هناك قول في وجه الإعجاز ـ لعلّه يخالف رأي الجمهور ـ هو : أنّ الآية والمعجزة في القرآن إنّما هي لجهة صَرف الناس عن معارضته ، صَرفَهم الله تعالى أن يأتوا بحديث مثله ، وأمسك بعزيمتهم دون القيام بمقابلته ، ولولا ذلك لاستطاعوا الإتيان بسورة مثله ، وهذا التثبيط في نفسه إعجاز خارق للعادة ، وآية دالّة على صدق نبوّته ( صلّى الله عليه وآله ) .
وهذا المذهب فضلاً عن مخالفته لآراء جمهور العلماء ، فإنّه خطير في نفسه ، قد يُوجب طعناً في الدين والتشنيع بمعجزة سيد المرسلين ( صلّى الله عليه وآله ) الطاهرين : أن لا آية في جوهر القرآن ولا معجزة في ذاته ، وإنّما هو لأمر خارج هو الجبر وسلب الاختيار ، وهو ينافي الاختيار الذي هو غاية التشريع والتكليف ، وغير ذلك من التوالي الفاسدة (1) ؛ الأمر الذي استدعى تفصيل الكلام حوله والتحقيق عن جوانبه .
حقيقة مذهب الصرف :
الصَّرف : مصدر ( صرفه ) بمعنى ردّه ، والأكثر استعماله في ردّ العزيمة ، قال تعالى : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ ) (2) .
قال السيّد شبّر : أي عن إبطال دلائلي ، ومعناه ـ كما ذكره الطبرسي في المجمع ـ : سأفسخ عزائمهم على إبطال حججي بالقدح فيها وإمكان تكذيبها ؛ وذلك بوفرة الدلائل الواضحة والتأييد الكثير ، بما لا يدع مجالاً لتشكيك المعاندين ولا ارتياب المرتابين ، كما يقال : فلان أخرسَ أعداءه عن إمكان ذمّه والطعن فيه ، بما تحلّى به من أفعاله الحميدة وأخلاقه الكريمة .
ومنه قوله تعالى ـ بشأن المنافقين ـ : ( ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ) (3) ، وهذا دعاء عليهم بصَرف قلوبهم عن إرادة الخير ؛ لكونهم قوماً حاولوا التعمية على أنفسهم فضلاً عن الآخرين ..
وعلى ذلك فقد اختلفت الأنظار في تفسير مذهب الصَرف على ما أراده أصحابه ، قال الأمير يحيى بن حمزة العلوي الزيدي ( توفّي سنة 749 هـ ) : واعلم أنّ قول أهل الصِّرْفَة يمكن أن يكون له تفسيرات ثلاثة ؛ لِما فيه من الإجمال وكثرة الاحتمال :
التفسير الأوّل : أن يُريدوا بالصرفة أنّ الله تعالى سلب دواعيهم إلى المعارضة ، مع أنّ أسباب توفّر الدواعي في حقّهم حاصلة : من التقريع بالعجز ، والاستنزال عن المراتب العالية ، والتكليف بالانقياد والخضوع ، ومخالفة الأهواء .
التفسير الثاني : أن يريدوا بالصرفة أنّ الله تعالى سلبهم العلوم التي لا بدّ منها في الإتيان بما يشاكل القرآن ويقاربه .
ثمّ أنّ سلب العلوم يمكن تنزيله على وجهين :
أحدهما أن يقال : إنّ تلك العلوم كانت حاصلة لهم على جهة الاستمرار ، لكنَّ الله تعالى أزالها عن أفئدتهم ومحاها عنهم .
وثانيهما أن يقال : إنّ تلك العلوم ما كانت حاصلةً لهم : خلا أنّ الله تعالى صرف دواعيهم عن تجديدها مخافةَ أن تحصل المعارضة .
التفسير الثالث : أن يراد بالصرفة أنَّ الله تعالى منعهم بالإلجاء على جهة القسر عن المعارضة مع كونهم قادرين ، وسلب قُواهم عن ذلك ؛ فلأجل هذا لم تحصل من جهتهم المعارضة ، وحاصل الأمر في هذه المقالة : أنّهم قادرون على إيجاد المعارضة للقرآن ، إلاّ أنّ الله تعالى منعهم بما ذكرناه ... (4) .
وحاصل الفرق بين هذه التفاسير الثلاثة ، أنّ الصرف على الأَوّل : عبارة عن عدم إثارة الدواعي الباعثة على المعارضة . كانوا مع القدرة عليها ، ووفرة الدواعي إليها ، خائري القُوى وخاملي العزائم عن القيام بها ، وهذا التثبيط من عزائمهم وصرف إراداتهم كان من لطيف صنعه تعالى ؛ ليُظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون .
وعلى التفسير الثاني : كانوا قد أعوزتهم عمدة الوسائل المُحتاج إليها في معارضة مثل القرآن ، وهي العلوم والمعارف المشتمل عليها آياته الحكيمة ، حتّى إنّهم لو كانت عندهم شيء منها فقد أُزيلت عنهم ومُحيت آثارها عن قلوبهم ، أَو لَم تكن عندهم ولكنّهم صُرفوا عن تحصيلها من جديد خشيةَ أن تقوم قائمتهم بالمعارضة .
وعلى الثالث : أنّ الدواعي كانت متوفّرة ، والأسباب والوسائل المحتاج إليها للمعارضة كانت حاضرةً لديهم ، لكنّهم مُنعوا عن القيام بالمعارضة منع إلجاءٍ ، وقد أمسك الله بعنان عزيمتهم قهراً عليهم رغم الأُنوف .
قلت : والمعقول من هذه التفاسير ـ نظراً لموقع أصحاب هذا الرأي من الفضيلة والكمال ـ هو التفسير الوسط ، لكن بمعنى أنّهم افتقدوا وسائل المعارضة لقصورهم بالذات من جانب ، وشموخ موضع القرآن من جانب آخر .. ومن المحتمل القريب إرادة هذا المعنى ، حسبما جاء في عرض كلامهم ولا سيّما في كلام الشريف المرتضى ما ينبّه عليه .
وهكذا رجّح ابن ميثم البحراني ( توفّي سنة 699 هـ ) إرادة هذا المعنى من كلام السيّد ، قال : وذهب المرتضى ( رحمه الله ) إلى أنّ الله تعالى صرف العرب عن معارضته ، وهذا الصرف يُحتمل أن يكون لسلب قُدَرهم ، ويُحتمل أن يكون لسلب دواعيهم ، ويُحتمل أن يكون لسلب العلوم التي يتمكّنون بها من المعارضة ، نقل عنه أنّه اختار هذا الاحتمال الأخير (5) ؟
وقد تنظّر سعد الدين التفتازاني ( توفّي سنة 793 هـ ) في صحّة التفاسير الثلاثة جميعاً ، قال : الصرفة إمّا بسلب قدرتهم ، أو بسلب دواعيهم ، أو بسلب العلوم التي لابدّ منها في الإتيان بمثل القرآن ، بمعنى أنّها لم تكن حاصلةً لهم ، أو بمعنى أنّها كانت حاصلةً فأزالها الله .
قال : وهذا ( الأخير الذي هو أوسط التفاسير ) هو المختار عند المرتضى ، وتحقيقه أنّه كان عنده العلم بنظم القرآن والعلم بأنّه كيف يؤلّف كلام يساويه أو يدانيه ، والمعتاد أنّ مَن كان عنده هذان العِلمان يتمكّن من الإتيان بالمثل ، إلاَّ أنّهم كلّما حاولوا ذلك أزال الله تعالى عن قلوبهم تلك العلوم ، وفيه نظر ... (6) .
قال عبد الحكيم السيالكوتي الهروي ـ في تعليقته على شرح المواقف بعد نقل كلام التفتازاني هذا ـ : لعلّ وجه النظر استبعاد بعض الأقسام ، أو كون سلب القدرة عبارة عن سلب العلوم (7) .
وعلى أيّ حال ، فالأجدر هو النظر في تفاصيل مقالاتهم ، ماذا يريدون ؟
... وفي مقالات الإسلاميّين لأبي الحسن الأشعري ( توفّي سنة 330 هـ ) تصريح بأنّه المعنى الثالث ، وهو المنع بالإلجاء والقهر ، قال : وقال النظّام : الآية والأُعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب . فأمّا التأليف والنظم ، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع وعَجز أحدثهما فيهم (8) .
وأمّا عبد الكريم الشهرستاني ، فقد خلط بين المعنى الأَوّل والأخير ، قال : التاسعة : قوله في إعجاز القرآن ، أنّه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ، ومنع العرب عن الاهتمام به جبراً وتعجيزاً . حتّى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغةً وفصاحةً ونظماً (9) .
غير أنّ الأرجح في النظر هو ما ذكره القاضي عضد الإيجي والسيّد شريف الجرجاني في تفسير مذهبه ، فقد فصَّلا رأيه عن رأي الشريف المرتضى القائل بسلب العلوم ، والتفصيل قاطع للشركة على ما قيل .
ويتأيّد هذا المعنى أيضاً بما جاء في عرض كلام تلميذه المتأثّر برأيه أبي عثمان الجاحظ (10) ، قال : ورفع الله من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن ... (11) .
مذهب الشريف المرتضى :
المعروف من مذهب الشريف المرتضى ( المتوفّى سنة 436 هـ ) في الإعجاز هو القول بالصِّرفة ، نسبه إليه كلّ من كَتب في هذا الشأن ، قولاً واحداً ، وكذا شيخه أبو عبد الله المفيد ( المتوفّى سنة 413 هـ ) في أحد قوليه (12) ، وتلميذه أبو جعفر الطوسي ( المتوفّى سنة 460 هـ ) في كتابه ( تمهيد الأُصول ) ، الذي وضعه شرحاً على القسم النظري من رسالة ( جمل العلم والعمل ) تصنيف المرتضى ، لكنَّه رجع عنه في كتابه ( الاقتصاد بتحقيق مباني الاعتقاد ) ، كَتَبَه متأخّراً ، واعتذر عنه تأييده للسيّد في شرح الجمل باحتشام رأي شيخه عند شرح كلامه ، قال : كنت نصرتُ في شرح الجمل ( تمهيد الأُصول ) القول بالصِّرفة ، على ما كان يذهب إليه المرتضى ( رحمه الله ) ، حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه (13) .
وأمّا تلميذه الآخر ، أبو الصلاح تقيّ الدين الحلبي ( المتوفى سنة 447 هـ ) فقد سار على منهج الأستاذ وارتضاه وجعله الأوجه من وجوه إعجاز القرآن ، واستدلّ بما يكون تلخيصاً لدلائل السيّد ، ولم يزد عليه (14) .
ويبدو من كلام السيد ـ وفيما نُقل عنه الشيخ وغيره (15) ـ أنّه أراد المعنى الوسط من التفاسير المتقدّمة عن صاحب الطراز ، وهو : أنّ العرب سُلبوا العلوم التي يحتاج إليها في معارضة مثل القرآن ، فخامةً وضخامةً ، في وجازة اللفظة وظرافته ، في سمّو معناه ورفعته ... من أين كانت العرب تأتي بمثل معانيه حتّى ولو فرض قدرتها على صياغة مثل لفظه ولو يسيراً ؟!
ومعنى السلب : عدم المنح ، على ما سبق في تفسير الآية الكريمة : ( ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ) (16) وكذا قوله تعالى : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ ) (17) أي أنّهم لفرط جهلهم وصمودهم في رفض الحقّ ، حُرموا من فيضه تعالى فلم يَحظوا ببركات رحمته : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (18) وذلك هو الخذلان والحرمان المقيت .
قال الطبرسي : ( سَلب قدرتهم على التكذيب ، بمعنى توفير الدلائل والبراهين القاطعة بحيث لا تدع مجالاً للشك فضلاً عن الردّ وإمكان التكذيب ) ، ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) (19) .
فقد توفّرت المعاني الضخمة وازدحمت المعارف الجليلة بين أحضان القرآن الكريم ، بما بهر العقول وطار بالألباب ، الأمر الذي سلب قدرة المعارضة عن أيّ معارض متى رامها ، ولم يدع مجالاً للتفكير في مقابلته لأيّ صنديد عنيد ، مادام هذا الكتاب العزيز قد شمخ بأنفه على كلّ مستكبر جبّار عارض طريقه إلى الإمام !!
فلعلّ الشريف المرتضى أراد هذا المعنى ، وأنّ اللفظ مهما جلّ نظمه وعزّ سبكه ، فإنّه لا يبلغ مرتبة المعنى في جلاله وكبريائه ، والتحدّي إنّما وقع بهذا الأهمّ الأَشمل ، قال : فإن قال : الصرف عمّاذا وقع ؟ قلنا : عن أن يأتوا بكلام يساوي أو يقارب القرآن في فصاحته وطريقة نظمه ، بأن سَلَب كلّ مَن رام المعارضة العلومَ التي تتأتّى بها مِن ذلك ، فإنّ العلوم التي بها يُتمكّن من ذلك ضرورةً مِن فعله تعالى بمجرى العادة (20) .
تأمّل هذه العبارة وأَمعن النظر فيها تجدها صريحة تقريباً في إرادة القدرة العلمية ، التي هي حكمة إلهية يهبها لمَن يشاء من عباده ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً ) (21) ، فهؤلاء حُرموها ؛ مغبّة لجاجهم وعنادهم مع الحقّ .
وهكذا فهم الأُستاذ الرافعي تفسير مذهب السيّد في الصرفة ، قال : وقال المرتضى من الشيعة : بل معنى الصرفة أنّ الله سلبهم العلوم ... التي يُحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن ... فكأنّه يقول : إنّهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب ، ولا يستطيعون ما وراء ذلك ممّا لبسته ألفاظ القرآن من المعاني ؛ إذ لم يكونوا أهل علم ولا كان العلم في زمنهم (22) .
ومن قبلُ قال التفتازاني : أو بسلب العلوم التي لابدّ منها في الإتيان بمثل القرآن ، بمعنى أنّها لم تكن حاصلةً لهم ، أو بمعنى أنّها كانت حاصلةً فأزالها الله ، قال : وهذا ( سلب العلوم ) هو المختار عند المرتضى (23) .
قلت : ظاهر قول المرتضى هو الشقّ الأوّل من المعنيينِ : ( أنّها لم تكن حاصلة لهم ) .
وللأستاذ توفيق الفكيكي البغدادي محاولة مشكورة بشأن الدفاع عن موقف السيّد في مذهب الصرفة ، إذ استبعد أن يأخذ مثل الشريف المرتضى ـ وهو عَلَم الهدى ـ موضعاً يبتعد عن موضع الشيعة الإمامية وإجماع محقّقيهم وهو رأسهم وسيّدهم ، وكذا شيخه أبو عبد الله المفيد الذي هو أستاذ الكلّ ومفخر المتكلّمين .
قال : إنّ أقوال أئمّة الإمامية المعتمدة المعتبرة لا تختلف عن كلام أهل التحقيق من أساطين العلم وزعماء البيان في حقيقة الإعجاز ، حتّى لقد اشتهر قولهم : ( القول بالصدفة كالقول بالصرفة ) في الامتناع ، كما نبّه عليه العلاّمة الحجة الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء (24) .
قال : فنسبة القول بالصرفة ـ بمعناها الباطل ـ إلى العلاّمة الجليل ( المفيد ) والى تلميذه ( الشريف المرتضى ) ، لا يحتملها النظر الصحيح بعد كون هذا الاحتمال مخالفاً لعقيدة الشيعة الإمامية ولأصول مبانيها .
قال : والذي نحتمله ، بل ونعتقده ، أنّ الشيخ المفيد معروف بقوّة الجدل والتمرّس بفنون المناظرة ، وكان كسقراط يُلقي على تلاميذه مسائل دقيقة ويناقشهم فيها لاختبار عقولهم ، ولا سيّما شبهات المعتزلة كآراء النظّام وأصحابه القائلين بالصرفة ، وهي إحدى المسائل التي ناظر بها أقطاب المعتزلة ، فلعلّه وقع في نفوس البعض أنّه يقول بها ، وهو اشتباه لا يستند إلى تحقيق (25) .
وهكذا احتمل العلاّمة السيد هبة الدين الشهرستاني بشأن الشريف المرتضى أنّه كان معروفاً بقوّة الجدل والتحوّل في حوار المناظرين إلى هنا وهناك ، فلم يُعلم كونها عقيدةً له ونظريّةً ثابتاً عليها (26) .
وبعد ، فالإيفاء بأمانة البحث يستدعي نقل كلام المرتضى بكامله ، حسبما وصل إلينا من كتبه وعن طريق تلميذه الأكبر الطوسي وغيره من الأقطاب .
قال السيّد في كتابه ( الجُمل ) ، في باب : ما يجب اعتقاده في النبوّة :
وقد دلّ الله تعالى على صِدق رسوله محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) بالقرآن ؛ لأنّ ظهوره معلوم ضرورة ، وتحدّيه العرب والعجم معلوم أيضاً ضرورة ، وارتفاع معارضته أيضاً بقريب من الضرورة ، فإنّ ذلك التعذُّر معلوم بأدنى نظر ؛ لأنّه لولا التعذّر لعورض ، فأمّا أن يكون القرآن من فعله تعالى على سبيل التصديق له فيكون هو العلم المعجز ، أو يكون تعالى صرف القوم عن معارضته ، فيكون الصرف هو العلم الدالّ على النبوّة ، وقد بيّنا في كتاب ( الصرف ) الصحيح من ذلك وبسطناه (27) .
وقد أوضح السيّد جانباً من مذهبه ، في أجوبة المسائل الرسيّة ، عندما تعرّض لسؤال القائل : إنّكم تقولون إنّ وجه الإعجاز هو الصرفة ، والعلم به مفتقر إلى معرفة مراتب الفصاحة لكي يَعرف الناظر عدم الفرق البائن بين المُعجز والممكن ، الأمر الذي يقتضي توقّف إثبات النبوّة على معرفة العربية المتعذّرة على عامّة المكلّفين ، فيلزم على ذلك إبطال النبوّة لا سمح الله .
فأجاب بأنّ هذه الشبهة إنّما خطرت ببال من تصفّح كُتبي وقرأ كلامي في نصرة القول بالصرفة ، واعتمادي في نصرتها على أنّ أحداً لا يفرّق بين مواضع من القرآن وبين أفصح كلام للعرب في الفصاحة ... فإن كان يفرّق ما بين أفصح كلامهم وأدونه فمحال أن يفرّق بين المتقاربينِ .
والناظر إذا علم أنّ القرآن قد تُحدّي به ولم تقع المعارضة لتعذّرها على العرب ، فليس ذلك إلاّ أن يكون القرآن قد خرق العادة ، إمّا بفصاحته أو بصرف القوم عن معارضته ، وأيّ الأمرين كان فقد صحّت المعجزة وثبتت النبوّة ، وبعد ذلك لا حاجة إلى معرفة الوجه على سبيل التفصيل .
ثمّ قال : ولكن مَن ليس من أهل العلم بالفصاحة ومراتبها ، من أعجميّ أو عاميّ ، متمكّن من العلم بفصل فصيح الكلام عن غيره ، ومرتبته في الفصاحة ، بمراجعة أهل الصناعة والسؤال منهم ، فيُعلم من ذلك ما تدعو الحاجة إلى علمه ، وإن لم يكن هو من أهل الصناعة ... وبذلك جاز أن يعلم عدم الفرق البائن بين أفصح كلام للعرب وبين بعض قصار المفصّل في الفصاحة ، وحينئذٍ يُعلم أنّ جهة إعجازه هي الصرفة ، لا فرط فصاحته ، فليس إلاّ الصرف (28) .
فذلكة القول بالصرفة :
يتلخّص مذهب الصرفة ـ على ما قاله وجوه أصحاب هذا الرأي ـ حسبما يلي :
أوّلاً : قولة النظّام ( مبتدع هذه الفكرة ) أنّ في نثر العرب ونظمهم ما لا يخفى من الفوائد ، يعني : فصاحة بالغة تضاهي فصاحة القرآن ، وقد صرّح بذلك الشريف المرتضى ، استناداً إلى قوله تعالى ـ حكاية عن العرب ـ : ( لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ... ) (29) يدلّ على أنّ العرب حسبت من نفسها القدرة على الإتيان بمثله سبكاً وصياغةً ، لولا أنّه تعالى صرف هممهم عن النهوض لمقابلته ، وأمسك بعزيمتهم دون القيام بمعارضته .
ثانياً : ربط ابن حزم مسألة الإعجاز بمسألة الجبر في الاختيار ، وأن لا ميزة جوهرية في القرآن لولا المنع الخارجي . واستند إلى ما يوجد في القرآن من تفاوت في درجة البلاغة ، ومن سرد أسماء زعم أن لا عجيبة في نضدها بما يفوق كلام العرب ، كما أنّ فيه حكاية أقوال آخرين لم تكن معجزةً ، فلمّا حكاها الله تعالى في القرآن أصارها معجزةً ومنع من مماثلته وحال دون إمكان النطق بمثلها أبداً .
قال : وهذا برهان كافٍ لا يحتاج إلى أزيد منه ، وحمد الله أن هداه إلى هذا البرهان الكافي الشافي ... لولا أنّ الأستاذ الرافعي سَخر من عقليّته هذه الساذجة ، قائلاً : بل هو فوق الكفاية ، وأكثر من ذلك أنّه لمّا جعله ابن حزم رأياً له أصاره كافياً ولا يحتاج إلى مزيد بيان ! (30) .
ثالثاً : استند السيّد وأصحابه إلى عدم ظهور فرق بيّن بين قصار السور والمختار من كلام العرب ، وإلاّ لما احتيج إلى مراجعة الأذكياء من العلماء .
والنظم لا يصحّ فيه التزايد والتفاضل ، كما لا يصحّ معارضة المنثور بالمنظوم ، وقاس الخفاجي (31) تلاؤم الكلمات في الجمل بتلاؤم حروف الكلم ليكون خارجاً عن اختيار المتكلّم .
ودليلاً على ذلك قالوا : لا شكّ أنّ العرب كانوا قادرينَ على التكلّم بمثل مفردات الجمل وقصار تراكيبها مثل ( الحمد الله ) و ( ربّ العالمين ) وهكذا ، فأجدر بهم أن يكونوا قادرين على تراكيب أكبر وجمل أطول .
وأيضاً فإنّ الصحابة الأوّلينَ ربّما تردّدوا في آية أنّها من القرآن ، وكذا بعض السور القصار كالمعوّذتين ، رفض ابن مسعود كونهما منه ! فلو كان النظم والبلاغة هما الكوفيينَ للشهادة على القرآنية ، فما وجه هذا التوقّف وذلك الترديد أو الرفض ؟! (32) .
وأخيراً ، قوله تعالى : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ ) أي أصرفهم عن إبطالها بالمعارضة ... هكذا زعموا .
وقد تقدّم الكلام عليها عند توجيه مذهب السيّد في الصرفة .
ـــــــــــــــــــــــــ
* اقتباس قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) من كتاب : معرفة ، محمّد هادي ، " تلخيص التمهيد ـ موجز دراسات مبسَّطة عن مختلف شؤون القرآن الكريم "، نشر مؤسّسة النشر الإسلامي ، ج2 ( بتصرُّفٍ واختصارٍ ) .
(1) قال الرافعي بشأن الآثار السيّئة التي خلّفها القول بالصِّرفة : على أنّ القول بالصِّرفة هو المذهب الناشئ من لدن قال ابن النظّام ، يصوّبه فيه قوم ويشايعه عليه آخرون . ولولا احتجاج هذا البليغ لصحّته وقيامه عليه وتقلّده أمره ، لكان لنا اليوم كتب ممتعة في بلاغة القرآن وأسلوبه وإعجازه اللغوي وما إلى ذلك ، ولكن القوم ( عفا الله عنهم ) أخرجوا أنفسهم من هذا كلّه ، وكفُّوها مؤونته بكلمة واحدة تعلّقوا عليها ، فكانوا فيها جميعاً كقول هذا الشاعر الظريف الذي يقول :
كأَنّنا والماء من حولنا قومٌ جلوس حولهم ماءُ ( الإعجاز : ص146 ) .
(2) الأعراف : 146 .
(3) التوبة : 127 .
(4) الطراز : ج3 ، ص391 ـ 392 .
(5) قواعد المرام : ص132 .
(6) شرح المقاصد : ج2 ، ص184 .
(7) شرح المواقف ( بالهامش ) : ج3 ، ص112 .
(8) مقالات الإسلاميّين : ج 1 ص 296 .
(9) الملل والنحل : ج 1 ص 56 ـ 57 .
(10) هو الكاتب أبو عثمان عمرو بن بحر ، كان من غلمان النظّام ، وتعلّم عليه ، توفّي سنة 255 هـ .
(11) كتاب الحيوان : ج 4 ص 31 .
(12) قال بذلك في كتابه ( أوائل المقالات : ص 31 ) ، جاء فيه : إنّ جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبيّ بمثله في النظام عند تحدّيه لهم ، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ، وإن كان في مقدورهم ، دليلاً على نبوّته ( صلّى الله عليه وآله ) ، واللطف من الله تعالى مستمرّ في الصرف عنه إلى آخر الزمان . وهذا من أوضح برهان في الإعجاز وأعجب بيان ، وهو مذهب النظّام ، وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال .
غير أنّ المعروف عنه في كتب الإمامية هو مواكبته مع جمهور العلماء . قال المجلسي ( في البحار : ج 17 ، ص 224 ) في إعجاز أُمّ المعجزات القرآن الكريم : وأمّا وجه إعجازه ، فالجمهور من العامّة والخاصّة ، ومنهم الشيخ المفيد ( قدّس الله روحه ) على أنّ إعجاز القرآن بكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة ، هذا مع اشتماله على الإخبار عن المغيّبات الماضية والآتية ، وعلى دقائق العلوم الإلهية ، وأحوال المبدأ والمعاد ، ومكارم الأخلاق ، والإرشاد إلى فنون الحكمة العلمية والعملية ، والمصالح الدينيّة والدنيويّة ، على ما يظهر للمتدبّرين .
وهكذا ذكر عنه القطب الراوندي في " الخرائج والجرائح : ص 269 " ، قال بعد أن جعل الوجه الأوّل وهو القول بالصرفة قولاً للسيّد المرتضى : والثاني : ما ذهب إليه الشيخ المفيد ، وهو أنّه كان معجزاً من حيث اختصّ برتبة في الفصاحة خارقة للعادة ...
(13) الاقتصاد : ص 173 .
(14) في كتابه : ( تقريب المعارف ) الذي وضعه في أُصول المعتقدات : ص 105 ـ 108 .
(15) وتقدّم أيضاً في ص 78 عن ابن ميثم في رسالته قواعد المرام في علم الكلام : ص 132 .
(16) التوبة : 127 .
(17) الأعراف : 146 .
(18) الصفّ : 5 .
(19) البقرة : 2 .
(20) بنقل الشيخ في التمهيد .
(21) البقرة : 269 .
(22) إعجاز القرآن : ص 144 .
(23) شرح المقاصد : ج 2 ص 184 .
(24) في موسوعته القيّمة ( الدين والإسلام ) : ج 2 ص 137 .
(25) رسالة الإسلام القاهرية ، السنة الثالثة ، العدد 3 ص 300 ـ 301 .
(26) المعجزة الخالدة : ص 97 ـ 98 .
(27) جمل العلم والعمل للسيّد المرتضى ( طبعة النجف 1387 هـ ) : ص 41 ، وطُبعت مع المجموعة الثالثة من رسائله ، راجع : ص 19 .
(28) المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى : ص 323 ـ 326 ، المسألة الثالثة من المسائل الرسيّة الأُولى .
(29) الأنفال : 31 .
(30) راجع الفصل في الملل والنحل : ج 3 ص 17 ـ 19 ، والتمهيد : ج 4 ص 146 .
(31) راجع كلامه في : سرّ الفصاحة ، ص 89 ـ 90 ، والتمهيد : ج 4 ص 149 .
(32) ذكرهما التفتازاني في : شرح المقاصد ، ج 2 ص 184 .