أثر العترة في بقاء الإسلام
  • عنوان المقال: أثر العترة في بقاء الإسلام
  • الکاتب: جعفر مرتضى العاملي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 22:58:45 1-9-1403

أثر العترة في بقاء الإسلام

جعفر مرتضى العاملي 

بسم الله الرحمن الرحيم

و الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على خير خلقه ، و أشرف بريّته ، محمد و آله الطيبين الطاهرين . . و اللعنة على أعدائهم أجمعين ، إلى قيام يوم الدين .

و بعد . .

آيات كريمة :

قال الله سبحانه و تعالى في كتابه الكريم :

( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).

و قال تعالى :

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ).

و قال عَزَّ مِنْ قائل :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).

و قال تعالى كذلك :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ).

مفاد الآيات :

إنّ هذه الآيات قد أشارت إلى أمور هامة ، نذكر منها ما يلي :

الأمر الأول :

إنّها قد حددت مهمات النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، و من سبقه من الأنبياء بما يلي :

ألف : تلاوة آيات الله سبحانه على الناس الذين بعث إليهم و فيهم .

باء : تزكية نفوسهم ، و تصفيتها من كُلّ الشوائب التي علقت بها ، بسبب الشرك و الانحراف . و إعادة الفطرة إلى سابق نقائها ، و سلامتها ، و طهرها .

جيم : تعليمهم الكتاب بكلّ ما فيه من شرائع ، و أحكام ، و عقائد ، وسياسات ، و أخلاق ، و سلوك ، و عبر ، و حقائق ترتبط بكلّ ما في الكون و الحياة .

دال : تعليمهم الحكمة ، التي جُعِلَ تعليمها عدلاً لتعليم الكتاب . و هي تعني الوقوف على الحقائق و الدقائق و التفاصيل ، ليمكن للإنسان أن يحسن التقدير ، و ليستلهم عقله و قلبه صواب الحكم ، و صحة العمل .

ﻫـاء : الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .

واو : أن يضع عنهم إصرهم ( أي ثقلهم ) ، و الأغلال التي كانت عليهم .

الأمر الثاني :

 قد ذكرت الآيات الكريمة : أنّه إذا ما واجهت الأنبياء التحديات في مهماتهم تلك ـ و لابد أن تواجههم ـ فقد أنزل الله الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس ، ليكون هذا الحديد مفيداً في حل أي مشكل ، و إزاحة أي خطر .

و قد روي عن علي ( عليه السلام ) قوله : ( الخير كله في السيف . و ما قام هذا الدين إلاّ بالسيف . أتعلمون ما معنى قوله تعالى : ( ... وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ... ) ؟! هذا هو السيف ) .

بل إنّ نفس الآية المتقدمة التي ذكرت إنزال الحديد قد عقبت ذلك بالقول :

( ... وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ... ) .

ثمّ خلصت إلى القول :

( ... إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) في إشارة صريحة إلى الحاجة إلى التذكير بقوة الله و بعزته ، و في صراحة لا لُبس فيها بالحاجة إلى نصر الناس للرسل في مهماتهم التي يتصدون لها ، و في مواجهة التحديات و الأزمات .

و هذا النصر للرسول هو الذي أشارت إليه أيضاً آية سورة الأعراف ، حيث قررت أنّه لا بُدَّ من الاتباع ، و التعزير ( أي التوقير ) و النصر حين تمس الحاجة إلى ذلك .

إذن ، فهناك سلطة ذات قوّة ، يكون الحديد أحد وسائلها في مجال التنفيذ ، و لا يقتصر الأمر على مجرد التبليغ للأحكام ، و التعليم لها .

الأمر الثالث :

لقد ذكرت الآيات أيضاً : أنّ مسؤولية النبي ( صلى الله عليه و آله ) لا تنحصر بالذين عاصروه ، بل تتعداهم إلى آخرين من الأميين لما يلحقوا بهم ، فهو رسول الله للبشرية جمعاء منذ بعثته ، و إلى يوم القيامة .

فهو يتحمل إذن مسؤولية هدايتهم ، و رعايتهم ، و تزكية نفوسهم ، و تطهير أرواحهم ، و تعليمهم الكتاب و الحكمة ، ثمّ أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر ، ثمّ أن يضع عنهم إصرهم ، و الأغلال التي كانت عليهم .

الأمر الرابع :

إنّ الهدف من إرسال الرسل بالبينات ، و إنزال الكتاب و الميزان ، ـ أي المعايير و الضوابط و الأحكام ، ليكون العمل وفق الحكمة ـ هو أن يقوم الناس أنفسهم بالقسط و العدل ، من موقع إحساسهم بالواجب ، و بالمسؤولية الرسالية و الإنسانية .

طبيعة التشريع الإسلامي :

و لكي تستكمل الفكرة عناصر وضوحها نشير إلى أنّ هذا الإسلام العزيز إنما يهدف إلى إرجاع الإنسان إلى فطرته ، و تطهيرها من شوائب الانحراف ، ثمّ صياغة خصائصه الإنسانية بالنحو الذي يحقق الأهداف الإلهية التي يؤهله الله لها .

أنّه يريد أن يتدخل في كُلّ شؤون هذا الإنسان ، و أن يهيمن حتى على نواياه ، و خلجات نفسه ، و على عواطفه ، و مشاعره ، و أحاسيسه ، و تصوراته ، فضلاً عن روحياته ، و كُلّ خصائصه ، و ميزاته .

أنّه يريد منه أن يواجه التحدّي ليس في مجال الأمن و الدفاع و حسب ، و إنما في السياسة ، و الاقتصاد ، و التربية ، و العلاقات ، و في مختلف مجالات الحياة أيضاً .

أنّه يريد منه أن يطبق نظام عقوبات صارمة ، على قاعدة : النفس بالنفس والعين بالعين . و أن يقطع اليد ، و الرجل ، و أن يسجن ، و يجلد ، و ينفي ، و يصادر ، و أن يكبح جماح أصحاب الأهواء ، و محترفي الجريمة ، بل إنّ عليه أن يمنع الانحراف من الظهور في كُلّ محيطه . .

هذا كله عدا عن جهاده للمستكبرين ، و إحباط كيد العتاة و الجبارين .

و أهمّ من ذلك كله هو مواجهته لشهواته ، و غرائزه و أهوائه ، و طموحاته ، و رفض كُلّ المغريات التي تحيط به ، و ما أشدّها من مواجهة ، و أعظمه من جهاد ، هو الجهاد الأكبر الذي يصغر عنده كُلّ جهاد بالسيف ، حتى في بدر العظمى !!

هذا هو السؤال :

 و قد اتضح مما سبق أنّ المقصود من تعليم النبي ( صلى الله عليه و آله ) للكتاب ليس هو مجرد تلاوة ألفاظه على مسامعهم ، بل المراد تفهيمهم شرح معانيه و حقائقه ، و بيان مراميه و دقائقه . لأنّ مغزى هذا التعلم هو خروج الناس من الضلال المبين إلى الهدى ، كما صرحت به الآية الشريفة نفسها ، و هذا كله يدفع السؤال التالي إلى الواجهة ليقول :

أين هو تعليم رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) للكتاب ، الذي هو تبيان لكلّ شيء ؟! و أين هي بياناته لحقائقه و دقائقه . و لإشاراته و دلائله ؟

و أين هي الحكمة التي جعلها الله عدلاً للكتاب ، و قد علمها ( صلى الله عليه و آله ) للناس ؟! فهل تجد في كتب المسلمين من هذه الحكمة ، و من تعليم للكتاب ، ما يكفي لتطبيق هذه الآية الكريمة ، و تجسيد معناها ، بالنسبة لمن عاشوا مع النبي ( صلى الله عليه و آله ) و عاصروه ؟! فضلاً عن الآخرين الذين لما يلحقوا بهم ـ و هم أجيال كثيرة جداً ، متعاقبة ، و متلاحقة إلى يوم القيامة ـ و هو مبعوث إليهم جميعاً أيضاً ، و هم جزء من مهمته و مسؤوليته . فكيف استطاع ( صلى الله عليه و آله ) أن يقوم بهذا الواجب ، و أن ينجز مهمته تجاههم . من تلاوة الآيات عليهم ، و تزكيتهم ، و تربيتهم ، و رعايتهم ، و تعليمهم الكتاب ، و تعليمهم الحكمة ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيهم ، و وضع الإصر عنهم ، و الأغلال التي تكون عليهم ؟! و هو الأمر الذي يحتم عليهم مواجهة طواغيت العصور المتعاقبة ، و كُلّ الجبارين و العتاة ، فكيف واجههم ( صلى الله عليه و آله ) . و فرض الهيمنة الإيمانية عليهم ، و استفاد من الحديد و من البأس الشديد في أوقات الشدة ، و الخطر الداهم ، عبر الأجيال المتلاحقة ؟!

قبل أن نجيب على هذا السؤال نقول :

إذا كانت طبيعة هذا الدين تحتم فرض هيمنة قد تحتاج إلى الاستفادة من الحديد لأجل إنجاز المهمات الجسام ، و صيانة المنجزات ، و كان المتولي لفرض هذه السلطة في حياة النبي ( صلى الله عليه و آله ) كان الخلاف في أمر الإمامة و السلطة و الهيمنة قد ظهر بصورة عنيفة و قاسية ، بل كان أعظم و أخطر خلاف في الأمّة ، حتى ليقول الشهرستاني :

( و أعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة ، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية ، مثلما سُلَّ على الإمامة في كُلّ زمان ) .

و يقول البعض أيضاً : إنّ ترك أمر الإمامة من دون حلّ ( .. ) كان  سبباً لأكثر الحوادث التي أصابت المسلمين ، و أوجدت ما سيرد عليكم من أنواع الشقاق و الحروب المتواصلة ، التي قلَّما يخلو منها زمن ، سواء أ كان بين بيتين ، أو بين شخصين ) .

و إذا كان أمر الإمامة حساساً و خطيراً إلى هذا الحد ، فكيف يمكن أن نتصور أن يكون الله و رسوله ( صلى الله عليه و آله ) قد تركاه من دون حلّ ، خصوصاً و أنّ الله هو الذي يقول : ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

الجواب القرآني :

على أنّ الإجابة على ما طرح من تساؤل ، تتضح بصورة أتمّ بالعودة إلى القرآن الكريم حيث نجد فيه الإجابة الكافية و الوافية فهو تعالى يقول :

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ).

فإنّ هذه الآية قد نزلت في مناسبة إعلان يوم غدير خم ، فيما رواه المسلمون بطرق كثيرة ، و متواترة .

و قد أظهرت هذه الآية الكريمة : أنّ هذا البلاغ المطلوب يصادم توجهات كثير من الناس ، و أنّ نصيبه منهم هو الرفض الشديد إلى درجة احتاج النبي ( صلى الله عليه و آله ) معها إلى العصمة و الحفظ منهم .

و أظهرت أيضاً : أنّه بلاغ شديد الخطورة ، بحيث لولاه لم يمكن للرسول ( صلى الله عليه و آله ) تهيئة سبل إنجاز مهمته ، التي هي أساس و عنوان رسوليته ( ... وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) .

و لاسيما بالنسبة لمن يأتون بعده ، مع أنّه مبعوث إليهم ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ... ) . و قد قلنا : إنّ تلك المهمات هي تلاوة الآيات عليهم ، و تزكيتهم ، و تعليمهم الكتاب و الحكمة ، و الخ . .

بل أنّه ـ بدون هذا البلاغ ـ لا يكون قد حقق الإنجاز المطلوب منه حتى بالنسبة للأمم التي عاصرته ، بل و حتى بالنسبة للذين أسلموا معه ، و صاروا صحابته ، و الذين أظهر القسم الأعظم منهم الإسلام بعد فتح مكة في السنتين التاسعة و العاشرة ، أي قبيل وفاته ( صلى الله عليه وآله ) . حيث بدأت القبائل في سنة تسع توفد جماعات منها لإعلان الإسلام و الولاء ، فسميت تلك السنة بـ ( سنة الوفود ).

ثمّ توفي النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، و لم يكن الإسلام قد تجذّر أو استحكم في قلوب الكثير من هؤلاء الناس . فحاول أهل مكة أن يرتدّوا عن الإسلام بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكن سهيل بن عمرو قام فيهم ، و نصحهم ، و ذكّرهم بوعد النبي ( صلى الله عليه و آله ) بأنّ كنوز كسرى و قيصر ستفتح لهم ، فثبتهم بذلك . و هذا موقف محمود و مشكور لسهيل .

و لو إنّهم مضوا في ردّتهم لحدثت كارثة حقيقية على مستوى المنطقة بأسرها ، و بالنسبة لمستقبل هذا الدين . و لكن الله سلَّم ، و له المنة و الحمد .

خلاصات و بيان :

و خلاصة الأمر : أنّ هذا البلاغ ، الذي احتاج الرسول ( صلى الله عليه و آله ) معه إلى العصمة ، و الحفظ الإلهي من الناس كان جزءاً من الخطة الإلهية في نطاق تمكين النبي الأكرم ( صلى الله عليه و آله ) من القيام بمهماته الخطيرة في هداية الأمّة ، و رعايتها من موقع رسوليته ، و مبعوثيته لها ، سواء في ذلك من عاصره ، أو من جاء بعده و هي هداية أراد الله سبحانه و تعالى أن تكون له من خلال الرعاية و التنئشة الهادية ، وفق المعايير التي توصل إلى الأهداف الإلهية التي أراد الله سبحانه للأمّة أن تصل إليها ، و ذلك بدءاً بالتزكية ، ثمّ بتعليم الكتاب ، و تعليم الحكمة ، و انتهاءً بحراسة الواقع الإيماني ، و صيانته بالأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، و إقامة شرع الله سبحانه ، من موقع الهيمنة و السلطة ، حيث يكون الحديد بما فيه من بأسٍ شديد ، وسيلة صيانة للحق ، و سبب حفظ للدين .

التصريح و التوضيح :

و لكي تصبح الفكرة أكثر وضوحاً و تألقاً نقول :

لأنّ الإسلام بما له من مواصفات و خصوصيات ، و شؤون و حالات ، ثمّ بما له من شمولية و عمق ، و ما يحتاج إليه من ظروف و مناخات و قدرات و وسائل و أدوات .

و لأنّ هذا النبي الكريم ( صلى الله عليه و آله ) مبعوث للناس جميعاً ، سواء في ذلك من عاصره ممن أسلم ، أو لم يسلم ، و من جاء بعده من الأمم إلى يوم القيامة .

و لأنّ مهمته ( صلى الله عليه و آله ) لا تنحصر ببلاغ الأحكام الشرعية  ، و بعض التفاصيل الاعتقادية ، بل تتعدى ذلك إلى تزكية نفوسهم ، و تصفية أرواحهم ، و تعليمهم الكتاب و الحكمة ، و إقامة شرائع الله و أحكامه ، و نشر بيارقه ، و أعلامه .

و لأنّ طبيعة التشريع ، و خصوصيته ، و طبيعة التحديات التي ستواجه هذا الدين . تفرض امتلاك قدرات عملية ، فربما يكون الحديد بما فيه من بأسٍ شديد أحد مظاهرها .

نعم ، من أجل ذلك كله ، و سواه ، مما تقدمت الإشارة إليه ، جاءت الخطة الإلهية متناسبة مع طبيعة الهدف ، ومنسجمة مع حقائق الإسلام والإيمان ، ومنطلقة منها ، و توصل و تنتهي إليها . . فكان بلاغ الناس لذلك الأمر الذي يعني فقده أن يفقد الإسلام كينونته ، و يخسر حياته الفاعلة و المؤثرة : ( ... وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) .

و كان هذا البلاغ يحتاج إلى العصمة الإلهية أيضاً ، فكيف بما بعد هذا البلاغ ؟!

الاختيار الطبيعي :

و كان أهل البيت ( عليهم السلام ) هم عنوان هذا البلاغ ، و مداه . و هم روحه و حياته ، و محتواه إذ بجهادهم و جهدهم ، و قيادتهم للأمّة ، يتحقق الإنجاز الكبير ، و الخطير ، و يكون بقاء هذا الدين ، و ذلك لأنهم :

1 ـ هم التجسيد الحي للنموذج الخالص ، و المرآة الصافية التي تعكس الإسلام : عقلاً ، و روحاً ، و أحاسيس ، و مشاعر ، و ميزات ، و خصائص ، ثمّ نهجاً و موقفاً ، و حركة ، و سلوكاً . و كيف لا ، و هم الذين أذهب الله عنهم الرجس ، و طهرهم تطهيراً ، و هم صفوة الله من خلقه ، و خيرته من عباده .

2 ـ إنّهم أهل بيت النبوّة ، و معدن الرسالة ، و هم عيبة علم رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و هم أحد الثقلين اللذين لن يضلّ من تمسك بهما . و هم أيضاً سفينة النجاة و مصباح الهدى .

و من خلال هذين الأمرين تبرز أمام أعيننا حقيقتان :

إحداهما : أنّ هذين الأمرين يمكّنان أهل البيت من إنجاز مهمة التزكية الروحية ، و تصفية النفوس ، و تطهير الفطرة و تخليصها من كُلّ الشوائب التي علقت أو تعلق بها .

الثانية : إنّ هذه المعرفة الهادية ، و العلم الزاكي ، المتدفق من منبعه الأصفى ، هو الذي يرفد الفكر ليتحرك وفق الضوابط و المعايير ، التي لا يتنكر لها ، و لا يشذّ عنها . لينتج الوعي و الهدى و الصلاح في الأمّة كلها .

فالرسول يستطيع بهذه الطريقة أن يحفظ للأمّة المبعوث إليها حقّها في تعلّم الكتاب و الحكمة ، و في التزكية الروحية ، و في إقامة شرع الله ، و في وضع الإصر و الأغلال عنهم . و يعمل على نشر أحكام الدين ، و شرائعه في الوقت المناسب ، و بالأسلوب و الطريقة المناسبة .

و يكون بلاغ الرسول هو ذلك القرار الإلهي بإعطائهم ( عليهم السلام ) حقّ ممارسة الحاكمية ، و يحمِّلهم ـ من ثمّ ـ مسؤولية الرعاية ، و الهداية ، و التزكية ، بكلّ ما لذلك من مسؤوليات ، و مستلزمات ، و من آثار و تبعات .

و هذا يستبطن إلزام الأمّة بالطاعة و بالتسليم لهم ، و هم الأئمة الأطهار ، الإثنا عشر ( عليهم السلام ) ، و الثقل الذين لن يضل من تمسك بهم و بالكتاب ، و هم سفينة النجاة . التي تحمل هذه الأمّة إلى ساحل الأمان ، لتسير باطمئنان في دروب الخير ، و الهدى ، و الصلاح ، و السداد .

و ذلك هو ما نفهمه من تلك الآيات الكريمة و المباركة . و خصوصاً قوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) .

عصمنا الله جميعاً من الزلل و الخطأ ، في الفكر ، و في القول و العمل ، أنّه ولي قدير ، و بالإجابة حري و جدير .