في ذكرى البقيع الفجيعة
بقلم : مصطفى ملا سعيد العرب
بسم الله الرحمن الرحيم
( القارعة وما أدراك ما القارعة؟ يوم انخلعت بفاجعة البقيع قلوب المؤمنين ، واقشعرت لها جلود العالمين ، وارتعشت بها فرائض الإسلام ، وطاشت لها عقول الأنام ، قارعة يا لها من قارعة !عصفت في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ، فنسفت ضراح الإمامة ، وطمست ضرائح القدس والكرامة ، ونقضت محكمة التنزيل ومطاف جبرائيل وميكائيل ) عبد الله بن حسن باشا صاحب كتاب (صدق الخبر : صفحة 141) .
أجل أيها الأحبة ، كان المسلمون في وداعة وسماحة منذ قرون طويلة ، طوال سنتهم ،
وبعد إنهائهم من فريضة الحج يعرجون على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله ؛ لزيارة
قبره الشريف وقبر بنته الصدّيقة الطاهرة فاطمة بنت محمد عليها سلام الله ، وزيارة
قبور أهل بيته (ع) الذين طهّرهم الله تطهيراً ، المستقرة قبورهم في روضة البقيع ،
حيث حوت تلك الروضة الشريفة : الإمام الحسن بن علي ، الإمام علي زين العابدين ،
الإمام محمد الباقر ، والإمام جعفر الصادق (ع) ، إضافةً إلى ما يقارب عشرة آلاف من
الصحابة (رضوان الله عليه) ، إذ أول مَن دُفن في البقيع من المهاجرين الصحابي عثمان
بن مظعون(رضوان الله عليه) ، ومن الأنصار الصحابي أسعد بن زرارة(رضوان الله عليه) ،
والكثير من الهاشميين.
وقد كان المسلمون يتسابقون على زيارة تلك القبور الشريفة والأضرحة المباركة ؛ لما
حوته من شخصيات طاهرة مطهّرة من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ، الذين خصّهم الله
سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بآية التطهير : (
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) الأحزاب{33}
، وغالباً ما كانوا يجلبون الهدايا والنذور
معهم ، من حُلي وفُرش ثمينة وأموال.
وقد كانت تلك الأضرحة الشريفة محط رحال المسلمين ولم
تزل كذلك ، حيث ترى الألوف المؤلّفة من المسلمين صافين حول قبر النبي (صلى الله
عليه وآله) وقبور أهل بيته (ع) ؛ وذلك حباً وتعظيماً للرسول وأهل بيته الكرام ،
وتعظيمهم تعظيم للإسلام وتعاليمه.
ولكن وألف آهٍ من لكن ، وبعد احتلال الوهابيين لمدينة الرسول ، يأتي يوم الثامن من
شوال من سنة 1344 هجرية ، وتطال يد الغدر والإثم تلك القبور الشريفة والقباب
البيضاء ، وتحول تلك الروضة في ثلاثة أيام سود حالكة ظالمة من أيام الغدر والبطش
والجور على آل الرسول ، تحولها إلى رضوان الله عليه صفراء جرداء ، معذرة إخوتي
أخواتي ، فقد أخذتني العبرة ورحت في بكاء شديد ، ولم أتمالك نفسي حين كتبت الجمل
السابقة ، حيث إنّهم عليهم السلام مظلومين في حياتهم ومماتهم .
يروي الراوي في كتابه (صدق الخبر): ( إنّ الفرقة- يريد الوهابيين- أجبروا
كثيراً من الناس على مساعدتهم ومعهم الرُشف والفؤوس ، فهدموا جميع ما في المعلّى من
آثار الصالحين وكانت كثيرة ، ثمّ هدموا قبة مولد النبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ
مولد أبى بكر ، والمشهور بمولد سيدنا علي(ع) ، وقبة السيدة خديجة أم المؤمنين رضي
الله عنها ، وتتبعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين ، وهم أثناء هدمهم
يضربون الطبول ويرتجزون مبالغين في شتم القبور التي هدموها ، ولم تمضي ثلاثة أيام
إلاّ وقد محوا عموم تلك الآثار المباركة ، وقد نهبت الفرقة كل ما في الحجرة النبوية
من التحف والأموال والمجوهرات ، وطردوا قاضي مكة وقاضي المدينة ، ومنعوا الناس من
زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) )(صدق الخبر : صفحة 152) .
نعم ، يأبى أعداء الله والرسول وأهل بيته ، من أن تبقى تلك القباب البيضاء
الناصعة ، وتلك المشاهد والدور والقبور المشرّفة ، رمزاً خالداً للمسلمين ، يأبوا
من أن تبقى تلك المعالم الإسلامية صرحاً شامخاً يُشم منه عبق النبوة وريح التاريخ ،
وغبار المجد والتغيير والثورة على الجهل والباطل ، يأبوا إلاّ أن يطمسوا هذه
المفاخر والمنائر الإسلامية المحمدية ، لا لشيء سوى البغض لعلي (ع) ، واتباع سنة
إمامهم معاوية بن أبى سفيان وابن آكلة الأكباد عليهم لعنة الله ، الذي جعل من سبّ
أمير المؤمنين علي بن أبى طالب (ع) سُنة فوق المنابر ؛ وتطبيقاً لفتوى عاقة جائرة
لشيخهم ابن تيمية الأموي الناصبي ، الذي ما فتأ وتلميذه ابن القيم يمجدون معاويتهم
وابنه يزيد ، و محمد بن عبد الوهاب الذي تلقى عنهم .
قال شيخهم ابن تيمية في (منهاج السنة 185:3) : ( لم يكن من ملوك الإسلام
خيراً من معاوية ، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية ،
إذا نسبت أيامه إلى من بعده ، وإذا نسبت أيام أبى بكر وعمر ظهر التفاضل ، وقد روى
أبو بكر الأثرم ، قال : حدّثنا محمد بن عمرو بن جبلة ، حدّثنا محمد بن مروان ، عن
يونس ، عن قتادة ، قال : لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم:هذا المهدي ) .
الله اكبر يا ابن تيمية ، معاوية هو المهدي بتحريفه للوحي ، وبوضعه آلاف
الأحاديث المكذوبة على الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وبخروجه على خليفة المسلمين
وإمام زمانه علي (ع) في الجمل ، وبنكثه العهد بينه و الإمام الحسن(ع) ، وبقتله
الصحابي الجليل حجر بن عدي(رضوان الله عليه) ، وبجعله الحكم ملكاً عضوضاً يتوارثه
بني أمية ، الشجرة الملعونة في القرآن و و و ....
نعم ، هذا هو المهدي في نظر ابن تيمية ومَن والاه من النواصب ، جنود بني أمية أمثال : أبى بكر ابن العربي صاحب (العواصم من القواصم) ، ومحب الدين الخطيب ، وأبي منتصر البلوشي ، وعثمان الخميس الكويتي ، الذي صرّح من قناة المستقلة : أنّ يزيد هو أمير للمؤمنين صالحاً أم طالحاً ، وأنّ علياً لم يفعل شيئاً للإسلام في مكة سوى مبيته في فراش الرسول ليلة الهجرة!؟؟؟
والحديث لم يزل حول معاوية ، حيث يصرّح الأستاذ جورج جرداق في الجزء الرابع
من كتابه (الإمام علي) : ( إنّ أبرز الأمويين تمثيلاً لخصائص أمية هو معاوية بن أبى
سفيان ، وأول ما يطالعنا من صفاته أنّه لم يكن على شيء من الإنسانية والإسلام ) .
وذات يوم في الجاهلية تقاضى عبد المطلب جد علي (ع) وحرب بن أمية جد معاوية إلى نفيل
بن عدي فقضى لجد علي ، وقال لجد معاوية : أبوك معاهر وأبوه عف وذاد الفيل عن بلد
الحرام .
هذا هو معاوية،الذي هو لدى البعض وللأسف الشديد خليفة للمسلمين ومن الصحابة
الأجلاّء !!؟
ورجوعاً لهدم القبور، قال ابن القيم تلميذ ابن تيمية في كتابه زاد المعاد في هدى
خير العباد صفحة 661 : ( يجب هدم المشاهد التي بُنيت على القبور، ولا يجوز
إبقاؤها- بعد القدرة على هدمها وإبطالها- يوماً واحداً ) .
فما تقول في فتاوى أطلقها أُناس تسموا بالمشيخة وليسوا منها ، حيث أفتوا بوجوب هدم
القبور والمشاهد الشريفة ؟ وكانوا مصدراً للتكفير وللفتنة الدائمة ، و سبباً في
اتساع رقعة الخلاف بين أهل القبلة ، إذ لا ينظرون للأمور إلاّ بمنظار البدعة والشرك
والكفر!!
أجل ، فبعد احتلال الوهابيين للمدينة المنوّرة في عام 1344هـ ، استفتى
شيوخهم - تحت التهديد والترهيب - علماء المدينة حول وجوب هدم القبور ، حيث أرسل
الوهابيون قاضي القضاة في نجد سليمان بن بليهد إلى علماء المدينة يستفتيهم حول بناء
مراقد أولياء الله ، وكان يحمل أسئلة متضمنة الأجوبة من وجهة نظر الوهابيين ، وقد
صدرت الفتوى بوجوب الهدم وذلك تحت التهديد !؟؟
يقول سماحة العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني في كتابه الوهابية في الميزان
صفحة 54 : ( وهذا ما حصل بالفعل ، فبعد ما صدرت تلك الفتوى من خمسة عشر عالماً من
علماء المدينة ، وانتشرت في الحجاز ، بدأت السلطات الوهابية بهدم قبور آل الرسول
(صلى الله عليه وآله) في الثامن من شوال من نفس العام ، وقضت على آثار أهل البيت
عليهم السلام والصحابة ، ونهبت كل ما كان في ذلك الحرم المقدس من فُرش غالية وهدايا
ثمينة وغيرها ، وحولت تلك الزمرة الوحشية البقيع المقدس إلى رضوان الله عليه قفراء
موحشة ) وقد نشرت جريدة أُم القرى الصادرة في مكة ، في شوال 1344 تلك الأسئلة
والأجوبة ، وقد أثارت ضجة كبيرة بين أوساط المسلمين سنة وشيعة .
إنّ هذا العدوان السافر على آل الرسول (ع) ، ليس خطأ وليس اشتباهاً كما قال البعض ،
بل هو حقد دفين وبغض لئيم لعترة المصطفى(صلى الله عليه وآله) وشيعتهم ، فقد هجم
الوهابيون قبل ذلك في العام 1216هجرية على كربلاء المقدّسة ، وقتلوا زوار الحسين
(ع) ونهبوا ما في خزانة الحرم المطهّر، وقد ارتكب الوهابيون جرائم وفظائع لا توصف ،
فقد قيل : إنّهم قتلوا نحو خمسة آلاف مسلم ، أغلبهم من الأخوة الإيرانيين ، وكرروا
الهجوم على النجف الأشرف كذلك ، وقد فعلوا ومثّلوا تماماً كما فعل ومثّل يزيد
وجنوده في هجومه على مكة والمدينة.
والمجازر التي ارتكبت في مزار شريف وباكستان والعراق الجريح لم تزل رطبة ، وهي مثال
لعنجهية هؤلاء القوم ، الذين لا يعرفون من الإسلام إلاّ الشرك والتكفير والتصفية
الجسدية.
إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ، وسيعلم
الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلاّ على الظالمين .