لو لم تكن التزكية لما أمكن تعليم كتاب الحكمة. يجب تزكية النفوس وتطهيرها من جميع الأدران، وأعظم الأدران هي النفس الإنسانية والأهواء النفسية. فما دام الإنسان في حجاب نفسه؛ فإنه لا يستطيع أن يدرك القرآن الذي هو نور، كما يعبر القرآن عن نفسه. فالذين يقفون خلف حجب عديدة لا يمكنهم أن يدركوا النور، ويظنون أنهم يستطيعون دركه، لكنهم لا يقدرون علىذلك. ما دام الإنسان لم يخرج من حجاب نفسه المظلم جداً، وطالما أنه مبتلى بالأهواء النفسية، وطالما أنه مبتلى بالعجب، طالما أنه مبتلى بالأمور التي أوجدها في باطن نفسه، وتلك الظلمات التي (بعضها فوق بعض)، فإنه لا يكون مؤهلاً لانعكاس هذا النور الإلهي في قلبه.
الذين يريدون فهم القرآن ومحتواه، لا صورته النازلة المحدودة، بل يفهمون محتواه ويزدادون سمواً ورقياً كلما قرأوه، ويقتربون من مصدر النور والمبدأ الأعلى كلما قرأوه فإن هذا لا يتحقق إلا أن تزول الحجب و”إنك بنفسك حجاب لنفسك” لذا يجب رفع هذه الحجب حتى تتمكن من رؤية هذا النور كما هو وكما يليق بالإنسان أن يدركه، فأحد الأهداف هو تعليم الكتاب بعد التزكية، وتعليم الحكمة بعد التزكية.
مائدة القرآن الواسعة
القرآن هو آيات إلهية، والغرض من البعثة هو المجيء بهذا الكتاب العظيم، وتلاوة هذا الكتاب العظيم والآية الإلهية العظيمة. ورغم أن جميع العالم هو آيات الحق تعالى، لكن القرآن الكريم هو عصارة الخليقة، وعصارة الأشياء التي يجب أن تتم في البعثة. فالقرآن الكريم عبارة عن مائدة أعدّها الباري تبارك وتعالى للبشر بواسطة نبيّه الأكرم، ليستفيد منها كل إنسان بمقدار استعداده.
هذا الكتاب وهذه المائدة الممتدة في الشرق والغرب، ومنذ زمان الوحي وحتى تلاوة يوم القيامة، هو كتاب يستفيد منه كل الناس الجاهل والعالم والفيلسوف والعارف والفقيه والكل يستفيدون منه، أي إنه في الوقت الذي هو كتاب نازل من مرتبة الغيب إلى مرتبة الشهود، ومنبسط عندنا نحن الموجودون في عالم الطبيعة، في نفس الوقت الذي هو فيه مُنزَل من ذلك المقام، ووصل إلى الموضع الذي يمكننا الاستفادة منه. وإنه في الوقت الذي يحتوي على مسائل يستفيد منها جميع الناس الجاهل والعارف والعالم، والعرفاء الكبار، والأنبياء والأولياء. إذ أن بعض مسائله لا يتمكن من دركها سوى أولياء الله تبارك وتعالى، إلا من خلال التفسير الوارد عنهم، ويستفيد منه الناس بمقدار استعداداتهم. وثمة مسائل يستفيد منها الفلاسفة والحكماء الإسلاميين، ومسائل يستفيد منها الفقهاء الكبار.
وهذه المائدة عامة للجميع. وكما أن هذه الطوائف تستفيد منه؛ فإن فيه أيضاً المسائل السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية وغير العسكرية. إذ أن جميعها موجودة في هذا الكتاب المقدس.
إن الغرض من نزول هذا الكتاب المقدس، ومن بعثة النبي الأكرم هو لكي يصبح هذا الكتاب في متناول أيدي الجميع، حتى يستفيدوا منه بمقدار سعتهم الوجودية والفكرية. ومع الأسف فلم نتمكن نحن، ولا البشرية، ولا علماء الإسلام الاستفادة من هذا الكتاب المقدس بالمقدار الذي ينبغي الاستفادة منه.
يجب على الجميع استخدام أفكارهم، وتسخير عقولهم نحو هذا الكتاب العظيم حتى نتمكن من الاستفادة بمقدار استعدادنا وكما هو عليه.
فالقرآن جاء لتستفيد منه جميع الطبقات، كل بمقدار استعداده. وطبعاً فإن بعض الآيات لا يمكن أن يفهمها إلا رسول الله والمتعلم بتعليمه، ويجب علينا فهمها بواسطتهم. وإن الكثير من الآيات الأخرى هي في متناول أيدي الجميع، حيث يجب عليهم استخدام أفكارهم وعقولهم ليستفيدوا منها مسائل الحياة، سواء حياة هذه الدنيا أو الحياة الأخرى.
لذا فإن أحد أهداف البعثة هو إنزال هذا القرآن الذي كان في الغيب بصورة غيبية وفي علم الله تبارك وتعالى، وفي غيب الغيوب، بواسطة هذا الموجود العظيم الذي جاهد نفسه كثيراً وكان على الفطرة الحقيقية وفطرة التوحيد وجميع المسائل الأخرى التي جعلته مرتبطاً بالغيب وبواسطة الارتباط الذي كان له بالغيب فقد نزل هذا الكتاب المقدس من مرتبة الغيب، بل وقعت للأصل عدة تنزّلات، حتى وصل لمرتبة الشهادة وخرج بصورة ألفاظ. ويمكنني أنا وأنتم والكل فهم هذه الألفاظ والاستفادة من معانيها بمقدار استعدادنا، واستهدفت البعثة بسط هذه المائدة بين الناس منذ زمان نزوله وحتى النهاية. فهذه واحدة من أهداف الكتاب وأهداف البعثة. “بعثه عليكم” رسولاً يتلو القرآن عليكم والآيات الإلهية و (يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) فقد تكون هذه هي الغاية من التلاوة، فالتلاوة تكون لأجل التزكية والتعليم، وتعليم الجميع.. تعليمهم هذا الكتاب، وتعليمهم الحكمة التي هي من هذا الكتاب أيضاً، إذن فهدف البعثة هو نزول الوحي ونزول القرآن، وهدف تلاوة القرآن على البشر هو ليزكّوا أنفسكم وينقذوا نفوسهم من هذه الظلمات، حتى تتمكن أرواحهم وأذهانهم بعد ذلك أن تفهم الكتاب والحكمة.
فالهدف هو التزكية لأجل فهم الكتاب والحكمة. فلا يستطيع أي إنسان وأية نفس أن تدرك هذا النور المتجلي من الغيب المتنزل إلى مرتبة الشهادة.
تفسير القرآن
إن تفسير القرآن ليس من المهام التي يستطيع أمثالنا أداء حقها، بل علماء الطراز الأول ـ من العامة والخاصة ـ ألّفوا على طوال التاريخ الإسلامي كتباً كثيرة في هذا الباب، ومساعيهم مشكورة بلا شك، ولكن كل واحد منهم لم يقم بأكثر من تفسير أحد وجوه القرآن الكريم وفقاً لتخصصه والوقت الذي كان لديه، وحتى هذا فليس من المعلوم أنه كان بشكل كامل.
فمثلاً عمد العرفاء على مدى عدة قرون إلى كتابة تفاسير عديدة وفق طريقتهم، وهي طريقة المعارف أمثال محي الدين في بعض كتبه، وعبد الرزاق الكاشاني في تأويلاته، والملا سلطان علي في تفسيره، وبعضهم أجاد التأليف في الفن الذي كان لديه، ولكن القرآن لا ينحصر فيما ألّفوا، فما قاموا به هو قراءة بعض وجوه القرآن الكريم وقراءة بعض أوراقه.
كما قام الطنطاوي وأمثاله، وكذلك قطب بتفسير القرآن بطريقة أخرى هي أيضاً ليست تفسيراً للقرآن بكافة معانيه، فهم أيضاً كشفوا حجاباً واحداً آخراً عنه.
وللكثير من المفسرين -من غير هاتين الطائفتين- تفاسير أخرى كتفسير “مجمع البيان وهو تفسير جيد جامع بين أقوال العامة والخاصة، وحال هذه التفاسير كحال سابقاتها، فالقرآن ليس ذلك الكتاب الذي نستطيع نحن أو غيرنا تأليف تفسير جامع له يحوي كافة علومه كما هي، ففيه علوم هي فوق ما نفهم نحن. إننا نفهم ظاهراً منه، ووجهاً منه، والباقي يحتاج إلى تفسير أهل العصمة، وهم المعلَّمون بتعليمات رسول الله.
وقد ظهر في الآونة الأخيرة أشخاص ليسوا من أهل التفسير أصلاً أرادوا تحميل ما لديهم من أفكار على القرآن والسنة، حتى إن فئة من اليساريين والشيوعيين عمدت إلى التمسك بالقرآن أيضاً لنفس أهدافهم التي لهم، وهؤلاء لا علاقة لهم أصلاً بالتفسير ولا بالقرآن. فما يريدونه هو خداع شبابنا بما يقدمونه لهم على أنه هو الإسلام.
لا ينبغي للذين لم يصلوا بعد إلى المستويات العالية من النضوج العلمي أن يدخلوا مضمار التفسير، فلا ينبغي للشباب -غير المطلع على هذه المسائل، وعلى المعارف الإسلامية، والذين لا اطلاع لهم على الإسلام- اقتحام ميدان تفسير القرآن، وإذا حدث أن تطفّل أمثال هؤلاء لغايات وأهداف معينة، فلا ينبغي لشبابنا أن يولوا أهمية، أو يقيموا وزناً لمثل هذه التفاسير. فمن الأمور الممنوعة في الإسلام “التفسير بالرأي” كأن يعمد أيّاً كان إلى فرض آرائه على القرآن، فيطبق المادي أفكاره على بعض الآيات القرآنية، ويفسر القرآن ويؤوله وفق رأيه. أو أن يعتمد أحد أصحاب الآراء المعنوية والروحية إلى تأويل كل ما في القرآن الكريم، ويفسره بما يعتقده هو. لذا يجب علينا أن نحترز من كليهما من جميع هذه الجهات.
صعوبة فهم باطن القرآن
إنّ هذه الآيات التي قيل عنها في رواياتنا أنها جاءت للمتعمّقين في آخر الزمان مثل: سورة التوحيد وست آيات من ـ آية ـ سورة الحديد، لا أعتقد أن أحداً من الناس اكتشف حقيقتها كما هي إلى الآن، ولا في المستقبل سيكتشف. وطبعاً فقد قيل الكثير في هذا المجال وكُتبت تحقيقات كثيرة وثمينة، إلا أن أفق القرآن هو فوق هذه المسائل. ويتصور الإنسان أن كلمة (الأول) في الآية الشريفة (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) تعني أن أول خلق الله، و (الآخر) هو كذلك و (الظاهر) بحسب آثاره أيضاً و (الباطن) أيضاً بحسب أسماءه. إلا أن الموضوع هو غير هذا الذي فهمناه نحن وفهموه، والموضوع أعمق من هذا فـ(هو الظاهر) تريد نفي أصل الظهور عن غيره، وإنه خاص به. وحقيقة الأمر هي هكذا، لكن فهم هذا المعنى أن الظهور هو ظهوره وأن العالم وجميع الوجود هو ظهوره، صعب للغاية.
و(هو معكم) الواردة في نفس هذه الآيات، فإن (معكم) تعني معنا، أي إنه هنا، ونحن هنا. إن المعية يسميها الفلاسفة بـ”معيّة القيّومية” فهل يتضح الموضوع؟ هل إنها مثل معية العلة والمعلول؟ مثل معية التجلي وصاحب التجلي؟ ليس الموضوع هكذا، وإن المتعمقين في آخر الزمان فهموا بمستوى عمق إدراكهم أفضل من الآخرين، وإلا فإن حد القرآن هو “إنما يعرف القرآن من خوطب به” فهذه الجملة “يعرف القرآن من خوطب به” مرتبطة بمثل هذه الآيات، وإلا فإن بعض الآيات المرتبطة بالأحكام الظاهرية وبالنصائح يفهمها الجميع، وإن المقصود بـ”لا يعرفه إلا من خوطب به” هو الرسول الأكرم (ص) أي أن الوسيط -وهو جبرائيل- لا يمكنه الفهم أيضاً. لقد كان جبرائيل الأمين وسيطاً ليس إلا، يقرأ على الرسول تلك الآيات الواردة من الغيب، فهو مكلف بإيصالها، لكنه ليس هو “من خوطب به” أيضاً. إن “من خوطب به” هو الرسول الأكرم فقط، وإن الآخرين فهموا أيضاً بواسطة ذلك النور المشع من رسول الله، والتعليم النوراني الخارج من قلبه إلى قلوب الخواص. وأما أمثالنا -نحن البشر العاديين- فإننا عاجزون حقاً عن فهم حقيقة معنى (هو معكم)، فما هي هذه المعية؟ وما هو معنى نور السماوات والأرض (الله نور السماوات والأرض)؟ ماذا يعني (نور السماوات)؟ وكيف يكون (نور السماوات)؟ ولذا قالوا “منور السماوات” وهذا لا يرتبط بالآية أبداً.
فالتحول المعنوي، والتحول العرفاني الحاصل بواسطة القرآن هو فوق جميع المسائل. وإن الناس ينظر كل واحد منهم من بعدٍ واحدٍ إلى القرآن؛ فالبعض ينظرون إلى بُعده الظاهري، أو إلى بعده الاجتماعي، أو إلى بعده السياسي، أو إلى بعده الفلسفي، أو إلى بعده العرفاني. بَيد أن البعد الحقيقي بين العاشق والمعشوق، والسر الموجود بين الخالق والرسول الأكرم لا يمكننا أن نفهمه نحن. وقد نُقِلَ عن الإمام الباقر عليه السلام قوله بأنه قادر على نشر جميع الأحكام والشرائع والحقائق من كلمة “صمد” فهنا سرّ موجود. طبعاً نحن أيضاً يمكننا فهم أصول المعارف من كلمة “صمد” لكن الإمام الباقر يقول أكثر من ذلك.
أسفي لأولئك الناس الذين لا يريدون أن يعلموا، ولم يسلكوا طريق العلم، ولم يخطو خطوة في طريق التعرف على كتاب الله، ولم يحققوا ذلك الارتباط مع مصدر الوحي حيث إن التفسير يأتي من هذا المصدر.
وكان هذا الارتباط قائماً بين الخالق ورسوله فقط، وبواسطته أيضاً بين الخواص الذين كانوا موجودين.