نعمة النَّظر
إنَّ نعم الله تعالى على الإنسان لا تحصى، ومن نعمه الإلهيَّة الكبرى العين، إذ يبصر بها ما حوله من المخلوقات والأشياء، فيرى جمال الكون وعجائبه، إلى ما هنالك من فوائد كثيرة للعين، حتَّى قيل: "إن أردت أن تعرف نعمة الله عليك فأغمِض عينيك"، مع كلِّ هذا قد تكون العين وبالاً على الإنسان في دنياه وآخرته، إذا لم يحسن استخدامها ضمن الحدود الَّتي وضعها الله تعالى لها، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "كم من نظرة جلبت حسرة"1.
ولذلك نبَّهنا الله تعالى إلى خطورة أمر العين، فأرشدنا إلى استعمالها في الموارد المفيدة، كما في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾2.
ارتباط العين بالقلب
لقد حذَّرنا الله تعالى من استعمال نعمة البصر في الموارد المضِرَّة، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ...﴾3.
وقد أكَّدت الكثير من الرّوايات الشَّريفة على خطورة النَّظر المحرَّم على روح الإنسان المؤمن وقلبه، لدرجة أنَّها تفسد الإيمان وتنبت الفسق في نفسه، ففي الحديث عن النبيّ عيسى عليه السلام: "إذا أبصرت العين الشَّهوة، عمي القلب عن العاقبة"4.
"إياكم والنظر إلى المحذورات فإنها بذر الشهوات ونبات الفسق".
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "يا بن جندب! إنَّ عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه: إيَّاكم والنَّظرة، فإنَّها تزرع في القلب الشَّهوة وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه"5.
والرِّوايتان السَّابقتان تشيران إلى حقيقة وهي أنَّ العين لها تأثير كبير على القلب، فإنَّ كلَّ ما تُمعِن به العين، لا بدَّ من أن تنطبع صورته في عقل الإنسان وقلبه، ويترك آثاراً في روحيَّته ونفسيَّته، حتَّى لو نسيه في فترات معيَّنة، إلَّا أنَّ آثاره الباطنيَّة قد تبقى لتؤثِّر بشكل غير مباشر، أو لتتفَّعل في أوقات وظروف معيَّنة، لذا فإنَّ هذا الأمر خطير على الإنسان، حيث إنّ العين باب من أبواب حصن النَّفس، وفتح هذا الباب لكلِّ طالح سيلوّث النّفس ويُكّدِّر نقاءها، لذا ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "العيون طلائع القلوب"6.
من هنا كانت النَّظرة خطوة أولى من خطوات الشَّيطان، لإيقاع الانسان في الخطيئة والفاحشة الكبرى، لأنَّ الوقوع في الفواحش إنَّما يكون بمقدمات، يأخذ الشَّيطان الإنسان إليها خطوة خطوة، ولذلك قال ربنا: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾7، فالشَّيطان يستدرج الانسان دركة دركة. نظرة ثمَّ خطرة ثمَّ فكرة ثمَّ إرادة ثمَّ عزيمة ثمَّ وفي نهاية المطاف فعل.
عواقب النَّظر المحرَّم
إنَّ جزاء النَّظر المحرَّم عند الله تعالى شديد جدّاً، وقد عبّرت بعض الرّوايات عن عواقب من يملأ عينيه من النَّظر الحرام بصور عجيبة، منها:
1- يملأ عينيه نار: ففي الرِّواية عن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من ملأ عينه من حرام ملأ الله عينه يوم القيامة من النَّار، إلَّا أن يتوب ويرجع"8.
2- يؤدِّي إلى الحسرة والنَّدامة: قال الإمام عليّ عليه السلام: "كم من نظرة جلبت حسرة"9.
3- الغضب الإلهيّ: فعن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اشتدَّ غضب الله عزَّ وجلَّ على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها، أو غير ذي محرم منها"10.
4- الغفلة والهوى: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإيَّاكم وفضول النَّظر، فإنَّه يَبْذُرُ الهوى ويُوَلّد* الغفلة..."11.
وقال الإمام عليّ عليه السلام: "ليس في البدن شيء أقلُّ شكراً من العين، فلا تعطوها سؤلها، فتشغلكم عن ذكر الله عزَّ وجلَّ"12.
آثار غضِّ البصر
لغضِّ النَّظر آثارٌ نورانية وبركات عظيمة نذكر منها:
1- رضا الله تعالى، والثَّواب العظيم: قال الإمام الصَّادق عليه السلام: "من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السَّماء أو أغمض بصره لم يرتدَّ إليه طرفه حتَّى يزوِّجَه الله من الحور العين"13.
2- حلاوة الإيمان: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "النَّظرة سهم مسموم من سهام، إبليس فمن تركها خوفاً من الله أعطاه الله إيماناً، يجد حلاوته في قلبه"14.
3- راحة القلب: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "من غضَّ طرفه، أراح قلبه"15.
4- الأمن من وسوسة الشَّيطان: قال الإمام عليّ عليه السلام: "العيون مصائد الشَّيطان"16.
5- حلاوة العبادة: في الحديث الشَّريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مسلم ينظر امرأة أوَّل رمقة ثمَّ يغضَّ بصره إلَّا أحدث الله تعالى له عبادة يجد حلاوتها في قلبه"17.
6- مشاهدة العظمة والجلال: وهي تحفظ الإنسان عن الوقوع في الذُّنوب. ففي الحديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغضِّ البصر، فإنَّ البصر لا يغضُّ عن محارم الله، إلَّا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال"18.
كيف يغضُّ الإنسان بصره؟
غضُّ الطَّرف يحتاج إلى معرفة، وإلى عزيمة، وقوَّة إرادة. فعلى المكلَّف أن يعرف الآثار، والعواقب الوخيمة لهذه الآفة، ثمَّ عليه أن يشحذ همّته لمخالفة النَّفس، عندما تسوّل له النَّظر إلى ما يحرم النَّظر إليه.
قال الإمام السَّجاد عليه السلام: "وأمَّا حقُّ بصرك فغضُّه عمَّا لا يحلُّ لك وترك ابتذاله إلَّا لموضع عبرة، تستقبل بها بصراً أو تستفيد بها علماً، فإنَّ البصر باب الاعتبار"19. ويمكن أن تكون هناك بعض الأمور الَّتي تساعد على غضِّ البصر، منها:
1- قطع النَّظر من البداية:
فالرَّجل الَّذي يتبع النَّظرة الأولى الثَّانية، ولا يغضُّ الطَّرف عمَّا حرم عليه كمثل رجل ركب فرسًا جديدًا فمالت به إلى درب ضَيِّق بحيث تنفُذ فيه هذا الفرس بصعوبة، وإذا دخلت فإنَّه لا يستطيع أن يستدير بها، فيه، فإذا همَّت بالدُّخول في النَّفق قام الفارس بكبحها ومنعها من الدُّخول. أمَّا لو توانى حتَّى دخلت، وساقها الفارس طوعا إلى داخل النَّفق، ثمَّ عمد لاحقا إلى إخراجها من النَّفق بجذبها من ذنبها، لعسر عليه ولتعذَّر عليه إخراجها. وفي نفس الوقت لن يقول عاقل أنَّ طريق تخليصها بسوقها إلى الدَّاخل أيضاً؟
فكذلك هي حال النَّظرة إذا أثَّرت في القلب، ولم يردعها الإنسان قبل أن تلج مضائق الحرام. وإن كرَّر النَّظر ونقَّب في محاسن الصُّورة، ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكَّنت المحبَّة وكلَّما تواصلت النَّظرات كانت كالماء يسقي الشَّجرة، فلا تزال شجرة الحبّ تنمى حتَّى يفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن، ويلقي القلب في التَّلف. والسَّبب في هذا أنَّ النَّاظر التذَّت عينه بأوَّل نظرة، فطلبت المعاودة كأكل الطَّعام اللَّذيد إذا تناول منه لقمة. ولو أنَّه غضَّ أوَّلاً لاستراح قلبه وسلم.
2- معرفة الله ومراقبته وتقواه:
إنَّ معرفة الله تعالى، ومراقبته وتقواه، هي أمور أساسيَّة في حفظ الإنسان، وابتعاده عن المحرَّمات. فينبغي العلم بأنَّ الله بصير بالعباد، وأنَّه يرى وأنَّه رقيب وأنَّه يعلم السِّرَّ وأخفى، ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾20.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سئل: بما يستعان على غمض البصر؟ فقال: "بالخمود تحت سلطان المطلع على سرِّك"21..
3- الحياء من الله تعالى:
وذلك بالمراقبة والخوف من الله عزَّ وجلَّ والعمل بوصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال:
"أوصيك أن تستحي من الله،ـ تعالى، كما تستحي من الرَّجل الصَّالح من قومك"22.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيوا من الله حقَّ الحياء، قيل له: يا رسول الله: إنّا لنستحيي من الله حق الحياء، فقال: ليس كذلك، من استحيا من الله حقَّ الحياء فليحفظ الرَّأس وما وعى، والبطن وما حوى وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدُّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقَّ الحياء"23..
4- العزم الصَّادق والإرادة القويَّة:
فالله تعالى، كما يقول في كتابه الكريم، لا يغيَّر حال النَّاس ما لم يعزموا بأنفسهم على التغيير، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾24. فإذا عزم الإنسان وجاهد نفسه فترة، أتاه نصر الله وهداه سواء السَّبيل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾25.
5- إشغال النَّظر بما هو مفيد:
ومن مظاهر ذلك، النَّظر إلى خلق الله من السَّموات والأرض، والتَّفكُّر في عظمة الخالق، وآياته: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾26. إنَّ للتَّفكُّر بآيات الله دور كبير وحاسم في نهي النَّفس، وردعها عن الحرام، لأنَّها سوف تشغلها بالله وعظمته الَّتي لا حدَّ لها.
6- معرفة عواقب النَّظر المحرَّم:
وهو من الأمور المساعدة إلى حدٍّ كبير لمعالجة هذه الآفة المهلكة، فإنَّ لمعرفة عواقب وآثار النَّظر المحرَّم، قوَّة ردع تحظر على الإنسان أن يتساهل مع هذه المعصية، أو أن يستخفَّ بها.
7- الزَّواج:
لقول النَّبيِّ: "يا معشر الشَّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، فإنَّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصَّوم، فإنَّه له وجاء"27..
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- بحار الأنوار، ج 68، ص 293.
2- سورة الغاشية، الآيات 17-20.
3- سورة النور، الآيتان: 30-31.
4- ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، ص 35.
5- الحرّانيّ، تُحف العقول، ص 305.
6- م. ن.
7- سورة البقرة، الآية 168، والآية 208، سورة الأنعام، الآية 142.
8- الصَّدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4، ط 2، قم، مؤسَّسة النَّشر الإسلاميّ، 1404هـ، ص 14.
9- تحف العقول، ص 90.
10- ثواب الأعمال، ص 286-287.
11- تُحف العقول، ص 119.
(*) يُوَلّد أو يُوْلِد، مع ملاحظة أنَّ الكلمة غير مُشكَلَة في الأصل، ولعلّ الصَّحيح يُوَلّد بتشديد اللام.
12- وسائل الشيعة، (آل البيت)، ج 20، ص 193.
13- مستدرك الوسائل، ج 14، ص 268.
14- بحار الأنوار، ج 101، ص 38.
15- مستدرك الوسائل، ج 14، ص 271.
16- كنز العمّال، ص 327.
17- م. ن، ج 5، ص 372.
18- بحار الأنوار، ج 101، ص 14. (تحقيق: البهبوديّ)
19- رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام (راجع: تحف العقول، م. س، ص 257).
20- سورة النّور، الآية: 30.
21- بحار الأنوار، ج 101، ص 41.
22- روضة الواعظين، ص 460.
23- الكراجكي، كنز الفوائد، ط 2، قم، مكتبة المصطفويّ، 1369ش، ص 98.
(*) ملاحظة في الأصل ورد ما لفظه: "فليحفظ الرّأس وما حوى والبطن وما وعى" ولعله من سهو الناسخ، لأنّ الوعي من صفات العقل، ويؤيِّد ذلك أنه ورد في كتاب: روضة الواعظين (م. س، ص 461) ورد الحديث باختلاف يسير ولكن فيه ما لفظه: "فليحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى.
24- سورة الرَّعد، الآية: 11.
25- سورة العنكبوت، الآية: 69.
26- سورة فُصِّلت، الآية: 53.
27- كنز العمّال، ج 16، ص 272.