواع الوعيد، و محاسن المواعظِ، و غير ذلك ممّا اشتملت عليه العلوم القرآنيّة، فإنّها مَسُوقة علي أبْلغ سياق.
الخاصّة الثالثة: جودةُ النظم و حسن السياق، فإنّك تراه فيما ذكرناه من هذه العلوم منظوماً علي أتمّ نظام و أحسنه و أكمله، فهذه هي الوجه في الإعجاز، و البرهانُ علي ما ادّعيناه من ذلك هو أنّ الآيات التي يُذكر فيها التحدِّي واردةٌ علي جهة الإطلاق ليس فيها تَحَدٍّ بجهةٍ دون جهةٍ، لأنّه لم يذكر فيها أنّه تحدّاهم، لابالبلاغة، و لا بالفصاحة، و لابجودة النظم و السياق، و لا بكونه مشتملاً علي الأُمور الغيبيّة، و لا لاشتماله علي الأسرار و الدقائق، و تضمّنه المحاسن و العجائب، و لا أشار إلي شيءٍ خاصٍّ يكون مقصداً للتحدّي، و إنّما قال: بمثله، و بسورة، و بعشر سُوَر علي الإطلاق، ثمّ إنَّ العرب أيضاً ما استفهموه عمّا يريد بتحدّيهم في ذلك، ولا قالوا ما هو المطلوب في تحَدِّينا، بل سكتوا عن ذلك، فوجب أن يكون سكوتُهم عن ذلك لاوجه له الاّ لما قد عُلم من اطّراد العادات المقرّرة بين أظْهرهم أنّ الأمر في ذلك معلوم أنّه لايقع إلاّ بما ذكرناه من البلاغة و الفصاحة وجودة السياق و النظم، فإنّ المعلوم من حال الشعراء و الخطباء، و أهل الرسائل و الكلام الواقع في الأنديةِ المشهودَة، و المحافل المجتمعة، أنّهم إذا تحدَّي بعضُهم بعضاً في شعْر، أو خطبةٍ، أو رسالة، فإنّه لايتحدّاه إلاّ بمجموع ما ذكرناه من هذه الأُمور الثلاثة و لم يُعَهَدْ قَطُّ في الأزمنة الماضية و الآمادِ المتمادية، أنّ أحداً تحدّي أحداً منهم برقّةِ شعْره، و لا باشتماله علي اُمور محجوبة، و لا بعدم التناقض فيها، و في هذا دلالة كافيةٌ علي أنّ تعويلهم في التحدّي إنّما هو علي ما ذكرناه، فيجب حمل القرآن في الآيات المطلقة عليه، و في ذلك حصولُ ما أردناه، و تمام تقرير هذه الدلالة بإيراد الأسئلة عليها و الانفصال عنها.
السؤال الأوّل منها: قد زعمتم أنّ وجه إعجاز القرآن إنّما هو الفصاحة، و البلاغة، و النظم، و حاصلُ هذه الأُمور كلّها، إمّا أن تكون راجعة إلي مفردات الكلم، أو تكون راجعة إلي مركّباتها، و لا شكّ أنّ العرب قادرون علي المفردات لامحالة، و لا شكّ أنَّ كلّ مَن قدَرَ علي المفردات فهو قادرٌ علي مركّباتها، فلوكان كما ذكرتمُوه لكان العرب قادرينَ علي المعارضة، و هذا يدلّ علي أنّ وجه إعجازه ليس أصراً راجعاً إلي البلاغة، و الفصاحة، و النظم، و هذا هو المطلوب.
وجوابه إنّما يكون بعد تمهيد قاعدة و هو أنّ التفاوُتَ بين الكتابين في الجودة و الكتابة إنّما يكون من جهة العلم بإحكام التأليف بين الحروف و تنزيلها علي أحسن هيئة في الإيقاع، فَمنْ كان منه أجود علماً بإحكام التأليف كانت كتابته أَعْجَبَ، و من كان عادماً للعلم بما ذكرناه نقص إتّقانُ كتابته، فكلّ واحدٍ منهما قد أَحْرَزَ ما تحتاج إليه الكتابة من الآلات كالقلَم، والدَّوَاةِ، و القِرْطاس، و اليَدِ، و غير ذلك ممّا يكون شَرْطا في الكتابة، و لم يتميّز أحدهما عن الآخر إلاّ بما ذكرناه من العلم بإحكام التأليف، و هكذا حال أهل الحِرفِ و الصناعاتِ، فإنّهم كلّهم متمكّنون من أُصول الصناعات و ما تحتاج إليها، كالصناعة للذّهَبيّات والفضّيات، و الحيَاكَةِ للديباجِ، فإنَّ تفاوتهم إنّما يظَهر في ما ذكرناه لاغيرُ، فإذا عرفت هذا فالعربُ لامحالة قادرون علي مفردات هذه الكلم الموضوعة، و قادرون علي حسن التأليف لهذه الكلمات، لكنّهم غير قادرين علي كلّ تأليف، فإنّ من التآليف ما لازيادة عليه في الأعجاب، و هو المعْجِزُ، و منه ما تنقص رُتْبَتهُ عن ذلك، و ليس معجزاً، و علي هذا يكون المعجزُ إنّما كان من جهة عدم العلم باحكام تأليف هذه الكلمات، فقد ملكُوا القدرة علي آحادها، و ملكوا القدرة علي نوع من تأليفها ممّا لم يكن معجزاً، فأمّا ما كان معجزاً من التأليف فلم يكونوا مالكين له، فحصل من مجموع ما ذكرناه، أنّ الإعجاز ليس إلاّ تأليف هذه الكلمات علي حدّ لاغاية فوقه، فإلي هذا يرجع الخلافُ، و يحصل التحقّق بأنّ عجزهم إنّما كان من جهة عدم العلم بهذا التأليف المخصوص في الكلام، لايقال فحاصل هذا الجواب أنّ اللّه تعالي لم يخلق فيهم العلم بإحكام التأليف الذي يحتاج إليه في كون الكلام معجزاً، و هذا قول بمقالة أهل الصرفة، فإنّ حاصل مذهبهم هو أنّ اللّه تعالي سلَبَهم الداعي إلي معارضة القرآن، و أعْدم عنهم العلومَ التي لأجلها يقدرون علي المعارضة، و أنتم قد زيفتم هذه المقالةَ و أبطلتموها، فقد وقعتم فيما فررتم منه، لأنّا نقول هذا فاسدٌ فإنّا نقول إنّهم عادمون لهذه العلوم قبْلَ المُعْجز و بعْدَه، و أنّها غير حاصلة لهم في وقتٍ من الأوقات فلهذا استحال منهم معارضةُ القرآن كمّا قرّرناه من قبلُ، بخلاف مقالة أهل الصرفة فإنّ عندهم أنّ علوم التأليف كانت حاصلة معهم قبلَ ظهور المُعْجز، لكنّ اللّه تعالي سلَبَهم إيّاها كما مرّ تقريره، فلهذا كان ما ذكرناه مخالفاً لما قالوه.
________________
15 ـ محمّد: 19.
10 ـ قواعد المرام في علم الكلام: ص 132 ـ 133.
14 ـ البقرة: 163.
11 ـ البقرة: 179.
12 ـ الشوري: 32 ـ 34.
16 ـ الإخلاص: 1.
13 ـ في جمعه.
1 ـ و كتابه هو: البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن، ذكر ذلك في ص 53.
2 ـ الأنفال: 31.
3 ـ يونس: 39.
4 ـ الاسراء: 88.
5 ـ هود: 13.
6 ـ النبع: شجر للقسي والسهام ينبت في رؤوس الجبال. و الغرب: نبت ضعيف ينبت علي أنهار. الصبر: عصارة شجرٍمرّ. الضَرَبَ: العسل.
7 ـ يقال: أراه الدّر فخشلبا، و هو: خرز من مجارة البحر و ليس بدر.
8 ـ العنكبوت: 48.
9 ـ البرهان الكاشف عن إعجازالقرآن:ص53ـ61.