1ـ وعي الواقع المرير .. أولى خطوات الهداية:
إنّ الفاحص لأحوال الأمة الإسلامية والمتابعَ للظروف الإنسانية الصعبة التي يعيشها المجتمعُ البشريُ، وما يمرحُّ على حركة الفكر الديني والقيم الأخلاقية، لا يَصعبُ عليه أن يعي أنّ مسافةً كبيرةً ومفارقاتٍ هائلةً قد أقصت الإنسان المسلمَ المعاصرَ عن ما رسم الوحيُ له من مقوّمات الحياة الطيبة، والعيش السعيد؛ حيثُ إنّ المجتمع الإنسانيَّ عموماً، بات عرضة لغزو ثقافيٍّ ونشاط فكريٍّ يهدفُ إلى محوِ الماضي المفعم برسالات الخير وغايات السعادة التي قد انطوى عليها الوحي السماويُّ المتمثل بحركة النبوة. غزوٌ حقيقيّ وإن كان قد تَمَظهر في مظاهر أنيقة، فيها برقٌ وجمالٌ، وتَموقَعَ في مواقع خفيةٍ تبلورت في استغلال النَّزعات ومكامن التوق والانجذاب في أوساط الشبيبة خاصةً، ولكنَّه في عُمق أغراضه هادف إلى تكريس حضارة الاستهلاك، وإلى إرساء قواعد الليبرالية الاقتصادية وثقافة الإباحية؛ لكي يسقط الإنسانُ في نهاية المطافِ أمامَ إغراءات الحضارة، ويخضعَ لحضارة الإغراءات ويلبّيَ حاجاتِ المدرسة الرأسمالية، ويلعبَ الدورَ بنجاح بوصفه غرضاً للسوق وهدفاً لاقتصادها، وذلك كلُّه في ألف غطاءٍ وغطاءٍ من المفردات والمشاريع الجذاّبة. وما يؤسف له، أنَّ نزوعَ شرائحَ كبيرةٍ مما يُعرف بتيار (النخبة) وكتلة (الإثقاف) إلى مفردات هذه الحضارة وترويجها لها، من دون أيِّ مقابلٍ، بل وعلى حساب الذات والهويَّة، لأجل ممارسة معلنة من قبلها، وللتصدّي والوقوف في وجه الذاتِ لحسابِ الآخر!! يجعلني مضطراً إلى عدم الدخول على خط التسميات، ويحول الواقعُ دون الصراحةِ في التطرقِ إلى تلك الغطاءات، ومجالات التبلور العينيِّ لحضارة الإغراء وثقافة التدمير والإفساد داخل الأوساط الإسلامية. وقد خَطفت زينةُ هذه الحضارة البريقَ والضوءَ من الأبصارِ. ولقد ضَلّلت حلاوةُ هذه الثقافات المعسولة السامّة أدواتِ الوعي والإدراك، رغمَ أن إفرازاتها فاسدةٌ، ومضاعفاتِها سيئةٌ، وآثارَها مدمّرةٌ، وبَصَماتها المتروكة هنا وهناك، فيها سفك دمٍ وظلمٌ، وخرابٌ وضلالةٌ!
وما أسلفتُهُ هنا لا يهدف إلى اتخاذ موقف تجاه الغربِ وحضارتِه. ولا يمثِّلُ سعياً إلى ممارسةِ عمليةِ تقييمٍ لحركة المجتمع الغربيِّ، ولا إلى مَعيَرةِ ووَزنِ ما فيها من قيم واعتباراتٍ، بقدر ما هو لتوجيه نقدٍ إلى الذات والعقل الإسلامي والإنساني، وإعمال تأمل وتقويم لرؤيتها وموقعها تجاه الواقع المعاصرِ.
فإنَّ الغربَ لا يُلام على انتهاج ما هو عليه الآن بقدر ما تُذمُّ الذاتُ المسلمة على تبعيتها وتقليدها له. والسّببُ في ذلك هو في غاية الوضوحِ، حيث إنّ الغربَ قد ورث الجهلَ والاستبداد والتخلّفَ. والحضارة الغربية العتيقةُ قد ارتكزت على قواعد التأخر وأسس الدكتاتورية والأنظمةِ التوتاليتارية، ومع ذلك قد تجرأت على التمرّد على الذات وتجديدها وتمكن الغربي من إعادة بناء حضارته واستئناف بنيانه على ركائز متينةٍ وأصولٍ أكثرَ صلاحاً وأشدَّ بقاءً مما كانت عليه سابقاً.
مما أسفرَ عن إنشاءِ مفاهيمَ جديدةٍ، وتأسيسِ قيمٍ جيدةٍ، وتأمينِ قدرٍ هائلٍ من الحريةِ والعقلانيةِ. إنَّ هذه الحركة التطويرية على الرّغمِ من أنها قد حصرتْ آلياتِ تحديدِ الخيرِ وطرق الوصول إلى الصلاح والرّشادِ، في الأرضِ، واستغنت عن السماء، وعن كلّ ما هو خارج الذاتِ الإنسانية، وبذلك قد وقعت في فخ آخريتمثل في نبذ الميتافيزيقا.
ولكنَّ الحقّ أن يقال: إنًّ دراسة حركةِ المجتمعِ الغربيّ تاريخياً لا تترك مجالاً لشكٍ في أنّ منحى التحوّل والتطور قد كان باتجاه التقدّم والتحّسن. وهذا على نقيض ما قد حدثَ في المجتمع الإسلامي الذي قد مُتنت قواعده، وأُحكمتْ ركائزُه، وأصولُه، ولكنَّ رفضَ التمسُّك بالدّستور السماويّ، وعدم إجادة التمسك بالسنة المعصومةِ، قد أحدثَ انحرافاً كبيراً واعوِجاجاً شاملاً تمّ تتويجه على يد كُتَلٍ إثقافيةٍِ بإلغاء الذات كلياً، وإنكار مقوّماتها ومن ثمّ الركض وراء الخير. فذنبنا أشدّ ووضعنا أضل؛ ذلك لأننا قد نبذنا الذات وأنكرناها وتنكّرنا لها وضيَّعناها، بينما هم طوّروها. ومضوا في تقدّمهم، ونحن قد صرنا نتقهقر ليس إلى الأصول، بل إلى الضياع. هم بنوا على الإنسانية وحدَها منقطعة عن الوحيِ والسماء، فوصلوا إلى بعض الحرّية وبعض الخيرِ، ورفضنا ذاتنا، فضِعنا فلا نجد في ملف مناهجنا من خير ومكسب وإنجاز مما هم حققوا، رغم أنًّ شرِيعة اللّه تَختزنُ معادنَ الخير كلّه. إذاً هم في ضلالة من أمرهم لكنّنا أضلُّ. وذلك كلّه لسبب المحاولة للهروب من الذات الإسلامية من جهةٍ وعدم إتقان اتباع الغرب ومعرفته من جهة أخرى. هُجر القرآن إلاّ على القبور وفي مجالس الفاتحة، وقراءته طمعاً في ثوابِ الله وجنتِه غداً، واستوردنا من ديار الغرب فساده، وإباحيّته، وديكتاتورية أمسه (وليس يومه)، ورفضنا خيره، وتقدُّمه ونقاطَ قوته ومكاسبهُ الهائلةَ!. وباختصار شديد، قد تجاهلنا خيرَنا واقتبسنا من الغرب شرّه، فقط.
2ـ إعادة اكتشاف الذات.. وتجديد قراءتها:
إنَّ التعاملَ الصحيحَ مع الواقع وبالذات مع الثقافات والحضارات المعاصرةِ، وخاصةً إتقانَ التعاطي والتفاعل معها يتسم بأهمية بالغةٍ. وفُقدان عملية تحديد المسافاتِ فيما بيننا وبينها بدقّةٍ، ووجود اختلال كبير في المواقف منها (بالمعنى الدقيق لكلمة الموقف) يعدُّ بحدِّ ذاتهِ مانعاً وعائقاً على طريق التقدم، مع ذلك فإنّه من الأنسب أن يتم التركيز هنا على إشكاليات تتّصل بالذاتِ، والهوّية، وإحالة منهجية التعامل مع الموضوع الأوّل إلى مستقبل قريب، نفتح فيه هذا الملفّ بإذن الله.
إنّ الخطوة الكبرى على طريق الانطلاق هي: معرفة النفس وكشفُ الذاتِ، ومن دون تحقيق هذا المطلب، فإنًّ الضياعَ والانزلاقَ والسقوطَ لا محيص عنه. ولعلّ أروعَ ثنائيةٍ قد انطوت عليها عشرات الآياتِ من كتاب اللّه الكريم هي مصطلحا (الظلمات والنور) ونحن ندرك بمنأى عن هول الأدب وكثافة دقائقه ومظاهره الغريبة في هذه المفردات، أنًّ التعبير فيه شموليةٌ واستيعابٌ هائل يختزن في داخلهِ كلَّ مظاهرِ الشرّ (ظلمات) والخير (النور). وإنّ الخطاب القرآنيّ ـ كما هو معلوم ـ متجرّد من مقوّمات (الخصوصية)، فالتعبير القرآنيّ يتميّزُ باستيعاب وعمومية يتمكن به من اجتياز كلّ زمن، وكلًّ ظرف، ويصلح ليكون أعظم آلية لِمَسطَرَةِ ومَعيرَةِ سلوك الإنسان وحركة التاريخ. وما الذي نعانيه اليوم من مأساة الظلم، ومصيبة التيه وكارثةِ الاستبدادِ والدكتاتورية، وأزمة التخلّف والتأخر، وانتشار الفساد والإباحية، وتسلط قيود وأغلال الجور على المقدّرات والمصائر.. إلاّ مصاديق وترجمات واقعية لمفردة (الظلمات)، وهي تحلّ بالإنسان عند فقدان وضياع (النور) والنّور هو نور اللّه وإشراقتهُ المتمثلةُ بنزول آياتهِ وكُتبه السماوية وبالمقابل فإنّ الظلماتِ هي التخلّي عن هذا النور والاقتصاء من الصراط المستقيم. أنّه كتابٌ فيه منهج دقيق وشاملٌ لِعَمليّة التقويم والتصحيح لحركة الإنسان. والمجتمع وكما كان في عصر النزول بعيداً عن تفاصيل ومفردات الواقع، ولم يتحدث على سبيل المثال عن تفاصيل العمل السياسي آنذاك، كذلك لا تصريح فيه عن مصطلح الديمقراطية والحرية والعلمانية وغيرها من مفردات اليوم سلباً أو إيجاباً.. ورغم أنّ الإنسان عاقل ومفطور بفطرة اللّه وفيه معدن الخير وخزائنه، غَيرَ أن غياب النور، أو رفضه الاستنارةَ والاستضاءةَ به في حركته سيُحتّمُ وقوعَه في الظلمات ويؤدي إلى إفشال عملية تحقيق الذات وبلورةِ الخيرِ المكنونِ فيه.
إنّ تمسّك الإنسان بالقرآن لا يعني إلغاءَه ولا يسفر عن تغييب إنسانيته؛ كما أنًّ استهداء الضالِّ والضائع بالنجم الساطع لا يمثل انعدامَ وجودِ ذاتٍ ولا يدلُّ على ضعف في التشخيص. إنّ النجومَ تضئ وتسطعُ والإنسان في ضوءها يكتشف الخير والشرَّ ويميّزُ بينهما. وإني قد بادرت إلى تسجيل هذه النقطة لأتجنب الإخلال بالتوازن في تحقيق الذات وطاقات المعدن الإنساني مع الاستضاءة بمصادر الضوء ومصابيحِ النور، كما سنتعرض له قريباً: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ).
فالعودة إلى القرآن الكريم، والاعترافُ به بوصفه أكبر وسيلة لتقويم سيرِ الإنسانِ على طريق (الصيرورة) و(التحقيق)، هي السبيل الوحيد للخروج من التيه والضلال، والوسيلة الفُضلى للتحرّر من التحيرّ والضياع. وعدم العمل على تكريس مرجعية القرآن الكريم تحتَ أيّ غطاء كان، سيؤدي إلى تغييبه وتحييده عن ساحة الحياة، وينتهي بنا إلى هجره والوقوعِ في ظلمات الفكر والممارسةِ، بعضها فوق بعضٍ متراكمةً. ( إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) وإلغاء فاعلية القرآن على ساحة الحياة وإسقاط مرجعيته لحسم ثنائية (السلوكِ) و(النظرية) هو مصداق وترجمةٌ لإتخاذه مهجوراً. والتفرّغُ لقراءته وتلاوته وترديدُ ألفاظه وترجيعُه بالصوت الحسن، وإن كان حسناً إلاّ أنّه لا يُحصّن الإنسانَ والمجتمعَ من خطر الوقوع في (الظلمات)، ولا يجنّب الإنسان ومجتمعه كارثةَ هجر القرآن الكريم.
3ـ مأساة عمليةِ (العلمنة) في التعامل مع القرآن الكريم وتحديد الدور له:
إنّ إعادة قراءة تاريخيةٍ لنزول القرآن الكريم طوال سنوات نزول الوحي، حسب ترتيب تنزيل الآيات وإعمال الدقة والوعي في درس علاقة الآيات القرآنية بالظروف الخارجية المحدقة والمحيطة بالنبيّ والمشهدِ الاجتماعيّ آنذاك، تبرهن من دون شكّ، على صلةٍ وطيدةٍ تربط القرآنَ بالواقع المتراكم فيه الحدثُ بكل أشكاله.
لم تنزلْ آياتُ اللّه على صوفيّ قد انزوى عن الناس وزهد في الاختلاط بهم وهَربَ من وسطِ (الحدث) وعمقِ الواقع! وإنما هي قد نزلت على حاكمٍ وقائد عسكرٍ ومجاهدٍ كما وهادٍ وزاهدٍ وربانيٍّ كان يتقلّب بين الناس وِفْقَ تقلّب الأحوال واختلاف الظروف. إنّ قراءة الأحداث المرافقة لنزول الآيات تثبت أنّها قد نزلت وسطَ الأحداث ولأجل حسمها وإنارة الطريق وإضاءةِ السبيل للقيادة السياسية، والروحية، والاجتماعية، والاقتصادية وذلك في احتكاك هائلٍ بين منهج إلهي حديث ينطوي على الخطوط العريضة للصيرورة الإنسانية والاجتماعية، وبين مناهجَ وأنظمةٍ إنسانيةٍ بحتةٍ، لا لسَحْقِها والشّطب عليها أو إلغائها وإنمّا لتصحيحها وتطهيرها من رواسب الجاهلية، وتأكيد الجانب الإنساني والعقلي فيها.
إنّ التصريحَ القرآني في تجسيد مهمةِ الوحي المتمثلة في إخراج الإنسان من الظلمات إلى النور، لا يقبل التأويل ولكنَّ الوعيَ التاريخي يُثبت نجاعة الاستهداء بالقرآن. وكلّ عملٍ يهدفُ إلى تجريد هداية الاجتماع الإسلامي سياسةً واقتصاداً وتربيةً و... من نور الوحي ويسعى إلى تحييد آيات اللّه من على طريق انطلاقة الأمّة الإنسانية، فهو من الطاغوت دون شك. ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ).
إنّ نظرةً عابرة إلى مجموعاتٍ متنوعة من الآيات الكريمة تُحدّدُ ملامحَ ومقوّمات (الهداية)، و(التبيين)، و(التزكية)، و (الإصلاح)، و(التنزيل)، و(الدعوة)، و(الذكر)، و(النور)، و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وآيات (الكتاب) تُثبتُ بقوةٍ أنَّ فلسفة نزول القرآن الكريم تتجاوز حدود علاقة فردية بين الإنسان وربّه، وتتعدى إطارات عمل الفرد، لتطالَ كافّةَ مجالاتِ السلوك والعقيدة في الحياة. وبذلك قد يُصبحُ من الفارغ وغير المستند إلى دليلٍ أن يحاولَ بعضٌ لإقصاء القرآن من مُعترك الحياة والحكم وتحييده، من خلال الاكتفاء بتقديسه وتبجيله ككتاب ثواب وطقوس!
وما تعيشه اليومَ المجتمعاتُ الإنسانيةُ وخصوصاً الأمةُ الإسلاميةُ من ضَنك في معيشتها، فإنّ اللّه تبارك وتعالى قد بيّن مسبقاً أنّ الإعراض عن ذكره تعالى يفرز حالة الضّيقِ الشديدِ، وأزمةً في كلّ مكان، وإنّ قيادات الأمّة ستجد الأبوابَ مغلقةً والطرقَ مسدودةً، هذا هو حقيقة الضنك.
والمحاولاتُ الفكريةُ الجاريةُ في بعض الأوساط النخبوية العربيةِ والإسلامية الرامية إلى تحديدٍ وتضييقٍ شديد لمدلول الآية الشريفة: (ونَزَّلنا عليكَ الكتاب تبياناً لِكلّ شيء) تمثّلُ عملية محاربة الذات، وتدميرَ الهوّية، وإلغاءَ أرقى بدائل الحضارة التي تمثلت في آيات اللّه الكريمة ومشاريعه المتناسقةِ والمتلائمة مع الفطرةِ الإنسانية ومخارجَ قطعيةٍ من الظلمات إلى النور. ومهما تغيرت غطاءات هذه المحاولات، وتبدّلت الخطابات فيها، وتنوّعت المواقع التي تموقعت فيها هذه الحركات الفكرية، فإن النتيجة ستَظَلُّ واحدةً والهدفَ سيبقى لديهم هو عَلمنةَ الفكرِ الديني والعمل على تقليص الدور للنّص الديني.
4ـ الثابت والمتحرّك في التعامل مع القرآن الكريم:
ولا ننكر هنا أنّه باسمِ الالتزامِ بالكتاب والسنّةِ أحياناً، قد تمّ تعطيلُ العقل وتجميد الإنسان وتقليصُ فاعلية طاقاته المكنونةِ فيه. كما لا يمكن إنكارُ أنّ هناك خلطاً واضحاً أيضاً لدى كثير من المنتمين إلى الفكر الديني بين ثوابت الدين ومتغيرات العصر، وبالتالي؛ وجود عجزٍ ملحوظٍ في إمكانية الموازنةِ والمناسبة بينهما. ويبدو لنا أنَّ المطلوبَ من الدارس القرآني والباحثِ الإسلامي هو أن يعملَ بجدّ لِرسمِ تفاصيل منهج التعامل مع القرآن وأساليبِ تكييف مضامينه مع الواقع المتحرّك، من دون أن يؤدي المنهج هذا إلى إلغاء الإنسان ولا إلى تقليص أو تجميد الوحي المُنزَلِ.
فإنّ الواقع الخطير الذي وَصلتْ إليه الأمةُ في تعاملها مع القرآن الكريم ليسَ من ذْنبِ العَلَمانيين العربِ والمسلمينَ؛ لأنّهم بدأوا يتحركونَ ويَنشطونَ من زمنٍ ليس ببعيد، بينما القرآن الكريم قد تمّ هجرُ جزء كبير منه وإقصاءُ عمدةِ آياته من الوسط المعني بالفكر الديني من عصور قديمة جداً . تفاسير قرآنية متماثلة طوالَ القرون الماضية، وضآلة العملِ القرآنيِّ مقارنةً مع العملِ الحديثي والسنّي، وضيقُ رُقعةِ التفسير التقليدي له، خيرُ دليلٍ على أنّ هناك جموداً وركوداً حقيقياً، قد عاشه البحث القرآنيُّ. وتفاقمت الأزمةُ واستفحلتِ الكارثةُ إلى درجة أنًّ أحدهم قال: لو لم يفتح طالبُ الفقهِ القرآنَ فإنّه بإمكانه الوصول إلى درجة الاجتهاد! (وهو في معرض النقدِ للواقع المألوف في بعض الأوساط الفقهية).
ومن غريب الأمر هو: عدمُ توافرِ الجرأة الكافية لدى بعضٍ منّا للقيام بعملية عَرضِ النصوص الدينية على محكمات الكتاب الكريم وإهمال حقيقة أنّ القرآن الكريم هو ينبوع الأصول والثوابت ومصدر المقاصد العامّة ومرجعية التقييم والتقويم.
إنّ معرفةَ الثابتِ والمتحرّك من جهة أخرى، تدعم إمكانيات المواءمة بين المدلول الديني حين الاحتكاكِ والتواجُهِ وتمنعُ حدوثَ أيّ مواجهةٍ ومعارضةٍ في ما بين العلم والدين من جهة والعقل والدينِ من جهة ثانية. وإنّ الجمود على النصّ غير القرآنيّ وعدمَ المحاولةِ لِفهمه ضِمنَ منظومةٍ من المفاهيم الدينيةِ الشاملةِ في القرآن الكريم، سيؤدي أيضاً إلى سعي فاشل من قِبل البعض لتكييف تفاصيلَ تاريخيةٍ متحركةٍ على أحوالٍ وظروفٍ متباينة أخرى، قد لا تقبلها. لأنّ المهمة الأصلية للنّص المعصوم تتمثّل في تقديم عيّنات منهجية في كيفية التطبيق والتكييف للنّص القرآني ومضمون الوحي مع الواقع الإنساني. وبالتالي فإنّ المحاولة لجعل النّص غير القرآني بديلاً وعوضاً عن القرآن الكريم، أو الاعتقاد بوجود سلطة حديثيةٍ على القرآن ورفض المرجعية القرآنية المطلقة، سيؤدي أيضاً إلى الضياع والضلالة وفوضوية مَعرِفية على صعيد المعاييرِ والموازين، وقد يُسفر عن تغييبِ الثوابتِ واشتدادِ الخلافات، وخصوبةِ الأرضية لنموّ التفرّق والتشرذم؛ بينما القرآن الكريم (لأنّ الغالب على نصّه متجرّد عن خصوصية الزمان والمكان وآياته تمثل ثوابت الدين الإلهي) هو حبل اللّه المتين، وعُروتُهُ الوثقى التي لا تنفصم أبداً، وهو سرّ الاجتماع والوحدة.
وهنا لا بد من إضافة نقطةٍ أخرى وهي: أنّ عمليةَ انتقال المرجعيةِ الفكرية الحاسمة من القرآن الكريم إلى السنّةِ قد تحقّقت بهدوء وتدرّج تاريخي وبفعل مقوّمات كثيرةٍ، وإن كان لبعض الأحداث والمنعطفات التاريخية في هذه العملية والتطور دور كبير ولافت لا يمكن التطرق له الآن حتماً.
إنّ المرجعيةَ الحديثيةَ على حساب مرجعية كتابِ اللّه (بدل أن تكون في طولها وفي ضوء تواجد كثيف له في كافة أجزاءِ الشريعة) قد تسَبّبت في إضعاف دائرة الثوابت ونطاقِ المقاصد، مما أحدث إشكالياتٍ كبيرةً معرفياً في التنظير السياسي والاجتماعي وفي عرض شامل لنظريات الدين.
والمطلب الأساس هو إعادة صياغةِ وتحديد الأدوار بين النّص القرآني وغيره من النصوص الدينية. وكذلك إعادة إرساء قواعد ومناهج التعامل مع الكتاب والسنة، وذلك في ضوء الواقع وللوصول إلى بديل حضاري يتكامل فيه العقل، والنقل، والعلم.