التَفسيرُ : نَشأتهُ وتطوّرهُ (5)
ابن عبّاس : هل كان يُراجعِ أهل الكتاب حقَّاً ؟ *
الشيخ محمّد هادي معرفة
هل كان ابن عبّاس يراجع أهل الكتاب في فهم معاني القرآن ؟
سؤال أُجيبَ عليه بصورتين :
إحداهما : مُبالغٌ فيها ، والأخرى : معتدلةٌ إلى حدٍّ ما.
كانت مراجعته لأهل الكتاب ـ كمراجعة سائر الأصحاب ـ في دائرة ضيّقة النطاق ، في أمور لم يتعرّض لها القرآن ، ولا جاءت في بيان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث لم تَعُد حاجة إلى معرفتها ، ولا فائدة كبيرة في العلم بها ، كعدد أصحاب الكهف ، أو البعض الذي ضرب به موسى من البقرة ، ومقدار سفينة نوح وما كان خشبها ، واسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ... ونحو ذلك مِمّا لا طريق إلى معرفة الصحيح منه ، فهذا يجوز أخذه من أهل الكتاب ، والتحدّث عنهم ولا حرج ، كما وردَ : ( حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج ) (1) المحمول على مثل هذه الأمور :
قال ابن تيميّة : وفي بعض الأحيان يُنقل عنهم (عن بعض الصحابة ، مثل : ابن مسعود ، وابن عبّاس ، وكثير من التابعين) ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث قال : ( بلّغوا عنّي ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ... ) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص ... ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين (2) من كتب أهل الكتاب ، فكان يُحدّث منها ، بما فَهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك ... ولكنّ هذه الأحاديث الإسرائيليّة إنّما تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، فإنّها من الأمور المسكوت عنها ، ولم نعلم صدقها ولا كذبها مِمّا بأيدينا ، فلا نؤمن به ولا نكذّبه ، وتجوز حكايته ، وغالب ذلك مِمّا لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ، وقد أبهمهُ الله في القرآن ، لا فائدة في تعيينه تعود على المكلّفين في دنياهم ولا دينهم (3) .
***
ووافقه على هذا الرأي الأستاذ الذهبي ، قال : كان ابن عبّاس يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم ، بحكم اتّفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أُجمِلت في القرآن وفُصّلت في كتب العهدين ، ولكن في دائرة محدودة ضيّقة ، تتّفق مع القرآن وتشهد له . أمّا ما عدا ذلك ، مِمّا يتنافى مع القرآن ولا يتّفق مع الشريعة ، فكان لا يقبله ولا يأخذ به !
قال : فابن عبّاس وغيره من الصحابة ، كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام فيما لا يمسّ العقيدة أو يتَّصل بأصول الدين وفروعه ، كبعض القصص والأخبار الماضية ...
قال : وبهذا المسلك يكون الصحابة قد جمعوا بين قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ( حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) وقوله : ( لا تُصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم ) ، فإنّ الأوّل محمول على ما وقعَ فيهم من الحوادث والأخبار ؛ لمَا فيها من العظة والاعتبار ، بدليل قوله بعد ذلك : ( فإنّه كان فيهم العجائب ) ، والثاني محمول على ما إذا كان المخبَر به من قِبَلهم محتملاً ، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه ... قال : كما أفاده ابن حجر ، ونبّه عليه الشافعي ... (4) .
* * *
وأمّا المستشرقون ، فقد ذهبوا في ذلك مذاهب بعيدة ، بالغوا فيها إلى حدّ ترفّضه شريعة النقد والتمحيص : يقول العلاّمة المستشرق (جولد تسيهر) :
( وترى الرواية الإسلاميّة أنّ ابن عبّاس تلقّى بنفسه ـ في اتصاله الوثيق بالرسول ـ وجوه التفسير التي يُوثَق بها وحدها (5) ، وقد أغفلت هذه الرواية بسهولة ـ كما في أحوال أخرى مشابهة ـ أنّ ابن عبّاس عند وفاة الرسول كان أقصى ما بلغَ من السِن 10 ـ 13 سنة ) .
( وأجدر من ذلك بالتصديق ، الأخبار التي تفيد أنّ ابن عبّاس كان لا يرى غضاضةً أن يرجع في الأحوال التي يُخامره فيها الشك ، إلى مَن يرجو عندهُ علمها ، وكثيراً ما ذُكر أنّه كان يرجع ـ كتابةً ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى مَن يُدعى ( أبا الجَلد ) ، والظاهر أنّه ( غيلان بن فروة الأزدي ) الذي كان يُثنى عليه بأنّه قَرأ الكتب ) (6) .
( وكثيراً ما نجد بين مصادر العلم المفضَّلة لدى ابن عبّاس ، اليهوديَّين اللذَين اعتنقا الإسلام : كعب الأخبار ، وعبد الله بن سلام ... كما نجد أهل الكتاب على وجه العموم ، أي رجالاً من طوائف وردَ التحذير من أخبارها ـ عدا ذلك ـ في أقوال تنسب إلى ابن عبّاس نفسه . ومن الحقّ أنّ اعتناقهم للإسلام قد سَما بهم على مظنّة الكذب ، ورفعهم إلى مرتبة مصادر العلم التي لا تثير ارتياباً ... ) (7) .
( ولم يَعُدّ ابن عبّاس أولئك الكتابيَّين الذَين دخلوا في الإسلام ، حُججاً فقط في الإسرائيليّات وأخبار الكتب السابقة ، التي ذكرَ كثيراً عنها الفوائد (8) ، بل كان يسأل أيضاً كعب الأحبار مثلاً عن التفسير الصحيح للتعبيرين القرآنيين : ( أُمُّ الْكِتَابِ ) (9) و( الْمَرْجَانُ ) ... ) (10) .
( كان يُفترض عند هؤلاء الأحبار اليهود ، فهمٌ أدقّ للمدارك الدينيّة العامّة الواردة في القرآن وفي أقوال الرسول ، وكان يرجع إلى أخيارهم في مثل هذه المسائل ، على الرغم من ضروب التحذير الصادرة من جوانب كثيرة فيهم ... (11) .
هذه هي عبارة (جولد تسيهر) البادي عليها غلوّهُ المُفرط بشأن مُسْلِمة اليهود ، ودورهم في التلاعب بمقدّرات المسلمين ! الأمر الذي لا يكاد يُصّدق في أجواء كانت السيطرة مع الصحابة النبهاء ، إنّما كان ذلك في عهد طغى سطو أُميّة على البلاد وقد أكثروا فيها الفساد ... على ما سننبّه ...
* * *
وقد تابعهُ على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين ... قال : ولم يتحرّج حتى كبار الصحابة ـ مثل ابن عبّاس ـ من أخذ قولهم . روى أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ( إذا حدّثكم أهل الكتاب ، فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم ) ! ولكنّ العمل كان على غير ذلك ، وإنّهم كانوا يصدِّقونهم وينقلون عنهم ! وإن شئتَ مثلاً لذلك ، فاقرأ ماحكاه وغيره عند تفسير قوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ) (البقرة :210) .
وعقّبه بقوله : وقد رأيتُ ابن عبّاس كان يجالس كعب الأحبار ويأخذ عنه ... (12) ، إشارةً إلى ما سبق من قوله : وأمّا كعب الأحبار أو كعب بن ماتع ، فيهودي من اليمن ، وأكبر مَن تسرّبت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين ، أسلمَ في خلافة أبي بكر أو عمر ، على خلافٍ في ذلك ، وانتقلَ بعد إسلامه إلى المدينة ثُمّ إلى الشام ، وقد أخذَ عنه اثنان ، هما أكبر مَن نشرَ علمهُ : ابن عبّاس ـ وهذا يعلّل ما في تفسيره من إسرائيليات ـ وأبو هريرة ... (13) .
* * *
نقدٌ وتمحيص :
وإنّا لنأسف كثيراً أن يغترّ كتّابنا النقّاد ـ أمثال : الأستاذ أحمد أمين ، والأستاذ الذهبي ـ بتخرُّصات لفّقتها أوهام مستوردة ، فلنترك المستشرقين في ريبهم يتردّدون ، ولكن مالنا ـ نحن معاشر المسلمين ـ أن نحذو حذوهم ونواكبهم في مسيرة الوهم والخيال ؟!
لا شكّ أنّ نُبهاء الصحابة ـ أمثال : ابن عبّاس ـ كانوا يتحاشون مراجعة أهل الكتاب ويستقذرون ما لديهم من أساطير وقصص وأوهام ... وإنّما تسرّبت الإسرائيليّات إلى حوزة الإسلام ، بعد انقضاء عهد الصحابة ، وعندما سيطر الحكم الأُموي على البلاد لغرض العيث في الأرض وشمول الفساد ؛ الأمر الذي أحوجهم إلى مراجعة الأنذال من مسلمة اليهود ومَن تَبعهم من سَفلة الأوغاد .
وسنذكر أنّ مبدأ نشر الإسرائيليّات بين المسلمين كان في هذا العهد المظلم بالخصوص ... حاشا الصحابة ، وحاشا ابن عبّاس بالذات ، أن يراجِع ذوي الأحقاد من اليهود ، ويترك الخُلّص من علماء الإسلام أمثال : الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وكان سفط العلم ولديه علم الأولين والآخرين ، علماً وَرثه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شمول وعموم !
وقد مرّ عليك أنّه كان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة ؛ بنيّة العثور على أطراف العلم الموروث من الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وقد سُئل : أنّى أدركتَ هذا العلم ؟ فقال : بلسانٍ سؤول ، وقلب عقول !(14) .
وإليك من تصريحات ابن عبّاس نفسه ، يُحذّر من مراجعة أهل الكتاب بالذات ، فكيف يا ترى ينهى عن شيء ثُمّ يرتكبه ؟!
التحذيرُ عن مراجعة أهل الكتاب :
أخرجَ البخاري إسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عبّاس ، قال :
(يا معشر المسلمين ، كيف تسألون أهل الكتاب ، وكتابكم الذي أُنزِل على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحدثَ الأخبار بالله ، تقرأونه لم يُشَب (15) ، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتبَ الله وغيّروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم . لا ـ والله ـ ما رأينا منهم رجلاً قطّ يسألكم عن الذي عليكم !) (16) .
وأخرجَ عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب (17) يقرأون التوراة بالعبرانيّة ويفسّرونها بالعربيّة لأهل الإسلام ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ( لا تُصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم ، و ( قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ) ( وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ) ... ) (18).
وأخرجَ عبد الرزاق من طريق حريث بن ظهير ، قال : قال عبد الله بن عبّاس : ( لا تسألوا أهل الكتاب ؛ فإنّهم لن يهدوكم وقد أضلّوا أنفسهم ، فتكذِّبوا بحق أو تصدّقوا بباطل ... ) (19) .
وهذا الحديث أوضح من كلام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عدم تصديقهم ولا تكذيبهم ؛ لأنّهم كانوا يخلطون الحق بالباطل ، فلا يمكن تصديقهم ؛ لأنّه ربّما كان تصديقاً لباطل ، ولا تكذيبهم ؛ لأنّه ربّما كان تكذيباً لحق ... فالمعنى : أن لا يُعتبر من كلامهم شيء ولا يترتَّب على ما يقولونه شيء ! فلا حجيّة لكلامهم ولا اعتبار لأقوالهم على الإطلاق ... إذن ، فلا ينبغي مراجعتهم ولا الأخذ عنهم في وجهٍ من الوجوه !
وأخرجَ : أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبزّار من حديث جابر : أنّ عمر أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ... فغضبَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال : ( لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة ، لا تسألوهم عن شيء ، فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به ، أو بباطل فتصدِّقوا به . والذي نفسي بيده ، لو أنّ موسى كان حيّاً ، ما وسعهُ إلاّ أن يتّبعني ... ) ، وفي رواية أخرى : ( ... لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ... )(20) .
تلك مناهي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصريحة في المنع عن مراجعة أهل الكتاب إطلاقاً ، لا في كبيرة ولا صغيرة ، فهل يا ترى أحداً من صحابته الأخيار ، خالفَ أوامره وراجعهم في شيء من مسائل الدين والقرآن ؟! كما حسبهُ الأستاذ أحمد أمين : زعمَ أنّ العمل كان على ذلك ، وإنّهم كانوا يُصدّقون أهل الكتاب وينقلون عنهم !!(21) .
وأمّا الذي استشهدوا به على مراجعة مثل ابن عبّاس لليهود ، فكلّه باطل وزور ، لم يثبت منه شيء : أمّا الذي جاء به الأستاذ مثلاً من قوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ) (البقرة : 210) ، قال : فاقرأ ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير الآية ... .
فقد راجعنا تفسير الطبري ، والدر المنثور ، وابن كثير وغيرها من أمّهات كتب التفسير بالنقل المأثور (22) ، فلم نجد فيها ذكراً لكعب ومسائلته من قِبَل أحد من الأصحاب أو غيرهم من التابعين أيضاً ... ولم ندرِ من أين أخذ الأستاذ هذا المثال ، ومَن الذي عرّفه ذلك ، فأوقعهُ في هذا الوهم الفاضح ؟!
وأمّا قوله : كان ابن عبّاس يجالس كعب الأحبار ، وكان أكثر مَن نشرَ علمه .. (23) ! فكلام أشدُّ وهماً وأكثر جفاءً على مثل ابن عبّاس الصحابي الجليل !
إذ لم نجد ولا رواية واحدة تتضمّن نقلاً لابن عبّاس عن أحد من اليهود ، فضلاً عن مثل كعب الأحبار الساقط الشخصيّة! (24) .
نعم ، أشار المستشرق جولد تسيهر إلى موارد ، زعمَ فيها مراجعة ابن عبّاس لأهل الكتاب ، ولعلّها كانت مستند الأستاذ أحمد أمين تقليداً من غير تحقيق ، ولكنّا راجعنا تلك الموارد ، فلم نجدها شيئاً كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً ! :
منها : أنّ ابن عبّاس سألَ كعب الأحبار عن تفسير تعبيرين قرآنيّين : أُمّ الكتاب ، والمَرجان ... (25) .
غير أنّ الطبري روى بإسناده إلى حسّان بن مخارق ، عن عبد الله بن الحرث ، أنّه هو الذي سألَ كعباً عن ذلك ، قال : قلت لكعب الأحبار : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) أمَا يشغلهم رسالة أو عمل ؟ قال : يا ابن أخي ، إنّهم جُعل لهم التسبيح كما جُعل لكم النَفَس ، ألستَ تأكل وتشرب وتقوم وتقعد وتجئ وتذهب وأنت تتنفّس ؟ قلت : بلى ! قال : فكذلك جُعل لهم التسبيح ... (26) .
قلت : يا ترى ، هل كان هو الذي سألَ كعباً أو أنّه سمعَ ابن عبّاس يسأل كعباً ؟ في حين أنّه لا يقول : سمعتُ ابن عبّاس يسأله ، بل مجرّد : أنّ ابن عبّاس سألهُ... الأمر الذي لا يوثّق بكون الرواية منتهية إلى سماع ، والظاهر أنّه إرسال ...
على أنّه من المحتمل القريب : أنّ السائل هو بالذات ، لكنّ ابنه إسحاق كره نسبة السؤال من مثل كعب إلى أبيه ، فذكرَ الحديث عن أبيه ـ مع إقحام واسطة ـ إرسالاً من غير إسناد!
ويؤيّد ذلك : أنّه لم تأتِ رواية غير هذه تنسب إلى ابن عبّاس أنّه سألَ مثل كعب ... ! فالأرجح في النظر أنّه مُفتعل عليه لا محالة !
* * *
واستند جولد تسيهر ـ في مراجعة ابن عبّاس لأهل الكتاب ـ أيضاً إلى ما رواه الطبري بإسناده إلى أبي جهضم موسى بن سالم مولى بن عبّاس ، قال : كتبَ ابن عبّاس إلى أبي جلد ( غيلان بن فروة الأزدي ، كان قرأ الكتب ، وكان يختم القرآن كلّ سبعة أيّام ، ويختم التوراة كلّ ثمانية أيام ) (27) يسأله عن (البرق) في قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) (الرعد : 13) ... فقال : البرق : الماء ! (28)
لكن في طبقات ابن سعد (29) : أنّ أبا الجلد الجَوني ـ حيّ من الأزد ـ اسمه جيلان بن فروة ، كان يقرأ الكتب ، وزَعمت ابنته ميمونة أنّ أباها كان يقرأ القرآن في كلّ سبعة أيّام ، ويختم التوراة في ستّة ، يقرأها نظراً ، فإذا كان يوم يختمها حُشد لذلك ناس!
لا شكّ أنّها مُغالاة من ابنته ، يقول جولد تسيهر : ولا يتّضح حقّا من هذا الخبر الغامض ، الذي زادته مُغالاة ابنته غموضاً ، أيّ نسخة من التوراة كان يستخدمها في دراسته (30) .
لأنّ التوراة المعهودة اليوم ـ وهي تشتمل على 39 كتاباً ـ تكون في حجم كبير ، ثُمّ هي قصّة حياة إسرائيل طول عشرين قرناً ، وفيها تاريخ حياة أنبياء بني إسرائيل (ملوكهم ورجالاتهم وحروبهم طول التاريخ ، وهي بكتب التاريخ أشبه منها بكتب الوحي ... فهل كان يقرأ ذلك كلّه في ستة أيّام ، وما هي الفائدة في ذلك التكرار ؟!
على أنّ راوي الخبر ، وهو موسى بن سالم أبو جهضم ، لم يلقَ ابن عبّاس ولا أدركه ؛ لأنّه مولى آل العبّاس ، وليس مولىً لابن عبّاس ، ففي نسخة الطبري المطبوعة خطأ قطعاً ، قال ابن حجر :
موسى بن سالم أبو جهضم مولى آل العبّاس ، أرسلَ عن ابن عبّاس ، وهو من رواه الإمام أبي جعفر بن علي الباقر (عليهما السلام) ...(31) .
وفي الخلاصة : موسى بن سالم مولى العبّاسيين أبو جهضم عن أبي جعفر الباقر ، وعنه الحمّادان (32) . ، والإمام الباقر توفّى سنة 114.
وأخيراً ... فإنّ الموارد التي ذكروا مراجعته ابن عبّاس فيها لأهل الكتاب ، لا تعدو معاني لغويّة بحتة ، لا تمسّ قضايا سالفة عن أُمم خَلت كما زعموا .. ولاسيّما السؤال عن البرق ، وهو لفظ عربي خالص ، لا موجب للرجوع فيه إلى رجال أجانب عن اللغة .. كيف يا ترى يرجع مثل ابن عبّاس ـ وهو عربي صميم وعارف بمواضع لغته أكثر من غيره ـ إلى اليهود الأجانب ؟! وهل يخفى على مثله ما للفظ البرق من مفهوم ؟! ثُمّ كيف اقتنعَ بتفسيره بالماء ؟! اللهمّ إنّ هذا إلاّ اختلاق!
الأمر الذي يقضي بالعجب ، كيف يحكم هذا العلاّمة المستشرق حكمه الباتّ ، بأنّ كثيراً ما ذُكر أنّه كان يَرجع ـ كتابةً ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى مَن يُدعى أبا الجلد ؟! (33) ويجعل مستنده هذه المراجعة المفتعلة قطعاً ، إذ كيف يعقل أن يراجِع مثله في مثل هذه المعاني ؟!
***
وأسخف من الجميع تبرير ما نُسب إلى ابن عبّاس من أقاصيص أسطوريّة جاءت عنه ، بأنّه من جرّاء رجوعه إلى أهل الكتاب في هكذا أمور بعيدة عن صميم الدين .
قال الأستاذ أمين : وهذا يُعلّل ما في تفسيره من إسرائيليّات .. قال ذلك بعد قوله : وكان ابن عبّاس ، وأبو هريرة ، أكبر مَن نشرَ علم كعب الأحبار ! (34) .
وقال الدكتور مصطفى الصاوي : وكثيراً ما ترد عن ابن عبّاس روايات في بدء الخليقة وقصص القرآن ، مِمّا لا يمكن أن يكون قد رجعَ فيه إلاّ إلى أهل الكتاب ، حيث يرد هذا القصص مفصّلاً ... مثال هذا تفسيره للآية : ( قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ) (35) ، قال : لكنّه حين يرجع إليهم مستفسراً ، فإنّما يرجع رجوع العالِم الذي يُعير سمعه لِمَا يقال ، ثُمّ يُعمِل فكره وعقله فيما يسمع ، ثُمّ يُنخله مبعداً عند الزيف .. (36) .
قلت : إن كانت فيما روى عنه في ذلك وأمثاله غرابة أو إضافة ، فإنّ العتب إنّما يرجع إلى الذي نسبه إلى ابن عبّاس ؛ ترويجاً لأكذوبته ، ولا لوم على ابن عبّاس في كثرة الوضع عليه .. نعم ، ولعلّ هذه الكثرة في الوضع عليه آيةً على تقدير له وإكبار من الوضّاع ، لكنّه في نفس الوقت ، رغبةً منهم في أن تُنفق بضاعتهم ، موسومة بمَن في اسمه الرواج العلمي ... وقد اعترفَ بذلك الدكتور الصاوي .. (37) فلماذا حكمَ عليه حكمه ذلك القاسي ؟!
* * *
فالصحيح : إنّ ابن عبّاس كان في غنى عن مراجعة أهل الكتاب ، وعنده الرصيد الأوفى من العلوم والمعارف والتاريخ واللغة ، ولا سيّما في مثل تلكُم الأساطير التي كانت كلّ ما يملكه اليهود من بضاعة مُزجاة كاسدة ، بل إنّ موقف ابن عبّاس من أهل الكتاب عموماً ، ومن كعب الأحبار خصوصاً ، ما يُصوّره معتزّاً بدينه كريماً على نفسه وثقافته :
يُروى أنّ رجلاً أتى ابن عبّاس يبلغه زعم كعب الأحبار : أنّه يُجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيُقذفان في النار ! فغضبَ ابن عبّاس وقال : كذبَ كعب الأحبار ، كذب كعب الأحبار ، كذب كعب الأحبار ... بل هذه يهوديّة يريد إدخالها في الإسلام (38) .
يقال : لمّا بلغَ ذلك كعباً ، اعتذرَ له بعد وتعلّل .. (39) .
وربّما كان كعب يجالس ابن عبّاس يحاول مراودته العلم فيما زعم ، فكان ابن عبّاس يجابهه بما يحطّ من قيمته .. روي أنّه ذُكر الظلم في مجلس ابن عبّاس ، فقال كعب : إنّي لا أجدُ في كتاب الله المُنزل (يريد التوارة) (40) أنّ الظلم يخرّب الديار ! فقال ابن عبّاس : أنا أجده في القرآن ، قال الله عزَّ وجلَّ : ( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ) ( النمل : 52 ) (41) .
هذه حقيقة موقف ابن عبّاس من اليهود كما ترى ، وهو إذ كان يدعو إلى تجنّب الرجوع إلى أهل الكتاب ؛ لمَا يدخل بسبب ذلك من فساد على العقول وتشويه على العامّة ، فكيف يا ترى أنّه كان يرجع إليهم رغمَ نهيه وتحذيره ، وهلاّ طرقَ سمعه ، وهو الحافظ لكلام الله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ( الصف : 3 ) ، فحاشا ابن عبّاس أن يراجع أهل الكتاب ، وحاشاه حاشاه !!
ـــــــــــــــــــــــ
* المصدر : مجلَّة " رسالة القران " ( نشرة فصلية تُعنى بالشؤون القرآنية ) ، دار القرآن ـ قم ، ع 11 ( رجب ـ شعبان ـ رمضان ) ، 1413 هـ ، ص 37 ـ 46 .
1 ـ مسند أحمد : ج2 ، ص159 و202 و214 عن عبد الله بن عمرو بن العاص . وص 474 و502 عن أبي هريرة . وج3 و13 و46 و56 عن أبى سعيد الخدري .
2 ـ أي ملفّتين ، من زمّل الشيء بثوبه أو في ثوبه : لفّه.
3 ـ راجع مقدّمته في أصول التفسير : ص11 و45 ـ 47.
4 ـ التفسير والمفسّرون : ج1 ص70 ـ 71 و73 و170 ـ 173. وراجع : فتح الباري لابن حجر ، ج8 ص129 وج13 ص282.
5 ـ هنا يُعلّق المترجم الدكتور عبد الحليم النجّار ، يقول : وأين الرواية التي يزعمها ، وما قيمتها في نظر رجال النقد ؟ (مذاهب التفسير الإسلامي ، ص83).
والصحيح ـ كما أسلفنا ـ أنّ ابن عبّاس أخذَ تفسيره من الصحابة ولا سيّما من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، فهو إنّما أخذَ التفسير من الرسول بواسطة أصحابه الأخيار.
6 ـ يقول فيه العسكري في كتاب التصحيف والتحريف : هو صاحب كتاب وجمّاع لأخبار الملاحم (مذاهب التفسير ص85 ، الهامش رقم 3).
7 ـ سترى أنّ الأمر كان بالعكس ، كان هؤلاء موضع ارتياب المسلمين عامّة ، سوى أهل المطامع أمثال : معاوية ، وابن العاص ومَن على شاكلتهما!
8 ـ مثلَ ما أخرجه ابن سعد في الطبقات : (ج1 ق2 ص87) بإسناده إلى ابن عبّاس ، أنّه سألَ كعب الأحبار عن صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في التوراة والإنجيل !
وكذا ما أسندهُ إلى مولى عمر بن الخطاب أنّ كعباً أخبر بموته قبل ثلاثة أيام ، إذ وجدَ ذلك مكتوباً عندهم في التوراة.! (الطبقات : ج3 ق2 ص240).
9 ـ من سورة الرعد 13 : 39. راجع : الطبري : ج13 ص 115.
10 ـ من سورة الرحمان 55 : 22. راجع : الطبري : ج27 ص 76 ـ 77.
11 ـ مذاهب التفسير الإسلامي : ص84 ـ 88.
12 ـ فجر الإسلام : ص201.
13 ـ المصدر : ص160.
14 ـ التصحيف والتحريف للصاحبي : ص 3.
15 ـ جاء في موضع آخر : (كتابكم الذي أُنزلَ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحدث ، تقرأونه محضاً لم يُشَب...). قوله : لم يُشَب ، أي لم يخلطه شيء من غير القرآن ، تعريضاًُ بكتب العهدين التي دُسّ فيها ما ينبو عن كونه وحياً!
16 ـ جامع البخاري : ج9 ص136 باب قول النبي : ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ) . وج3 ص237، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها ، واللفظ على الأخير.
17 ـ ويعني بهم اليهود بالذات ، صرّح بذلك ابن حجر في الشرح : ج3 ص282.
18 ـ جامع البخاري : ج9 ص136.
19 ـ فتح الباري شرح البخاري : ج13 ص281.
20 ـ فتح الباري : ج13 ص281.
21 ـ نقلنا كلامه آنفاً ، راجع : فجر الإسلام ، ص 201.
22 ـ راجع : جامع البيان للطبري ، ج2 ص190 ـ 192. والدر المنثور للسيوطي ، ج1 ص 241 ـ 242 ، تفسير ابن كثير ، ج1 ص 248 ـ 249.
23 ـ فجر الإسلام ، ص 160.
24 ـ سوف ننبّه أنّ كعب الأحبار كان من صنايع معاوية ، صنعهُ لنفسه لغرض الحطّ من كرامة الإسلام .
25 ـ مذاهب التفسير الإسلامي ، ص88.
26 ـ تفسير الطبري ، ج17 ص10.
27 ـ مذاهب التفسير الإسلامي ، ص85.
28 ـ [ متن هذا الهامش وترقيمه في تسلسل الهوامش مفقود من المصدر ـ شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) ]
29 ـ ج7 ق1 ص161 س15.
30 ـ مذاهب التفسير الإسلامي ، ص 86.
31 ـ تهذيب التهذيب ، ج10 ص344.
32 ـ خلاصة التهذيب ، ص390.
33 ـ مذاهب التفسير الإسلامي ، ص85.
34 ـ فجر الإسلام ، ص160.
35 ـ البقرة 2 : 30 ، راجع : الطبري ، ج1 ص158.
36 ـ مناهج في التفسير ، ص38.
37 ـ [متن هذا الهامش مفقود من المصدر ـ شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام )]
38 ـ العرائس للثعالبي ، ص18. (مناهج في التفسير ، ص39).
39 ـ المصدر ، ص24.
40 ـ حسب التصريح به في الرواية : كتاب الله المنزل يعني التوراة (راجع ابن قتيبة في : عيون الأخبار ، ج1 ص 146 س13).
41 ـ عيون الأخبار لابن قتيبة ، ج1 ص26 (مناهج ص39).