القرآن غير شبيه بأي كتاب مقدَّس من كتب الموروث اليهودي المسيحي ، فنحن لا نجد فيه القصص التاريخية الطويلة المؤلَّفة والمنظَّمة التي تُغطِّي مرحلة بكاملها ، والسورة الطويلة (12) تكوّن استثناءً بارزاً مع قصة يوسف .
ولا نجد فيه أيضاً ضروباً طويلة من السرد الحقوقي ، التي يقدمها لنا كتاب ككتاب (اللاويين) ، فالأوامر التشريعية التي يحتويها القرآن معروضة بأسلوب أكثر حياة بكثير وأقل تزمتاً ، مع شاغل الاستجابة لأوضاع خاصة ومتتالية بدلاً من معالجة مسألة وفق مخطط موضوع مسبَّقاً . وليس ثَمَّة كذلك أبداً عروض للأسفار الجامعة والأمثال كما في (الأمثال) أو (السفر الجامع) .
والقرآن ذكرٌ ، بالحري ذكر الله وعظمته (1) ، ذكر الدار الآخرة ، والمكافآت والعقوبات ، ذكر متكرِّر لشخصيات مختلفة وأحداث من تاريخ الناس . إنَّه أيضاً تبشير (2) يتوجَّه فيه الله باستمرار إلى الناس ليهديهم ويساعدهم ، ويشجِّعهم أو يهدِّدهم ، وهذا التبشير تعليم ، نبأ عظيم ، ولكنَّه هو أيضاً إنذار وتذكير .
وليس القرآن نصاً متتالياً ينبغي قراءته ، ولكنه نص يُصلّى (3) . وتتيح لنا سمات شتى للقرآن أن نعتبره وكأنَّه نص شعائري ، إذا كان بمقدورنا أن نجرؤ على طرح هذه الصفة .
وثمة مسألة أُولى ينبغي أن نلفت النظر إليها في هذا الاتجاه ، هي : الأسلوب الأدبي للتكرار . يعود القرآن ، شأنه شأن كل كلام حي ، عدَّة مرات إلى التأكيدات نفسها ، والأحداث ذاتها ، والشخصيات عينها ، ويكرِّر عدة آيات . إنَّه تكرار ذو علاقة ـ ولا ريب ـ بالشاغل البيداغوجي ، ولكن على وفاق تام مع ممارسة شعائرية (4) . وهذا التكرار يتَّخذ في بعض الأحيان شكلاً منظَّماً ومؤلَّفاً بعناية . هكذا تكرار بداية السورة ، البداية نفسها ، كما في السورة (81 = التكوير ) ، التي تبدأ آياتها من 1 ـ 13 بـ إذا ، (عندما ) (5) .
ويتخذ التكرار ، في حالات أخرى ، شكل لازمة ، شكل قول يتكرَّر ، كالآية التالية:
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .
التي تعود أربع مرات في السورة (54 = القمر) ( 6 ) .
ونجد على النحو نفسه أقوالاً تتكرَّر خمس مرات ، عشر بل ثلاثين مرة ، كما في السورة المدنية الرحمن ، المقطَّعة على نحو تفريعي تقريباً بهذه الكلمات : ( فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) (7) . وتندرج كل هذه الأمثلة ، وكثير غيرها ، اندراجاً كاملاً في إطار تلاوة طقسية ، في إطار عمل من النموذج الشعائري (8) .
وكنَّا قد قلنا إنَّ كثيراً من أقوال القرآن تصلح للتلاوة . وسنكتفي هنا بأن نستشهد بتوصية من القرآن صريحة على نحو خاص عن هذه المسألة ، تُؤكِّد مظهره الشعائري . وهكذا جاء في القرآن ، في سياق الحض على الصلاة ، مع اللجوء إلى التكرار ، تكرار ذي لازمة ، لدعوة هي ( هدف ) هذا المقطع :
( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ـ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ ـ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ... ) المزَّمل/ 20.
فثمة هنا ، في نهاية السورة ، صدى لِما كان موصىً به في بدايتها :
( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً ) الآيات : 1 ـ 4 .
وإذ دفع بلاشير تحليله إلى حدّ بعيد جداً ، فإنَّه يتكلَّم على تلاوة مشتركة لمقاطع من القرآن : ( لابدّ ، كما يبدو ، لجزء من هذا التنزيل أن يكون قد استُخدم ، في وقت مبكِّر جداً مع ذلك ، في ( التلاوة المشتركة ) . ونحن في أكمل الارتياب الخاص بالنحو الذي تلا المؤمنون عليه هذه النصوص . وربَّما كان الأمر أمر إنشاد ) (9) .
ومهما يكن من أمر ، بوسعنا أن نعتبر أنَّ هذه التلاوة كانت ذات تأثير كبير على مَن كان يسمعها ، وظروف هداية عمر ، خليفة المستقبل ، يمكنها ، بصدد هذه المسألة ، أن تُذكر . يُقال إنَّ هذه الشخصية ، المعادية بعنف للدين الجديد في بداية الأمر ، عمر ، دخل يوماً من الأيام بيت أُخته المهتدية سابقاً ، التي كانت عندئذ برفقة زوجها ، ( تتلو بصوت عالٍ ) جزءاً من القرآن . وكان ذلك ، بالنسبة لعمر ، شعاع النور . وإذ أثاره جمال بعض الجُمل التي سمعها ، فإنَّه طلب إعادة المقطع كله ، فانفعل انفعالاً قوياً حتى انهمرت دموعه ) (10) . ويروي البخاري مع ذلك في اتجاه هذه التلاوة العامة دائماً ، ( حديثاً ) يصرّح فيه محمد أنَّه يحب سماع شخص آخر يقرأ القرآن (11) .
وليس هدفنا من كل ذلك أن نصف على نحو واضح كيف كان القرآن يُتلى في زمن محمد ، بل هدفنا أن نلفت النظر إلى الخصائص والجوانب التي تجعل منه نصاً ملائماً على وجه الخصوص لتلاوة من النموذج الشعائري .
وثمة ملاحظتان أخيرتان لنتابع في الاتجاه نفسه :
الأولى : من النسق الأسلوبي وخاصة بـ السجع ( النثر المقفّى ) الذي لن نتوسع فيه ، ذلك أنَّه كان قد دُرس دراسة كافية : فلنقتصر على أن نقول : إنَّ ( السجع ) يساعد مساعدة رائعة في إمكان استخدام القرآن استخداماً شعائرياً .
والملاحظة الثانية : سنقدمها خلاصة لهذا الفصل ، إذ نذكِّر بآيات التسبيح الإلهي الغزير في القرآن الكريم (12) ، ونذكِّر بأمر مفاده أنَّ لفظة ( سبحان ) محمولة على الله (13) على صورة صلاة تمجيد . إنَّ النص نفسه هو إذن كلام شعائري . وليس ثمة شيء كان يمكنه أن يلفت الانتباه إلى أهمية اللسان في القرآن أفضل من هذه الإضاءة الشعائرية .
وقبل أن نقارب المسألة التالية من هذا التفكُّر ، مسألة ستنصبّ على ( قول ) آخر مرتبط بمحمد والقرآن ، الحديث ، بوسعنا أن نحاول رؤية ما تتيحه لنا عروضنا السابقة أن نجيب عن السؤال الذي كنَّا قد طرحناه في بداية هذا الفصل : لماذا لا يمكننا أن نجهل القرآن في دراسة تاريخ اللسان العربي السابق عليه ؟ ربَّما يمكننا أن نتبيَّن سببين يبرزان :
الأول : أنَّ اللسان العربي مع القرآن أصبح لسان الله ، وسيكون له ، بفعل ذلك ، ميل إلى أن يحجب أو يدين كل ( قول ) ليس إلهياً . وبالنظر إلى أنَّ الظروف اللاَّحقة شهدت استيلاء العرب المسلمين على السلطة ، استيلاء تلته فتوحات إقليمية ، فإنَّ الحيّز الذي كان ممكناً أن تتحرَّك فيه وتنمو المؤلّفات الأدبية العربية السابقة على القرآن ، تقلّص تدريجياً لمصلحة نشر الإسلام الفاتح . ويمضي ما قلناه عن العلاقات بين الكتابة والمشافهة وغلبة المشافهة في الاتجاه نفسه أيضاً .
وأيَّاً كان حال المكتوب وحال اللسان العربي قبل الإسلام ، فإنَّ ثَمَّة نصاً واحداً ، بعد مجيء محمد ونزول القرآن الذي يبشِّر به ، سيكون من الآن فصاعداً ذا الأهمية وينبغي إعلانه . ولن يكون المكتوب سوى حامل هذا التبشير : إنَّه لن يكون سوى علامات مدوَّنة صائرة إلى أن تساعد ( القارئ ) ، لا أن تعلمه أي شيء كان .
ويرى المرء بصعوبة ، في هذه الشروط ، كيف كان المتَّحد يمكنه أن يُعنى بكتابات أخرى إذا صودف أنَّها كانت موجودة . والحيز الديني والأدبي كله ، هنا أيضاً ، يشغله القرآن بالتدريج ، وينبغي انتظار اهتمامات أخرى حتى يمكن أن تنبعث مجدداً آثار الفاعلية الأدبية والشعرية السابقة .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* اقتباس قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) ( بتصرف ) من كتاب : " من القرآن إلى الفلسفة : اللسان العربي وتكوّن القاموس الفلسفي لدى الفارابي " ، ص72 ـ 78 ، تأليف : جاك لانغاد ، ترجمة : وجيه أسعد ، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية ، دمشق ـ 2000م .
(1) اسم الله يتكّرر في القرآن 2700 مرة ، ويتَّخذ هذا العدد كل أهمية عندما نقارنه بالعدد الكلي لآيات القرآن : 6211 .
(2) انظر على سبيل المثال : بلاشير تاريخ الأدب العربي ، II ص 210 ـ 212 ، عن القرآن بوصفه تبشيراً .
(3) (الله لا إله إلا هو ) [ الله لا إله غيره ] عبارة تتكَّرر عدداً كبيراً من المرّات لا سيَّما في السور المكِّيَّة .
(4) فلنفكر على سبيل المثال بالابتهالات التي ستُعاد بصورة غير محدودة في الشعائر المسيحية الشرقية .
(5) في السورة (82 = الانفطار) ، تبدأ الآيات الأربع الأولى بـ ( إذا ) نفسها . انظر أيضاً : التوازي في بناء الآيات 1 ـ 7 من السورة ( 91 = الشمس ) ، أو انظر أيضاً : السورة ( 30 = الروم ) الآيات 20 ـ 25 التي تبدأ جميعها بـ ( وَمِنْ آَيَاتِهِ ) ، أو انظر البداية المماثلة في السورة ( 27 = النمل ) الآيات 60 ـ 61 ـ 62 ـ 63 ـ 64 ، التي سنجدها في الحاشية (7 ) ، وثَمَّة أمثلة كثيرة أخرى سيكون طويلاً جداً تعدادها .
(6) الآيات : 17 ـ 22 ـ 32 ـ 40 .
(7) السورة : ( 55 = الرحمن ) . انظر أيضاً السورة : ( 26 = الشعراء ) : ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الآيات 15 ـ 19 ـ 24 ـ 26 ـ 34 ـ 37 ـ 40 ـ 45 ـ 47 ـ 49 . وبوسعنا أن نطيل القائمة بصورة غير محددة .
(8) سيكون مفيداً أن يكون بمقدور المرء ، انطلاقاً من دراسة مفصَّلة ، أن يحدِّد مكان أسلوب التكرار في النص المقدَّس ، ومكانه ووظائفه .
(9) ثَمَّة هنا ملاحظة تستند إلى مقاطع من البخاري ( VI ، ص235 ، 15 ـ 236 ، 3 ؛ 240 ، 6 ـ 241 ،11 ، تطابق ترجمة ماسه هودا ، III ، ص533 ـ 534 ، ثُمَّ ص 538 ـ 539 ) لاعتبار التلاوة المرتَّلة معاصرة لمحمد .
(10) بلاشير ، تاريخ الأدب العربي II ص 232 - 233 ، الذي يحيل إلى كايتاني Annali ، ص285 .
(11) البخاري ، صحيح ، VI ، ص11 ، 241 ـ 14 ، ترجمة ماسة هودا ، III ، ص540 : ( مَن يحب سماع القرآن يتلوه شخص آخر ) . يروي عبد الله أنَّ النبي قال له : اقرأ عليّ القرآن ، ـ أقرأ عليك القرآن ؟ أجابه ، ولكنَّه إنَّما كان نُزّل عليك ، بالتأكيد أجاب النبي ، ولكنني أحب أن أسمعه من غيري .
(12) انظر على سبيل المثال تلك الآيات التي تسبِّح السموات والأرض فيها اللهَ ، كما في السورة 17 = الإسراء ، آية : 44 ، والسورة 24 = النور ، آية :41 ، والسورة 57 = الحديد ، آية : 7 ، والسورة 59 = الحشر ، آية :1 ـ 24 ، والسورة 61 = الصف ، آية : 1 ، والسورة 62 = الجمعة آية :1 ، والسورة 64 = التغابن ، آية :1 .
(13) المعجم المفهرس : ص 339b ـ 340u .