اقتباس :
قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنَين ( عليهما السلام )
لا ريب في أنّ القرآن يتحدّى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكّية ومدنيّة تدلّ جميعها على أنّ القرآن آية معجزة خارقة ، حتى أنّ قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... ) .( البقرة : 23 )
أي : مِن مثل النبي ( صلى إليه عليه وآله وسلم ) ؛ استدلالاً على كون القرآن معجزة بالتحدّي على إتيان سورةٍ نظيرة سورة مِن مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لا أنّه استدلال على النبوّة مستقيماً وبلا واسطة ، والدليل عليه قوله تعالى في أوّلها : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ... ) ، ولم يقل : وإنْ كنتم في ريب من رسالة عبدنا ، فجميع التحدّيات الواقعة في القرآن نحو استدلالٍ على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله ، والآيات المشتملة على التحدّي مختلفة في العموم والخصوص ، ومِن أعمّها تحدّياً قوله تعالى : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) .( الإسراء : 88 )
والآية مكّية ، وفيها من عموم التحدّي ما لا يرتاب فيه ذو مُسْكَة .
فلو كان التحدّي ببلاغة بيان القرآن وجزالة أسلوبه فقط ، لم يتعدّ التحدّي قوماً خاصّاً وهم العرب العرباء من الجاهليّين والمخضرمين قبل اختلاط اللسان وفساده ، وقد قرع بالآية أسماع الإنس والجن .
وكذا غير البلاغة والجزالة مِن كلّ صفة خاصّة اشتمل عليها القرآن كالمعارف الحقيقية ، والأخلاق الفاضلة ، والأحكام التشريعية ، والأخبار المغيَّبة ، ومعارف أخرى لم يكشف البشرُ حين النزول عن وجهها النقابَ ، إلى غير ذلك ، كل واحد منها ممّا يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم ، فإطلاق التحدّي على الثقلين ليس إلاّ في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات .
فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته ، وللحكيم في حكمته ، وللعالِم في علمه ، وللاجتماعي في اجتماعه ، وللمقنّنين في تقنينهم وللسياسيّين في سياستهم ، وللحُكّام في حكومتهم ، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعاً كالغَيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان .
ومن هنا يظهر أنّ القرآن يدّعي عموم إعجازه من جميع الجهات ، من حيث كونه إعجازاً لكلّ فرد من الإنس والجن ، من عامّة أو خاصّة ، أو عالِم أو جاهل ، أو رجل أو امرأة ، أو فاضل بارِع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول ، فإنّ الإنسان مفطور على الشعور بالفضيلة وإدراك الزيادة والنقيصة فيها ، فلكلّ إنسان أنْ يتأمّل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ، ثمّ يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحقّ والنَصْفَة ، فـ :
هل يتأتّى القوّة البشرية أنْ يُختَلَق معارف إلهيّة مبرهَنَة تقابِل ما أتى به القرآن وتماثله في الحقيقة ؟
وهل يمكنها أنْ تأتي بأخلاق مبنيّة على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء والفضيلة ؟
وهل يمكنها أنْ يشرّع أحكاماً تامّة فقهيّة تُحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدّي إلى التناقض ، مع حفظ روح التوحيد وكلمة التقوى في كلّ حكم ونتيجته ، وسريان الطهارة في أصله وفرعه ؟
وهل يمكن أنْ يصدر هذا الإحصاء العجيب والإتقان الغريب من رجل أُمّي لم يَتَرَبَّ إلاّ في حِجْر قومٍ حظّهم من الإنسانيّة على مزاياها التي لا تُحصى وكمالاتها التي لا تغيا أنْ يرتزقوا بالغارات ، الغزوات ، ونهب الأموال ، وأنْ يَئِدُوا البنات ويقتلوا الأولاد خشية إملاق ، ويفتخروا بالآباء وينكحوا الأمّهات ويتباهَوا بالفجور ، ويذمّوا العلم ويتظاهروا بالجهل وهم على أنفتهم وحميّتهم الكاذبة أذلاّء لكل مستذِل ، وخطفة لكلّ خاطف ، فيوماً لليَمَن ويوماً للحبشة ويوماً للروم ويوماً للفرس ؟
فهذا حال عرب الحجاز في الجاهلية .
وهل يجتري عاقل على أنْ يأتي بكتاب يدّعيه هدىً للعالمين ، ثمّ يودعه أخباراً في الغيب ممّا مضى ، ويستقبل وفيمن خلتْ من الأُمم وفيمن سيقدّم منهم لا بالواحد والاثنين في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيّبات المستقبلة ثمّ لا يتخلف شيء منها عن صراط الصدق ؟
وهل يتمكّن إنسان ـ وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادّية ، والدار دار التحوّل والتكامل ـ أنْ يداخل في كلّ شأن من شُؤون العالم الإنساني ويلقي إلى الدنيا معارف وعلوماً وقوانين وحكماً ومواعظ وأمثالاً وقصصاً في كلّ ما دقّ وجلّ ثمّ لا يختلف حاله في شيء منها في الكمال والنقص وهي متدرّجة الوجود ، متفرّقة الإلقاء ، وفيها ما ظهر ثمّ تكرّر ، وفيها فروع متفرّعة على أصولها ؟
هذا ، مع ما نراه أنّ كلّ إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة .
فالإنسان اللبيب القادر على تعقّل هذه المعاني لا يشكّ في أنّ هذه المزايا الكلّية وغيرها ممّا يشتمل عليه القرآن الشريف كلّها فوق القوّة البشرية ووراء الوسائل الطبيعية المادّية ، وإنْ لم يقدر على ذلك فلم يضل في إنسانيّته ولم يَنْسَ ما يَحكم به وجدانه الفطري أنْ يراجع فيما لا يحسن اختباره ويجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به .
فإنْ قلتَ : ما الفائدة في توسعة التحدّي إلى العامّة والتعدّي عن حومة الخاصّة ، فإنّ العامّة سريعة الانفعال للدعوة والإجابة لكلّ صنيعة ، وقد خضعوا لأمثال : الباب ، والبهاء ، والقادياني ، والمسيلمة على أنّ ما أتوا به واستدلّوا عليه أشبه بالهجر والهَذَيَان منه بالكلام .
قلتُ : هذا هو السبيل في عموم الإعجاز والطريق الممكن في تمييز الكمال والتقدّم في أمر يقع فيه التفاضل والسباق ، فإنّ أفهام الناس مختلفة اختلافاً ضروريّاً والكمالات كذلك ، والنتيجة الضرورية لهاتَين المقدِّمَتين أنْ يُدرِك صاحب الفَهْم العالي والنظر الصائب ويرجع مَن هو دون ذلك فهماً ونظراً إلى صاحبه ، والفطرة حاكمة والغريزة قاضية .
ولا يُقبَل شيء ممّا يناله الإنسان بقِواه المدرِكة ويبلغه فهمه العموم والشمول لكلّ فرد في كلّ زمان ومكان بالوصول والبلوغ والبقاء ، إلاّ ما هو مِن سنخ العِلْم والمعرفة على الطريقة المذكورة ، فإنّ كل ما فُرض آية معجزة غير العلم والمعرفة فإنّما هو موجود طبيعي أو حادث حِسّي محكوم بقوانين المادّة ، محدود بالزمان والمكان ، فليس بمشهود إلاّ لبعض أفراد الإنسان دون بعض ، ولو فرض محالاً أو كالمحال عمومه لكلّ فرد منه فإنّما يمكن في مكان دون جميع الأمكنة ، ولو فرض اتّساعه لكلّ مكان لم يُمكن اتّساعه لجميع الأزمنة والأوقات .
فهذا ما تحدّى به القرآن تحدّياً عامّاً لكلّ فرد في كلّ مكان ، في كلّ زمان .
ــــــــــــــــــــ
* من كتاب : الميزان في تفسير القرآن : العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي ( قُدّس سرّه) ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة ، المجلّد الأول ، ص59 ـ 62 .