بسم الله الرحمن الرحيم
الجريمة : ما يقترفه الجاني من جرم في حق نفسه أو أُسرته أو مجتمعه ، أو وطنه أو قومه .
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : 170 هـ ) : وفُلانٌ له جَريمةٌ ، أي : جُرمٌ ، وهو مصدر الجارِم الذي يَجْرِمُ على نَفسِه وقَومِه شَرّاً . والجُرْمُ : الذِّنبُ ، وفِعْلُه الإِجْرام ، والمُجْرمُ : المُذْنِب ، والجارِمُ : الحاني (1) . وكذا في لسان العرب . فالجريمة هي الجرم مصدر الجارم ، ويأتي بما أورد الخليل لا يزيد عليه (2) .
وقد وردت الجريمة ـ مادةً ـ في القرآن الكريم أكثر من ستين مرة ، ولم ترد بلفظها ولا مرة واحدة (3) . وردت الألفاظ الآتية : الإجرام ، أجرمنا ، أجرموا ، تجرمون ، مجرمون ، مجرمين ، مجرميها ، من هذه المادة للدلالة على اسم المصدر : الجريمة .
في هذه الألفاظ عَرَض القرآن الكريم لسيماء المجرمين ، وأوصافهم ، وحالاتهم وأعمالهم ، وحَسَرَاتِهم ، ومفارقاتهم ، وصورهم ، وإنذارهم ، وتحذيرهم ، وإرشادهم عن غيِّهم ، ووازنهم بسواهم من الصالحين والمسالمين والبَرَرَة .
هذا الحشد الهائل من المفردات يتَّسع لأكثر من بحث موضوعي ، وهنا نستطيع أن نلمس فيه صورة متميِّزة أخَّاذة للأسلوب النفسي الذي اعتمده القرآن العظيم لمكافحة الجريمة ؛ من خلال التأثر والتأثير في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والإصلاح .
الإجرام كما يصوِّره لنا القرآن الكريم ذو ظاهرتين :
الظاهرة الأُولى : الإجرام الفردي ، وهو الذي يتحدَّث به عن المجرم ذاته ، ويُراد به كل جنس المجرم أنّى كان جُرمه ، ويمثِّله قوله تعالى :
أ ـ ( يُبَصَّرُونَهُم يَوَدَّ المُجرِمُ لَو يَفتَدِى مِن عَذَابِ يَومِئِذٍ بَبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ) (4) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأتِ رَبَّهُ مُجرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحيَى ) (5) .
وقد يبرز الإجرام الفردي في هذا المَلْحَظ مزعوماً دون جريمة ، كقوله تعالى : ( قُل إِنِ افتَرَيتُهُ فَعَلَىَّ إِجرَامِي وَأَنَا بَرِيءُُ مِّمَّا تُجرِمُونَ ) (6) .
فليس هناك افتراء ، وليس هناك إجرام ، ولو ثبت الافتراء افتراضاً لتحقَّق الإجرام ، ولو تحقَّق الإجرام ، فلا تُؤخذون بجرمي ولا أؤخذ بجرمكم ، وفيه تأكيد على إجرام الكافرين فيما يبدو .
الظاهرة الثانية : الإجرام الجماعي ، وهو الذي يتحدَّث به القرآن عن الجماعات المجرمة في مقارفتها الجريمة ومعايشتها ، ويمثِّله قوله تعالى :
أ ـ ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجرَمُوا صَغَارٌ عِندَ آللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمكُرُونَ ) (7) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ أَجرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضحَكُونَ ) (8) .
جـ ـ ( وَكَذَلِكَ جَعَلنَا فِي كُلِّ قَريَةٍ أَكَابِرَ مُجرِمِيهَا لِيَمكُرُوا فِيهَا ) (9) .
بعد تشخيص هاتين الظاهرتين ، نجد القرآن متحدِّثاً عن سمات المجرمين وأوصافهم في كل من النشأتين ، الحياة الأُولى والحياة الآخرة . وتبدأ مشخَّصات الجريمة في القرآن بالقتل المتعمَّد ، وبقطع الطريق ، وبالسرقة ، وبالزنا ، وكبائر المحرَّمات ، وأُحاول فيما يلي إلقاء الضوء على بعض هذه المفردات ، ومعالجتها في القرآن نفسياً ، دون الدخول في التفصيلات المضنية :
1 ـ القتل : يُعتبر القتل من أبشع الجرائم في القوانين السماوية ، وهو كذلك في القوانين الوضعية ، وقد حدَّد الله تعالى هذا المعلم بأسبابه ودوافعه ونتائجه ، وهو نوعان : قتل العمد ، وقتل الخطأ ، ولهما في الشريعة الإسلامية حدود في القصاص والديات ، ولا يتعلَّق حديثنا بمثل هذه الحدود ، وإنَّما بالمشخَّصات الجُرمية فحسب .
أ ـ قال تعالى : ( وَلاَ تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِ وَمَن قُتِلَ مَظلُومًا فَقَد جَعَلنَا لِوَلِيّهِ سُلطَنًا فَلاَ يُسرِف فِي القَتلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً ) (10) .
فقد حدَّدت هذه الآية عدّة معالم لحالة القتل :
الأولى : عدم جواز قتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق .
الثانية : مَن قتل مظلوماً فلوليِّه الحق بالقصاص .
الثالثة : الاكتفاء في المقاصَّة الشرعية عن الإسراف .
وقد كرّر تعالى الملاحظة الأُولى في آية أخرى ، فقال : ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (11) .
ب ـ وفيما اقتص الله تعالى من خير ابني آدم ، حُدِّدت معالم أخرى لجواز القتل وحرمته مع الإرشاد الموحى ، قال تعالى : ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) (12) .
وتُحدِّد استنباطات الفقهاء أنّ القتل يجب في مواضع الكفر بعد الإيمان على تفصيل به في مسألة الارتداد ، والزنا بعد الإحصان ، والفساد في الأرض كالعصابات المسلحة ، وقطَّاع الطُّرق ، وفي حالة القصاص .
والأول والثاني مستفادان من السُّنة الشريفة ، والثالث والرابع من النص القرآني السابق . وقد عالج القرآن ظاهرة القتل المتعمد نفسيّاً في عدة ملامح تحذيرية وترغيبية وإصلاحية .
أولاً : حذَّر القرآن الكريم من قتل الأولاد خشية الفقر ؛ بأن ربط الرزق بالله ، فنها عن القتل لهذا المَلْحَظ فقال في آيتين :
أ ـ ( وَلاَ تَقتُلُوا أَولَدَكُمُ مِّن إِملاَقٍ نَّحنُ نرزُقُكُم وَإِيَّاهُم ) (13) .
ب ـ ( وَلاَ تَقتُلُوا أَولَدَكُم خَشيَةَ إِملاَقٍ نَّحنُ نَرزُقُهُم وَإِيَّاكُم ) (14) .
ويلاحظ هنا الذوق البلاغي في القرآن إذ استعمل في آية الأنعام : ( مِّن إِملاَقٍ ) ، وفي آية الإسراء : ( خَشيَةَ إِملاَقٍ ) . وفي الأُولى قدَّم ضمير الخطاب ( نرزُقُكُم ) على ضمير الغائب ( إِيَّاهُم ) ، وفي الثانية عكس الأمر ، فاستعمل مكان المخاطب الغائب ( نَرزُقُهُم ) ، ومكان الغائب المخاطب ( إِيَّاكُم ) وهو مَلحَظ دقيقٌ ، تفصيله في غير هذا البحث .
ثانياً : الإنكار الشديد بصيغة الاستفهام ، قال تعالى : ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (15) .
ثالثاً : الوعيد بالخلود في النار ، وغضب الله تعالى ولعنه وهو أشد ، وإعداد العذاب العظيم وهو أقطع ، ويُمثِّل هذا الاتجاه قوله تعالى : ( وَمَن يَقتُل مُؤمِنًا مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (16) .
رابعاً : الثناء المطلق والوعد الجميل مع الوعيد باعتبار الذين يتَّصفون بعدم القتل من عباد الرحمن ، قال تعالى في صفتهم : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ) (17) .
خامساً : التبكيت والتسفيه والخسران فيما قال تعالى : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (18) .
وهكذا نجد القرآن العظيم قد استقطب مختلفَ الأساليب لدرء جريمة القتل بين الوعد والوعيد وتهيئة المناخ النفسي ليطمئن المجتمع وتُصان الأرواح .
2 ـ السرقة : لقد حدّد القرآن حكم السرقة ، واعتبرها من الجرائم التي يُعاقب عليها بقطع اليد بنص قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (19) .
هذا الحكم له حدود وله قيود في تعيّن مبلغ السرقة ، وهوية السارق ، ومكان القطع ، وللفقهاء فيه كلام طويل ، وكذلك الحال في نوعية السرقة غصباً أو سلباً أو أغَارَ سراً أو علانية ، لكن المهم هو وقع الحكم على الأسماع وشدته لدى التنفيذ ، وهذا ما دفع بحملة من الأُوربيين والمستشرقين إلى تصوير الإسلام بأنَّه دين وحشي . وليس الأمر كذلك ؛ لأنّ الظروف المعيشية التي سخّرها الله لعباده ، هي أكبر وأكثر من ظروف الاعتداء على أموال الآخرين ، ولأنَّ الأمانة سر من أسرار الخليقة ، يعود الإنسان بدونها متردياً للحضيض الأوهد . ويحضرني في ردّ هذه الشبهة ، ما أبانه أبو العلاء المعري ، متسائلاً عن حكمة قطع اليد بقوله :
يَدٌ بِخَمسِ مِئينَ عَسجَدٍ فُدِيَت | ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دينارِ |
فأجابه السيد المرتضى علم الهدى ( ت : 436 هـ ) :
عزُّ الأمانةِ أغلاها وأرخصها | ذلُّ الخيانةِ فانظر حكمة الباري |
3 ـ الزنا ، وهو جريمة يقاربها من لا عائلة له يحافظ على شرفها ، ولا زوجة يصون حرمتها ، ولا بنت يغار عليها ، ولا أخت يثأر لكرامتها ؛ لأنّ الزنا دين كما يقول العرب ، و ( كما تدين تُدان ) . وقد جعل الله سبحانه وتعالى في الزواج غنى عن هذه الجريمة الخُلقية في أمراضها وأضرارها ونتائجها . قال تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) (20) .
وقد عالج القرآن هذه الظاهرة عملياً بالطُّرق الشرعية المسنونة ، وشدَّد عليها عقاباً في البكر فقال تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجلَدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنهُمَا مِائَةَ جَلدَةٍ وَلاَ تَأخُذكُم بِهِمَا رَأفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الأَخِرِ وَليَشهَد عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ ) (21) .
ثمَّ هزَّ القرآن الكريم الحَمِيَّة والغيرة والكرامة ، وأنَّه ليربأ بالنفس الإنسانية عن هذا المسلك الوخيم فقال تعالى : ( الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَ زَانِيَةً أَو مُشرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكَحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَو مُشرِكُُ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤمِنِينَ ) (22) ؛ لهذا كان قذف المحصنات والتشهير بالنساء البريئات من المحرمات التي يعاقب عليها الله تعالى ، وانظر إلى قوله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (23) .
ولنبتعد قليلاً عن هذا المناخ إلى عظمة قوله تعالى في صدِّ هذا المناخ : ( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (24) .
أثرى الهدوء النفسي والاطمئنان الروحي مهيِّئاً بالزنا وبالمحرمات الأخرى كاللواط والسِّحاق والعادة السرية ، إنَّها لموبقات حقاً . ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (25) ، ألاَّ تنظر إلى قوله تعالى وهو يرغِّب بنعيم الجنَّة في ملذَّاتها الحسِّية : ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَلِدُونَ ) (26) ، وإلى قوله تعالى : ( وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) (27) .
إنَّني أدعو الشباب المثقَّف إلى الزواج بسن مبكِّرة من أجل مكافحة جريمة الزنا ، فالزواج المبكِّر سُنّة سار عليها سلفنا الصالح ، وأدعو الآباء والأُمهات إلى التخفيف من غلاء المهور وشروط الزواج ، فالمسلم كُفء المسلمة ، قال تعالى : ( وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُم إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ ) (28) . والزواج حاجة يحتاج إليها الشباب بخاصة كالاحتياج إلى الأكل والشرب بالضبط ، ولا حياء في الدين (29) .
4 ـ كبائر المحرَّمات : وهي عبارة عن المحرَّمات التي ذكرها الكتاب العزيز ونصَّ عليها علماء التشريع الإسلامي ، ممَّا يُعتبر الوقوع فيها منافياً لعدالة المسلم ووصفه بالفسق حيناً ، وبالكفر حيناً آخر . ولسنا في صدد عدِّها ، فمنها : عقوق الوالدين ، أكل مال اليتيم ، أكل الربا ، شهادة الزور ، كتمان الشهادة ، شرب الخمر ، ترك ما فرض الله تعمُّداً ، ما تقدَّم من قتل النفس المحترمة والزنا والسرقة ، قطيعة الرحم ، الكذب ، أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ به لغير الله ، والقمار ، وأكل السحت ، والرشوة ، والبخس في المكيال والميزان ، والغيبة ، والنميمة ، والبهتان ، وغش المسلمين ، وأمثال ذلك ممَّا يعتبره القرآن جريمة يعاقب عليها في الدنيا أو الآخرة .
وهنا نلقي نظرة فاحصة لسبيل مكافحة الجرائم بتلميح موجز يتعلَّق بإصلاح المجتمع والنفس الإنسانية ، والعودة بها إلى الفطرة الخالصة النقية من كل ضُرٍّ وشائبة ؛ وذلك أنَّنا في كثير من الدول النامية نعيش أزمة أخلاقية تأثَّرت بمفاهيم الغرب غير الدقيقة ، هذه المفاهيم هي التي تُؤدِّي إلى الجريمة . فالخروج عن التقاليد العربية الأصيلة ، والابتعاد عن واقع الرسالة الإسلامية المقدَّسة ، والتهوُّر ضد الأعراف الإنسانية النبيلة ، كل أولئك ممَّا يوقع في هذه الجرائم آنفة الذكر .
الولد ـ مثلاً ـ لا يعرف قيمة والديه ، والطالب لا يقدِّر جهود مربِّيه ، والصديق يعامل صديقه بالأَثَرَة لا الإيثار ، والأخ يضرب صفحاً عن أخيه ، والجار يطوي كشحاً عن جاره ، والكذب والبهتان والنميمة ديدن الكثيرين ، و( أفضل الناس من شغلته عيوبه عن عيوب الآخرين) ؛ فلسنا معصومين ، والتفاهم في لغة المحبَّة والأخوُّة الصادقة عاد ضرباً من الهذيان ، و ( حب لأخيك ما تحب لنفسك ) ليست من أخلاقنا ، والكلمة الطيبة صدقة نُسخت من معجمات الحديث الشريف ، و ( وَتَعَاونُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ ) (30) كأنَّها ليست من كتاب الله .
وقوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (31) لا نجد مفهوماً لها في تعاملنا مع الناس .
وقوله تعالى : ( فَبِمَا رَحمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضُّوا مِن حَوْلِكَ ) (32) ، كأنَّه ليس من أخلاق رسولنا العربي الأمين ، حتى عاد التواضع ضعة واللين ضعفاً ، والأخلاق تملُّقاً ، والحديث ثرثرة والأدب عدم اتزان ، إنَّ درء المفاهيم الخاطئة ، وهذه المتخلفات الذهنية ، هو الذي أن نحارب الجريمة ، ونكافح انتشارها وإلاَّ فنحن في عداد المجرمين ( إِلاَّ أَصْحَابَ اليَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ المُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) (33) .
قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) : ( ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنَّما حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأنَّ المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ، فيقولون ، إلاَّ أنَّ الكلام جيء به على الحذف والاختصار كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه ) (34) .
وإذا لم يكافح كل منا الجريمة من موقعه ، والأنانية الذاتية في داخله ، والقوقعة على النفس ، كان ما قدَّمناه كلاماً فارغاً لا يُسمن ولا يُغني من جوع .
وما توفيقي إلاَّ بالله العلي العظيم ، عليه توكَّلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونِعم الوكيل .
ــــــــــــــــــ
* أُلقي في المؤتمر العلمي الرابع المنعقد في كلية الفقه في النجف ، بشعار : ( دور العقيدة والتشريع الإسلامي في مكافحة الجريمة ) بتأريخ : 17 ـ 18 مايس 1989 ، ونشر في : وقائع مؤتمر إعجاز القرآن ، نيسان 1990 / بغداد .
** اقتباس " قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) " من کتاب : " نظرات معاصرة في القرآن الكريم " .
(1) الخليل ، العين : 6 / 118 ـ 119 .
(2) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : 14 / 375 .
(3) ظ : محمد فؤاد عبد الباقي ، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : مادة ( جرم ) .
(4) المعارج : 16 .
(5) طه : 74 .
(6) هود : 35 .
(7) الأنعام : 124 .
(8) المطَّففين : 29 .
(9) الأنعام : 123 .
(10) الإسراء : 33 .
(11) الأنعام : 151 .
(12) المائدة : 32 .
(13) الأنعام : 151 .
(14) الإسراء : 31 .
(15) التكوير : 8 ـ 9 .
(16) النساء : 93 .
(17) الفرقان : 68 .
(18) الأنعام : 14 .
(19) المائدة : 38 .
(20) الإسراء : 32 .
(21) النور : 2 .
(22) النور : 3 .
(23) النور : 4 .
(24) الروم : 21 .
(25) طه : 131 .
(26) البقرة : 25 .
(27) آل عمران : 15 .
(28) النور : 32 .
(29) ظ : للتفصيل في الحث على الزواج ، عز الدين بحر العلوم : الزواج في القرآن والسُّنة .
(30) المائدة : 2 .
(31) فصلت : 34 .
(32) آل عمران : 159 .
(33) المدّثر : 39 ـ 42 .
(34) الزمخشري ، الكشاف : 1874 .