المعرفة التحليلية للقرآن الكريم
  • عنوان المقال: المعرفة التحليلية للقرآن الكريم
  • الکاتب: الشيخ مرتضى المطهري
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 17:41:21 1-9-1403

بسم الله الرحمن الرحيم

ننوي في هذا الفصل، دراسة محتويات القرآن، ولا ننسى إذا أردنا التطرق إلى جميع مواضيع القرآن فان الأمر يستغرق وقتا طويلاً، وعلى هذا الأساس فإننا سنتناول العناوين العامة ثم نتطرق إلى جزئياتها.

يتحدث القرآن عن مسائل جمة ويؤكد على بعض المسائل بدرجة كبيرة وعلى مسائل اُخرى بدرجة أقل. ومن جملة المسائل التي يتطرق إليها القرآن، مسألة الكون وخالقه. يجب أن نعرف ما هو فهم القرآن لله؟

 

هل هذا الفهم، فلسفي أم عرفاني؟

وهل أن القرآن بمستوى الكتب الدينية الأخرى مثل التوراة والإنجيل أم انه يشبه الرسالات الهندية؟ وهل له أسلوب مستقل في معرفة الله؟

والمسألة الأخرى المطروحة في القرآن، مسألة الكون حيث يلزم تحليل نظرة القرآن حول الكون وهل يعتبر الخلق والكون عبثين ولعبتين أو يعتبرهما حقاً؟ وهل يعتبر سير الكون مبنياً على سلسلة من السُنن والنواميس أم يعتبره شاذاً فلا يشكل أي شيء شرطاً لشيء آخر؟

ومن جملة المسائل العامة المطروحة في القرآن، مسألة الإنسان حيث يتطلب تحليل نظرة القرآن حول الإنسان. هل يتحدث القرآن بتفاؤل حول الإنسان أو أن نظرته سلبية وغير متفائلة تجاهه؟ وهل يعتبر الإنسان حقيراً أو يقيم له كرامة وعزة؟

والمسألة الأخرى، مسألة المجتمع الإنساني، هل أن القرآن يقيم شخصية وأصالة للمجتمع الإنساني أو انه يعتبر الفرد أصلا فقط؟ وهل للمجتمع بنظر القرآن، حياة وصوت وتطور وانحطاط أم أن جميع هذه الصفات تختص بالفرد فقط؟ وتطرح في هذا المجال مسألة التاريخ وما هي نظرة القرآن للتاريخ؟ وما هي بنظر القرآن القوى المحركة للتاريخ ونسبة تأثير الفرد في التاريخ؟

ويطرح القرآن مسائل جمة من جملتها رأي القرآن حول نفسه؟ ثم مسألة النبي في القرآن وكيفية تعريف القرآن للنبي وكذلك كيفية تحدثه معه. والمسألة الأخرى تعريف المؤمن في القرآن وصفات المؤمنين و… الخ. كل واحدة من هذه المسائل العامة لها تشعبات وفروع فعلى سبيل المثال عندما نتدارس الإنسان يلزم بالطبع التحدث عن أخلاقه أو عندما نتحدث حول المجتمع نرى أنفسنا ملزمين بالتحدث عن علاقات الأفراد ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسألة الطبقات الاجتماعية و… ومسائل أخرى.

 

كيف يعرّف القرآن نفسه

من الأفضل عند تحليلنا لفحوى القرآن نبدأ من هذه المسألة وهي أن نعرف ما هو رأي القرآن حول نفسه وكيف يُعرّف نفسه؟

أول ما يقوله القرآن عن نفسه هو أن هذه الكلمات والعبارات هي كلام الله. ويؤكد القرآن أن النبي لم يكتب القرآن بل انه يبين ما نزل عليه بأذن الله من الروح المقدسة أو جبرئيل.

أما التوضيح الآخر الذي يعطيه القرآن حول نفسه فيتمثل بتعريف رسالته التي هي عبارة عن هداية أبناء البشر وإرشادهم للخروج من الظلمات إلى النور: كِتابٌ اَنْزَلْناهُ إليك لِتُخرجَ الناسَ مِنَ الظلمات إلى النور… (سورة إبراهيم – الآية 1)

ومما لا شك فيه أن الجهالة هي من إحدى مصاديق هذه الظلمات والقرآن يخرج البشر من هذه الظلمات إلى النور. أما إذا كانت الظلمات تتمثل بالجهالة فقط لكان الفلاسفة قادرين على القيام بهذه المهمة غير أن هناك ظلمات أخرى اخطر من الجهالة حيث يعجز العلم عن مكافحتها ومن جملتها الجشع والغرور وحب النفس و… الخ التي تعد من الظلمات الفردية والأخلاقية والظلمات الاجتماعية أيضاً كالظلم و التفرقة… الخ. أن كلمة الظلم التي تقابلها بالفارسية كلمة «ستم» مأخوذة من كلمة الظلمة التي تعني نوعاً من الظلم الاجتماعي والمعنوي. ومكافحة هذه الظلمات تكون على عاتق القرآن والكتب السماوية الأخرى، فالقرآن يخاطب موسى بن عمران قائلاً:

… اَنْ اَخْرِجْ قَوْمَكَ من الظُلمات إلى النور… (سورة إبراهيم – الآية 5)

وهذه الظلمات هي استبداد فرعون وأعوانه بينما النور هو نور الحرية والعدالة.

والملاحظة التي أكد عليها المفسرون هي أن القرآن يذكر الظلمات بالجمع مع الألف واللام لتعبر عن الاستغراق وتشمل جميع الظلمات في حين يذكر كلمة النور بالمفرد باعتبار أن طريق الحق واحد لا غير بينما الانحراف والضلالة لهما طرق متعددة(1) وبذلك يحدد القرآن هدفه؛ تحطيم قيود الجهل والضلالة والظلم والفساد الأخلاقي والاجتماعي وبعبارة أخرى، إزالة الظلمات ومن ثم الإرشاد نحو العدالة والخير والنور.

 

فهم لغة القرآن

المسألة الأخرى، مسألة فهم القرآن وتلاوته. يتصور البعض أن المقصود من تلاوة القرآن هو قراءة القرآن بهدف الحصول على الثواب من دون فهم أي شيء من معنى الآيات هؤلاء يختمون القرآن على الدوام أما إذا سُئِلوا عما إذا كانوا يفهمون ما يقرأونه فانهم يعجزون عن الإجابة. اِن قراءة القرآن لازمة وضرورية باعتبارها بداية لفهم معاني القرآن لا أن تأتي بهدف الحصول على الثواب.

وفهم معاني القرآن، هو الآخر له خصائصه حيث يتطلب أخذها بنظر الاعتبار. وعند مطالعة الكتب يحصل القارئ على سلسلة. من الأفكار الجديدة التي لم تكن موجودة في ذهنه أبداً. وهنا فان عقل وقوة تفكير القارئ هما فقط اللذان يقومان بالفعالية. وفيما يتعلق بالقرآن، يتوجب مطالعته بهدف التعلم والتعليم. يقول القرآن بهذا الصدد:

كِتابٌ اَنْزَلْناهُ اِليكَ مُبارَكٌ لِيدّبروا آياته وَ لِيتذَكَرَ أولو الألباب (سورة ص- الآية 29)

للقرآن وظائف من جملتها التعليم ومن هذه الناحية فان مُخاطب القرآن هو العقل حيث يتحدث معه بلغة المنطق والاستدلال. إضافة إلى هذه اللغة يملك القرآن لغة أخرى لا يتحدث بها مع العقل بل مع القلب و تسمى هذه اللغة بالإحساس. ومن يريد أن يتعرف على القرآن ويستأنس به يجب أن يكون ملماً بهاتين اللغتين ويستفيد منهما في آن واحد لان فصلهما عن بعضهما يوقع الإنسان بالخطأ ويضره.

أن ما نسميه عقلاً، عبارة عن إحساس كبير وعميق يتواجد في داخل الإنسان ويسمى أحياناً ب«إحساس الوجود» أي الإحساس بارتباط الإنسان بالوجود المطلق.

ومن يعرف لغة القلب ويخاطب الإنسان بها، يحركه من أعماق الوجود وفي ذلك الوقت لن يكون الفكر والعقل متأثرين فحسب بل أن جميع وجود الإنسان سيكون متأثراً وعلى سبيل المثال أن جميع أنواع الموسيقى لها عامل مشترك إلا وهو الاحتكاك بعواطف الإنسان، فالموسيقى تثير روح الإنسان وتدخله في عالم خاص من الإحساس. وبالطبع يتباين نوع الإثارة والإحساس المتولدين، من موسيقى إلى أخرى مثلاً يحتمل أن يكون نوع من الموسيقى مرتبطاً بإحساس الشجاعة والبسالة. أذن فهي تتحدث مع الإنسان بهذه اللغة. أنكم تلاحظون في ساحات الحرب انهم يعزفون الألحان والأناشيد العسكرية ففي بعض الأحيان يكون تأثير هذه الأناشيد أو الألحان قوياً إلى درجة يشجع الجندي الذي لا يخرج من موضعه خوفاً من العدو، أن يخرج من ذلك الموضع ويتقدم نحو العدو ليحاربه. أما النوع الآخر من الموسيقى فيحتمل أن يكون مختصاً بحس الشهوة ومثل هذه الموسيقى تأخذ بيد الإنسان نحو الابتذال والسقوط والانحطاط ويلاحظ أن مثل هذا النوع من الموسيقى له تأثير كبير ويحتمل أن لا يكون بمستطاع أي شيء آخر أن يؤثر بهذه الدرجة في تحطيم جدران الكرامة والأخلاق.

وفيما يتعلق بسائر الغرائز والأحاسيس أيضاً، يمكن عند التحدث بهذه اللغة بواسطة الموسيقى أو بأية وسيلة أخرى، السيطرة عليها تماماً.

ومن أروع غرائز وأحاسيس الإنسان، الحس الديني وفطرة الاتجاه إلى الله. والقرآن يهتم بهذا الحس العظيم والشريف(2).

القرآن يوصي بتلاوته بلحه لطيف وجميل وهو يتحدث مع فطرة الإنسان الإلهية بهذه النغمة السماوية(3) ثم انه يستعمل لغتين لوصف نفسه ففي بعض الأحيان يعتبر نفسه كتاب التفكير والمنطق والاستدلال وفي أحيان أخرى كتاب الإحساس والحب، وبعبارة أخرى أن القرآن ليس غذاء العقل والفكر فحسب وإنّما غذاء الروح أيضاً.

يؤكد القرآن بدرجة كبيرة على موسيقيته الخاصة، تلك الموسيقي التي تؤثر اكثر من أية موسيقى أخرى في إثارة أحاسيس الإنسان العميقة والنبيلة، ويأمر المؤمنين أن يقضوا بعض الليل في تلاوة القرآن ويقرأوا القرآن في صلاتهم عند توجههم إلى الله. يقول القرآن مخاطباً النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ :

يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلاً. «سورة المزمل – الآيات 1 – 4»

والترتيل، يعني قراءة القرآن لكن ليس بسرعة بحيث لا يتم فهم الكلمات، أو ببطء، بحيث تنعدم الصلة بين العبارات. يقول إقرأوا القرآن بتأن مع فهم الآيات ويقول في الآيات اللاحقة:

… فاقرأوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واقرضوا الله قرضاً حسناً… «سورة المزمل – الآية 20»

لقد كانت موسيقى القرآن عند المسلمين، تحث على النشاط واكتساب القدرة الروحية والإخلاص والصفاء الباطني، وان نداء القرآن السماوي جعل في اقل مدة من أناس شبه الجزيرة العربية المتوحشين، مؤمنين صامدين استطاعوا أن يتحدوا اكبر قوى عصرهم ويقضوا عليها. وكان المسلمون لا ينظرون إلى القرآن ككتاب دراسي وتعليمي فقط بل كغذاء روحي ومصدر لكسب القوة وازدياد الإيمان. كانوا في الليل يقرأون القرآن بإخلاص(4) ويبتهلون إلى الله، وكانوا في النهار يشنون مثل الأسود هجماتهم على العدو فالقرآن كان يتوقع هذا الشيء من المؤمنين، ويقول في آية مخاطباً النبي:

ولا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً «سورة الفرقان – الآية 52»

وحياة النبي، مصداق لهذا الكلام. انه انتفض وحده من دون حماية ماسكاً القرآن بيده، لكن هذا القرآن اصبح كل شيء له، كان يُعدّ له الجنود والأسلحة والقوة ويجبر العدو أن يخضع ويستسلم له وكان كذلك يجر أفراد العدو نحو النبي ويجبرهم على الاستسلام له، وبذلك كان يُنفذ وعود الله الصادقة.

عندما يصف القرآن لغته، بلغة القلب فهو يقصد بهذا الكلام، ذلك القلب الذي يعتزم صقله وتنقيته وأثارته بآياته. هذه اللغة هي غير لغة الموسيقى التي تغذي الشهوات الإنسانية أحياناً وغير لغة الألحان العسكرية والأناشيد الحربية التي تعزف لتقوية روح البسالة بل هي تلك اللغة التي تصنع من الأعراب البدو، مجاهدين قيل في حقهم: حملوا بصائرهم على أسيافهم.

هؤلاء كانوا لا يفكرون بالمسائل الفردية والمصالح الشخصية. ومع انهم لم يكونوا معصومين ويقعون في الأخطاء، كانوا من جملة الذين يطلق عليهم الكلام التالي، «قائم الليل وصائم النهار». كانوا في جميع اللحظات على ارتباط مع الوجود حيث كانوا يؤدون الفرائض الدينية في الليل ويجاهدون في النهار(5).

ويؤكد القرآن على خاصيته هذه وهي انه كتاب القلب والروح، كتاب يثير الأرواح ويبكي العيون ويرجّف القلوب. هذا الأمر ينطبق على أهل الكتاب أيضاً:

الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به انه الحق من ربنا… «سورة القصص – الآية 52 – 53».

ويؤكد أيضاً في آية أخرى أن بعض أهل الكتاب، أي المسيحيين هم أقرب إلى المسلمين من اليهود والمشركين(6). ثم يصف النصارى الذين يؤمنون حال سماعهم القرآن بقوله:

وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. «سورة المائدة – الآية 83»

وفي مكان آخر، هكذا يصف المؤمنين عندما يتحدث عنهم بالذات:

الله نزّل احسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذي يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. «سورة الزمر- الآية 23»

يبين القرآن في هذه الآيات الأخرى انه ليس كتاباً علميا وتحليليا فحسب بل انه في نفس الوقت الذي يستخدم فيه المنطق والاستدلال، يتحدث مع أحاسيس وأذواق ولطائف أرواح البشر ويجعلها تتأثر.

 

الذين يخاطبهم القرآن

من جملة المسائل التي يتطلب استنباطها من القرآن عند المعرفة التحليلية، تعيين وتحديد الذين يخاطبهم القرآن. لقد وردت في القرآن عبارات كثيرة مشابهة لعبارات، هدى للمتقين، هدى وبشرى للمؤمنين ولينذر من كان حياً. وهنا يمكن أن نسأل بان الهداية للمتقين غير ضرورية للمتقين لأنهم متقون. من جهة أخرى نرى أن القرآن يعرف نفسه هكذا:

اِن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين(7). «سورة ص – الآية 87 و 88»

أذن فهل هذا الكتاب لجميع العالم أم انه للمؤمنين فقط؟

وفي آية أخرى يخاطب الباري سبحانه وتعالى، النبي قائلاً: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين «سورة الأنبياء – الآية 107»

وسنعطي في موضوع «التاريخ في القرآن» توضيحاً مفصلاً عن هذه المسألة، لكن يلزم هنا القول بالأجمال إن القرآن عندما يخاطب جميع أفراد العالم في آياته، يريد ان يقول انه ليس ملكاً لقوم أو جماعة معينة. و من يتجه نحو القرآن يلاقي النجاة. أما في الآيات التي يصف القرآن نفسه فيها ككتاب هداية للمؤمنين والمتقين، يريد ان يقول من هم الذين سيتوجهون في النهاية نحو القرآن وما هي الفئات التي ستبتعد عنه. والقرآن لا يتحدث عن قوم أو قبيلة معينة بمثابة محبيه أو مؤيديه. لا يقول انه ملك لهؤلاء القوم أو أولئك، فالقرآن خلافاً لجميع الأفكار لا يؤكد مطلقاً على مصالح طبقة خاصة، على سبيل المثال لا يقول انه جاء لضمان مصالح الطبقة الفلانية فقط. وأيضاً لا يقول ان هدفه الوحيد يتمثل بالدفاع عن الطبقة العاملة أو طبقة الفلاحين. وحول نفسه يؤكد بأنه كتاب يرمي إلى إقامة العدل.

وفيما يتعلق بالأنبياء يقول: وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. «سورة الحديد – الآية 25»

إذن فالقرآن يريد القسط والعدل للمجتمع الإنساني ككل وليس لهذه الطبقة أو تلك أو لأولئك القوم وتلك القبيلة. وهو خلافاً للأفكار الأخرى مثل النازية لا يكسب الناس إلى جانبه من خلال تأكيده على تعصبات هؤلاء، وأيضاً خلافاً لبعض الأفكار الأخرى مثل الفكر الماركسي لا يعتمد على مطامع الناس ولا يحركهم عن طريق مصالحهم(8)، لأنه مثلما يقيم أصالة لوجدان الإنسان العقلي، يقيم له أصالة وجدانية وفطرية أيضاً. ويحرك الناس على أساس فطرة طلب الحق والعدل، ولهذا لا تختص رسالته بطبقة العمال أو الفلاحين أو المحرومين والمستضعفين. القرآن يحث الظالم والمظلوم على الرجوع إلى طريق الحق والنبي موسى أوصل بدوره نداء الله إلى بني إسرائيل والى فرعون كذلك وطلب منهم ان يؤمنوا بالله ويسيروا في طريقه. أما النبي محمد فقد عرض رسالة الله على زعماء قريش وعلى أبي ذر وعمار أيضاً. ويورد القرآن نماذج متعددة من انتفاض الفرد على نفسه والعودة من طريق الضلالة والفساد (التوبة). وبالطبع يعلم القرآن ان عودة الذين يعيشون في نعيم ورخاء اصعب بدرجات من عودة المحرومين والمستضعفين.

الفئة الثانية، تسير في طريق العدالة استناداً إلى ضرورة الأمر، بينما الأولى يجب في بادئ الأمر ان تغض النظر عن المصالح الشخصية والطبقية وتدوس بإقدامها، ميولها ورغباتها.

يقول القرآن ان المتمسكين به لهم أرواح طاهرة ونقية، وهؤلاء انفتحوا على القرآن انطلاقاً من فطرتهم في طلب الحقيقة والعدل التي هي فطرة كل إنسان وليس بدافع من المصالح والميول المادية والدنيوية.

__________________________
(1) مثلاً نقرأ في آية الكرسي: الله ولي الذين آمنوا يُخرِجُهُمْ مِنَ الظُلُماتِ إلى النور والذين كفرُوا اولياؤهمْ الطاغوت يُخْرِجُونهم من النور الى الظلماتِ.
(2) قيلت أشياء كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها حول هذا الحس الديني ونورد باختصار أقوال اثنين من المفكرين العالميين، تتعلق الأولى منها بالعالم «انشتاين» الذي يتناول المذهب في إحدى مقالاته ويقول؛ كانت هناك ثلاثة أنواع من المذاهب في العالم هي:
1- مذهب الخوف: أي مذهب جماعة اعتنقت المذهب على اثر مخاوفها من الطبيعة والمحيط.
2- مذهب الأخلاق: هدفه مذهبي ويستند إلى المصالح الأخلاقية.
ثم يتحدث عن مذهب آخر يسميه ب«مذهب الوجود». هذا التعبير يشبه تعبيرنا حول القلب. يعتقد انشتاين ان هذا المذهب يريد في الواقع ان يقول؛
يحصل الإنسان على حالة معنوية وروحية إذا ما خرج وتحرر من نطاق نفسه المحدود والمحاط بالآمال والأحلام الحقيرة والصغيرة والمنفصل عن الآخرين والتحرر كذلك من عالم الوجود الطبيعي الذي يشكل حصاراً حوله. وفي ذلك الوقت يبدأ النظر إلى مجموع الوجود ويرى الوجود حقيقة واحدة ويرى بوضوح الروائع وأنماط العظمة القابعة خلف الظواهر و يتذكر حقارته وتفاهته ثم يرغب في الاتصال بمجموع الوجود. وتعبير انشتاين هذا يذكرنا برواية همام الذي سأل أمير المؤمنين(ع) عن صفات المؤمن فأعطاه الإمام إجابة قصيرة ومقنعة حيث قال:
يا هُمام اِتق الله واحسن ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون «نهج البلاغة – الخطبة 183»
غير ان هُماماً لم يقتنع بهذه الإجابة وطلب توضيحات أخرى مثلاً سأل عن الحياة والعبادة وكيفية قضاء الأيام والليالي وآداب المعاشرة و… الخ. لذلك تطرق الإمام إلى صفات المؤمن ورسم 130 خطاً من خطوط وجوه المتقين ومن جملة ما قال: لولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين.
وهذه هي نفس الحالة التي يشير إليها انشتاين قائلاً: ان الإنسان المذهبي يعتبر وجوده نوعاً من السجن المحاصر لأنه يريد ان يطير في قفص الجسم ويرى الوجود كله ككتلة واحدة. هذه الحقيقة قد تجلت بشكل أوسع وافضل في كلمات أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ. وبرأي الإمام علي ـ عليه السلام ـ كأن المؤمن جمع كل الوجود في جسمه المادي، ولهذا السبب يغادر قالبه ويحرر روحه. يقال ان هُماماً عندما أنهى الإمام حديثه، أطلق صرخة من أعماقه وفرغ القالب.
وفي مجال حس الإنسان المعنوي يسرد الشاعر إقبال لاهوري حديثاً شيقاً فهو يقول؛ ليس هناك أي سر ولغز في هذا الكلام وهو ان الدعاء يعتبر وسيلة الإشراق النفسي والعمل الحياتي والطبيعي وبواسطته تكشف جزيرة شخصيتنا الصغيرة، موقعها في مجموع اكبر من الحياة. وهناك عبارة لوليام جيمز بهذا الصدد؛ دافع الدعاء هو نتيجة ضرورية لهذا الأمر وهو ان اعمق الارادات الاختيارية والعملية لكل شخص يعتبر نوعاً من الارادات الاجتماعية ومع ذلك فان الإنسان يستطيع ان يجد مصائبه الكاملة في عالم أفكاره فقط وان اكثر الناس يرجعون في قلوبهم إليه سواء باستمرار أو عن طريق الصدفة وأحقر فرد على وجه الكرة الأرضية يحس بهذا التصور السامي، انه شخص حقيقي وذو قيمة. يحتمل ان يكون هناك تباين بين الناس من حيث درجات التأثر. وهذا التصور يشكل لبعض الناس دون غيرهم الجزء الهام من الوعي الذاتي مثل هؤلاء الناس يحتمل ان يكونوا اكثر الناس التزاماً بالدين، لكنني على ثقة من ان الذين يدّعون افتقارهم الكلي لذلك، لا يخدعون إلا أنفسهم ذلك انهم يلتزمون بالدين إلى حد ما.
(3) كان الأئمة (ع) يقرأون القرآن بصوت متناغم. بحيث ان المارّة الذين كانوا يسمعون ذلك الصوت، كانوا يتوقفون دون اختيار وينهمكون بالبكاء.
(4) قال الإمام زين العابدين ـ عليه السلام ـ في دعاء علّمه ليُقرأ بعد ختم القرآن… واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً.
(5) يذكر أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في الخطبة 193 المعروفة بخطبة المتقين من نهج البلاغة، صفات المتقين. وبعد ان يتطرق إلى تصرفاتهم وأقوالهم يصف بعض حالات هؤلاء في الليل. أما الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا.
يحزنون به أنفسهم ويستشيرون به دواء دائهم. فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا إنها نصب أعينهم، إذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها بمسامع قلوبهم وظنوا أنها زفير جهنم وشهيقها.
(6) لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا أنا نصارى. «سورة المائدة – الآية 82»
(7) هذه الآية من أعجب آيات القرآن، عندما نزلت كان النبي في مكة يتحدث إلى أهالي إحدى القرى. وكان من (الباعث على السخرية) ان يقول شخص باطمئنان؛ أنكم ستسمعون بعد حين بنبأ الآية. ستسمعون ماذا سيفعل هذا الكتاب في العالم خلال فترة قصيرة.
(8) ذلك ان الحق والعدل للمتمسكين في تلك الحالة سيكونان بلا هدف لان تحقق المصالح وارضاء الرغبات سيكونان هدفاً.