من مشاهد القيامة
  • عنوان المقال: من مشاهد القيامة
  • الکاتب: د. محمد حسين الصغير
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 12:12:33 2-9-1403

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) .

(هَل يَنُظرُونَ إِلاَّ السَاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغتَةً وَهُم لاَ يَشعُرُونَ ).

استفهام تقريري ينطوي على الوعيد المرعب في قيام الساعة، وكأنّهم ينظرون إليها حقيقة واقعة مذهلة، والساعة وأمرها مما أنفرد الله بعلمه وتفصيلاته، وتدلّ الآيات القرآنية في أكثر من موضع على قيامها مقترناً بعنصر المفاجأة دون إنذار مسبق، أو وقت مبيت، وهو غيب ينطلق إيماننا به بالضرورة لأنّه من أركان هذا الدين، وهو فرع من إيماننا بالقرآن والرسالة جملة وتفصيلاً. وتصاحب ذلك إمارات وعلامات في التغيير الكوني لجميع مظاهر العوالم في السماوات والأرض وما فيهما حيث يتمّ الانقلاب الشامل المدهش إيذاناً بالقيامة، وكأنّ الدنيا لم تكن والآخرة لم تزل، ووضعت الموازين، ورفع القلم، والظاهرة التي تثيرها الآية هنا مضافاً إلى الظواهر الأخرى في آيات أخرى، إنّ المتحابين في الدنيا باستثناء المتقين، ينقلبون إلى أعداء متلاومين، ذلك أنّهم كانوا متعاضدين على الكفر والضلال، مجتمعين على الباطل والفسوق، وإذا بهم أعداء في الروح والذات، وخصوم في اللقاء، فأمّا المتقون فثباتهم في الحياة الدنيا عاد أداة استمرارية لثباتهم في الحياة الأخرى، فلا عداء يفهم ولا ملاحاة، بني اتصالهم على الحقّ، وكان حبهم في ذات الله، بعيداً عن المظهر المادي المغلف، والحبّ الدنيوي الكاذب، (الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ).

وما زال في حديثه عن المتقين فإنّه يشرّفهم بالقرب منه بندائه الكريم: ( يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ  )، إنّ اللذة الروحية بهذا النداء لتفوق بأحاسيسها الإحساس بأيّ عطاء مادّي مهما كان قيماً، وباستقراء القرآن الكريم نجد هذه الصفة مطردة بأصفياء الله، فكلّ صدّيق عبد له، وكلّ نبيّ من عباده، وكلّ مرسل يشرّف بهذا الوسام،

ولقد كانت هذه النفوس أكثر سروراً بإدخالها في عباده وحشرها في زمرة أوليائه من إدخالها في جنته، لأنّ النفس الزكيّة تتسمّ بشفافية روحية تجعلها تنظر بعين الغبطة والرضا إلى اندماجها في عباد الله، فهي بذلك أشدّ فرحاً وتأثراً وانجذاباً من اندماجها في دخول الجنة، وإن كان دخول الجنة جليلاً، إلاّ أنّ مخالطتها للعباد الصالحين أمر يتصف بالروحانية المطلقة، وهذه الروحانية تحقق لهم مزيداً من الرغبة العارمة، فلقاء محمد وآل محمد، وإبراهيم وآل إبراهيم مثلاً، أكثر تقبلاً في نفوس الخاصة من الأولياء، وأسمى منزلة من دخول الجنة، فإذا أضيفت لهذه الروحانية البشارة بأن: لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، تكاملت السعادة من أطرافها، إذ أمتزج القرب الروحي بالاطمئنان إلى الشعور النفسي بالاستقرار والأمن والسلامة، فلا الخوف يخشى، ولا الحزن يقترب، وهما مظهران من مظاهر القلق النفسي، وبابتعادهما يتفرغ الشعور لاستقبال الملاذ والمتع الحسية، لهذا يأتي بعد هذا النداء تحقيق الوعد بما أدّخر لهم الله في ذلك اليوم من نعم ومتع وسرور، جزاء على إيمانهم اللامحدود، وإسلامهم المقترن بصالح الأعمال: (الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ).

وتأتي سلسلة اللذائذ الحسية مسبوقة بأمر الدخول إلى الجنة غير مستوحشين ولا فرادى، بل هم وأزواجهم ليجتمع الشمل، وتعمّ الفرحة بما يطفح بشره، ويتجلى أثره في نضرة الوجوه، فإذا حلّ الإشباع في الأطعمة والأشربة، وهما من مظاهر التّرفّه والتنعم، أضيف مختلجات النفس الإنسانية فيما تتطلبه من شهوات وملاذ وطرف، فإذا تكامل ذلك بقيت اللذة الكبرى فيما تتمتع به العيون، فأعطى ذلك لهم لتتمّ السعادة عندهم مادّياً ونفسياً وحسياً، ولئلا يتنغص عليهم هذا المناخ في إشاعته الحبور المتواكب: كرّموا بالأنباء عن إدامة ذلك وبخلودهم معه. وهنا تشريف لهم بالالتفات في الخطاب، (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

 

ويستمر الحديث عن الجنة في مجالين:

الأوّل: مجال استحقاقها بالأعمال الصالحة وتوفيق الله تعالى.

الثاني: بإيجاب أطايب الجنة بما فيها من فواكه كثيرة متنوعة، ترغيباً فيها، وتسلية عن الحرمان الذي أصاب بعضهم في الحياة الدنيا، وتعويضاً عن الفقر والفاقة حتى مع الغنى في الدنيا، إذ جميع ما في الدنيا زائل متقلب متغير، وذلك النعيم ثابت مستقرٌّ متجدد: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ).

هذا مشهد من مشاهد المتقين يوم القيامة، أمّا المجرمون الذين تمكنوا في الإجرام فيصور حالتهم قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ).

يا لها من مرارة قاتلة، وحياة مزعزعة مرعبة، خلود في العذاب بلا انقضاء، وشدة في وقعه مع الخذلان، وإرتكاس بأعماقه إلى الحضيض، لا يقف لحظة، حتى إذا بلغ العذاب أشده، والتقت حلقتا البطان، نادوا من الأعماق بكلّ خيبة وذل واستكانة ( يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) إنّه الهوان أن يتمنوا الهلاك لا النجاة، والموت لا الغوث،

ثُمّ يتجه الخطاب بالتوبيخ للمعرضين ولأضرابهم ممن انتهى بهم المطاف إلى هذا المصير المؤلم نتيجة الإصرار على الخطأ، فهم يكرهون الحقّ عن قصد، وهم يحاربونه عن عرفان، لا يشتبهون في إدراكه، ولا يخطئون في تمييزه عن الباطل (وَلَكِنَّ أَكثَرَكُم لِلحَقِ كَرِهُونَ) غريزة جبلت عليها طبائعهم، لأنّه يساير رغباتهم.

ثُمّ يعصف بهم التحذير على وجه الإنكار، والتعجيز على جهة المقابلة، والتحدي بأحكام التدبير( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) فكيدهم ومكرهم يطوح به تدبير الله وإبرامه، لأنّ مكرهم عاد وبالاً عليهم بما جنوا من ثمار الخيبة والخسران، أمّا كيد الله وإحكامه للأمور فقد كان صاعقة انتهت بهم إلى الإخفاق فيما أعدّوه لمحاربة الله ورسوله، فقد طار هباء سرّهم ونجواهم، فلا حديث النفس بخافٍ عليه، ولا التناجي بغائب عنه: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ).

فهناك رصد يتعقب دقائق الأمور وجزئياتها، يترجمه الكرام الكاتبون، بالتقاط الصور الواقعية والمتخيلة من الأحاديث والنيات والأعمال، فتحصى بأمانة لتعرض على الله، فيتقاصر حينذاك الجهلة، لأنّهم أمام السميع العليم.