نظرتان
هنالك نظرتان حول الإمامة:
الأولى ـ أنّها مَنصِبٌ إلهي يقلّده اللهُ تبارك وتعالى مَن يراه مِن عباده أهلاً له في علمه وصلاحه، ليقوى على النيابة عن الرسول في أداء مهامّه.
الثاني ـ أنّها منصبٌ زمني يتولاّه من استولى على العباد والبلاد بالغلبة أو بالإرث.
فالإمام على النظرة الأولى ينبغي أن يكون معصوماً من الذنوب، مطهَّراً من العيوب، نقيّاً من الرذائل، متلفّعاً بالفضائل، وإلاّ لا يليق بقُدس الله جلّ وعلا أن يقلّد هذه الرياسة العامّة والإمامة العظمى مَن كان خالياً عن المَلَكات العُلوية.
أمّا الإمام على النظرة الثانية، فلا يشترط فيه الناس الصلاح، ولا قابلية الإصلاح، فلا يُرجى منه هداية الأمّة لسبل الخير والرشاد، ولا يُؤمَّل منه القضاء على الجهل والضَّلال والمنكر والفساد؛ لأنّه ناقصٌ في ذاته عارٍ عن رفيع الصفات، وإنّما أتته السلطة عن ظروفٍ وأغراضٍ دنيويّة، وطُرقٍ غير إنسانيّةٍ ولا أخلاقيّة.
فأين هذه الإمامة الزمنيّة من تلك الإمامة الإلهيّة، وأين مَن كانت رغبته المُلك والتسلّط وجمع الأموال ممّن اختاره الله تعالى لطفاً بالعباد، ووسيلةً للصلاح والرشاد ؟! إذن فلا بِدْعَ لو كانت العصمة في الإمامة الإلهيّة لزاماً، وفي الرئاسة الزمنيّة حراماً!
من دلائل الإمامة وضروراتها
وهي ضرورةٌ حياتيّةٌ وشرعيّة، وهي والنبوّة تجمعهما قاعدةٌ واحدة، وهي « قاعدة اللُّطف الإلهيّ »، وقد خاطب الله عزّ شأنه نبيَّه المصطفى صلّى الله عليه وآله بقوله: إنَّما أنتَ مُنذِرٌ ولكلِّ قومٍ هاد [ الرعد:7 ]، كتب الطبري في ( تفسيره 72:13 ) في ظلّ هذه الآية المباركة أنّها لمّا نزلت وضع النبيُّ صلّى الله عليه وآله يدَه على صدره فقال: « أنا المنذر، ولكلّ قومٍ هاد » وأومأ بيده إلى مَنكِب عليٍّ عليه السلام فقال له: « أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدي المهتدون بعدي » ( ذكره السيوطي الشافعي في « الدر المنثور ») وقال: أخرجه: ابن مردَوَيه، وأبو نعيم في ( المعرفة )، والديلمي وابن عساكر وابن النجّار. وأورد مثلَه أو قريباً منه: المتقي الهندي في ( كنز العمّال 157:6 )، والشبلنجي الشافعي في ( نور الأبصار:70 )، والفخرالرازي في « التفسير الكبير » ) ـ في ظلّ الآية المباركة ـ، والحاكم النَّيسابوري الشافعي في ( المستدرك على الصحيحين 129:3 ) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. كذا أخرجه ابن أبي حاتم، وذكره الهيثميّ الشافعي في( مجمع الزوائد 41:7 )، والمناوي في « كنوز الحقائق:42 » وغيرهم ).
وقد أُقيمت البراهين على لزوم العصمة في الإمام، ومن تلك البراهين::
1. حين رحل رسول الله صلّى الله عليه وآله، هل يُعقل أنّه ترك الإسلام ليقول ويعمل فيه كلُّ أحدٍ برأيه وهواه، فيكون متناوَلاً للآراء والأهواء، ومُفترقاً للنِّحَل والفِرق ؟! إنّ العقل يُرشد إلى أنّه لابدّ أن جعل الله لهذا الدين حافظاً قيّماً عليه، يصونه من العبث والتلاعب، حتّى يبقى حلال محمّدٍ وحرامه على ما نزل به الروح الأمين إلى قيام يوم الدين. كذلك يرشدنا العقل السليم إلى أنّ الحافظ لهذا الدين لابدّ أن يكون عالماً بدقائقه وخصوصياته، معصوماً من الخطأ والزلل والنسيان، وإلاّ وقع في ما يَضِلّ الناس به، ولَفَقد أتباعُه الثقة به.
2. كما أنّ البشر هم بحاجةٍ إلى الرسالة، كذلك ـ وبالدليل ذاته ـ هم بحاجةٍ إلى الإمامة، وكما وجدوا الرسول واجبَ الاتّباع في حياته الشريفة كذلك وجدوا الإمام مِن بعده واجبَ الاتّباع شريطة أن يمتاز عليهم في علمه وعمله، فيكون عالماً بالشريعة كلّها، ومعصوماً عن الذنوب جميعها خطأً أو عمداً، وتلك ضرورة يُحتّمها العقل ويثبّتها الدين، ويُدركها الناس بالوجدان.
فإذا دلّنا البرهان على وجوب ذلك الإمام ووجوده، فما الداعي إذن أن يحيد الناس عنه إلى غيره ممّن لم يكن عالماً فيستنجد بغيره، ولم يكن معصوماً فيطلب من الآخرين أن يقوّموه!
3. لا يرتاب ذو لُبٍّ في أن التكاليف الإلهيّة لم ترتفع بعد انتقال سيّد الرسل إلى الرفيق الأعلى، وأنّ الناس لم يكونوا علماءً لا يجهلون ولا عدولاً لا يفسقون، بل ذكر التاريخ أنّهم خلطوا بين العلم والجهل، والعمل الصالح والطالح، وتخبّطوا واختلفوا، حتّى أصبحوا في حاجةٍ ماسّةٍ إلى عالمٍ لا يجهل ليعلّمه ما يجهلون، وإلى عادلٍ لا يقترف مُوبقةً أبداً ليردعهم عمّا يقترفون من المعاصي والآثام، فلو جاء مَن هو مثلُهم أو أسوأ منهم لم يكن ليصلُحَ لتعليمهم وإرشادهم.
4. هل يا تُرى يرضى الله سبحانه بتلك الكبائر التي ارتُكِبت بعد غياب رسول الله ؟! كلاّ، فإنّ إهمال العباد ـ إذن ـ والرضى لهم بما يختارون ويفعلون قولٌ لا يقبله العدل، ولا يُقرّه العقل، فلابدّ إذن أن يكون الباري تبارك وتعالى قد نصب للناس دليلاً هادياً وناصحاً مرشداً، لا يُخطئ كما يُخطئون، بل هو معصومٌ صالح مصلح، يقوم بما هيّأه الله عزّوجلّ للنصح والصد عن المنكر والفساد.
5. إنّ فاقد الشيء لا يُعطيه، فكيف يعلّم الناسَ مَن هو جاهل أو ضالّ، وكيف يَعدل بالناس عن القبائح مَن كان طُبع عليها أو مَن لا يُؤمَن عليه ارتكابها، كذلك كيف يهدي الناسَ إلى الحقّ مَن سلك سبل الضلال أو مَن جاز عليه سلوكُها ؟!
إنّ الإمام يقتضي أن يكون القدوة والأسوة، وعليه عُهدةُ تعليم الناس وتقويمهم، وإصلاحهم وإرشادهم، فإذا كان جاهلاً عاصياً، أو لا يُؤمَن منه الغلط والشطط لم يحصل به الغرض المنشود من الإمامة، فلا محيص ـ إذن ـ مِن أن يكون أعلمَ الناس وأصلحَهم، وأهداهم وأنصحَهم، معصوماً عن الزلل والخلل ليُوفَّق في قيامه بوظائف الإمامة، وإلاّ كان بتعليم الآخرين إيّاه أَولى، وبإرشادهم له أجدر، وبإقامة الحدود عليه أحرى، أفَمَن يَهدي إلى الحقّ أحقُّ أن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدّي إلاّ أن يُهدى فما لكُم كيف تَحكُمُون [ يونس:35 ].
6. إنّ الإمام إذا كان كغيره في الخطأ والعصيان، وجب على الناس الإنكار عليه نهياً عن المنكر.. إذن كيف يجتمع إنكارهم عليه مع إمامته عليهم ؟! وإذا كان كغيره في الانحراف ومخالفة الشرع الحنيف، فإنّه يجب على الناس مخالفته في أوامره ونواهيه فيما خالف الدين، فكيف يجتمع ذلك مع أمر الله تعالى بطاعة الإمام إذا كان من أُولي الأمر الذين قال تعالى فيهم: يا أيُّها الذين آمنُوا أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرسولَ وأُوليَ الأمرِ مِنكُم [ النساء:59 ] ؟! وإطلاق الأمر بالطاعة في الآية الكريمة شاملٌ لكلّ أمرٍ ونهيٍ يصدر عن الإمام، فإذا لم يكن معصوماً صدر منه ما يخالف أحكام الله عزّوجلّ، فتكون طاعتُه معصيةً لله في أحكامه، وكذلك تكون مخالفته مخالفةً لأمر الله في الآية الشريفة! أفَهَل يا تُرى يَفرِض اللهُ طاعةَ إمامٍ يقع الناسُ به في مخالفة الشرع ؟! وكيف يُتصوَّر أنّ الله جلّ وعلا ـ حاشاه ـ يأمر بطاعةِ مَن يعصيه، أو مَن يأخذ الناس إلى مخالفة الدين ولو جهلاً ؟!
إنّ الله سبحانه أجلُّ من أن يأمر بطاعة العصاة وأرباب الجهل، وأرفعُ مِن أن يرتضي للأمّة إمامةَ غيرِ الآمر بالهدى ودين الحقّ، العاملِ بالصواب والصدق، وهل يكون ذلك الذي يرتضيه الله إلاّ المعصوم الذي لا ينطق بغير الحقّ، ولا يعمل بغير الصواب، ولا يتداخل قولَه وسيرته وعملَه خطأٌ أو سهوٌ أو نسيانٌ أو معصية..
7. إنّما يُراد من الإمام أن يجمع الأمّة على الحقّ، فلو جاز عليه مخالفة الحقّ فإنّ الأمة لا تستيقن من حصولها على الغرض المطلوب من إمامته، إذ لا تأمن عليه في أعماله وأقواله، إلاّ إذا عُهِدت فيه العصمة، وكان معيّناً مِن قبل الحقّ سبحانه وتعالى.