من الواضح أنّ العلاقة بين الآباء والأبناء هي من أسمى العلاقات الإنسانيّة لأنّها ترتبط بنظرة كلٍّ من الأب والإبن إلى الآخر، فالأب يرى أنّ ولده هو قطعة منه كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام لولده الإمام الحسن (عليه السلام): (وجدتك بعضي بل وجدتك كلي)1، والولد يرى أنّ أباه هو سبب وجوده في هذه الدنيا، ومن هنا فإنّ العلاقة التي تربطهما هي علاقة فطرية وتكوينية موجودة في أعماق نفس كلّ واحد منهما ولا مجال لأن تنقطع، بعكس أيّة علاقةٍ أخرى تربط بين شخصين حيث تكون قابلة للإنقطاع لسببٍ أو لآخر كعلاقة الزوج بزوجته، أو الصديق بصديقه أو الشريك بشريكه.
ولهذا فرض الإسلام على الأب أن يتحمّل مسؤولية تربية ولده بما يتوافق مع الأهداف الإلهية للحياة البشرية، من دون إهمالٍ أو تفريط.
وبالرجوع إلى النصوص الشرعية نجد أنّ الإسلام قد أوجب على الأب خصوصاً وعلى الأم أن لا يهملا أيّ جانبٍ من الجوانب الدخيلة في تربية ولدهم التربية الصحيحة.
فقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق ما يلي: (وحقّ ولدك أن تعلم أنّه منك ومُضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنّك مسؤولٌ عمّا ولّيته من حسن الأدب، والدلالة على ربّه والمعونة على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مُثاب على الإحسان إليه، مُعاقب على الإساءة إليه)2.
وإذا أردنا توضيح هذا الكلام بطريقةٍ مفصّلة نقول ما يلي:
أولاً: أنّ الولد هو جزءٌ من أبيه، والوالد هو سبب وجوده في هذه الدنيا، فهو بالتالي مسؤولٌ عنه في السرّاء والضرّاء، فإن كان الولد ذا تربية حسنة امتدح الناس أباه، وإذا كان الولد ذا تربيةٍ سيّئة وجهت الناس اللوم إلى الأب لأنّه أهمل تربية ولده وتهذيبه وتأديبه.
ثانياً: ربط الوالد ولده بالله سبحانه وتعالى من خلال تعليمه الأحكام الشرعية التي تجعل الولد يضع قدماً في خط الإيمان والإرتباط بالله عزّوجل، وعلى رأس ذلك الصلاة والصوم وكلّ المفردات الأخرى للعبادة كالدعاء وقراءة القرآن والتردّد إلى المسجد والمجالس الدينية، وعلى الأب أن يستعمل كلّ وسائل الترغيب والتشجيع ليعين ولده على التزام النهج الإسلامي السليم ويختاره خطاً لسير حياته في المستقبل.
ثالثاً: إنّ تربية الإبن هي مسؤولية كبيرة ألقاها الإسلام على عاتق الأب لأنّه المسؤول الأول والأخير عنه، فإن أحسن تربيته كان له بذلك الأجر والثواب العظيمان عند الله عزّوجل، لأنّه حفظ ولده وصانه من الضياع وقام بواجب التربية كما ينبغي، وإن أهمل تربيته أو لم يحسنها فهو مطالبٌ عند الله على ذلك لأنّه فرّط في حفظ ولده ولم يعلّمه أو يؤدبه بالشكل السليم الذي يصونه في المستقبل.
وبالإجمال فإنّ الولد أمانة شرعية في يد الأب، والأمين عليه أن يتعامل مع الأمانة بدون تفريطٍ أو إهمال أو تجاوزٍ للضوابط الشرعية، وأمانة الولد لا تضاهيها أيّة أمانةٍ أخرى في قيمتها الروحية والمعنوية والإنسانية لأنّه يترتّب عليها مجموعة من المسؤوليات المرتبطة بالفطرة التكوينية المغروسة في نفوس الآباء تجاه أبنائهم، ولذا نجد أنّ القرآن الكريم يعبّر عن الولد بقوله:﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... ﴾ 3، والزينة هي ما يتجمّل بها الإنسان، ولا يكون الولد زينة إلاّ إذا كان الأب قد أحسن تربية ولده وتأديبه كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم، فإنّ أولادكم هدية إليكم)4.
وأمّا حقّ الولد على أمّه فهو كبيرٌ جداً، وقد خلق الله المرأة وهي مؤهّلة للقيام بدور الأمومة على الوجه الأكمل، وحقّ الولد على أمّه يبدأ من حين بداية تكوّنه في رحمها حيث عليها أن تحفظ النطفة الملقَّحة حتى يخرج إلى الدنيا.طفلاً صغيراً، ثمّ حقّه عليها أن ترضعه من حليبها المملوء بكلّ ما يحتاجه الطفل من الغذاء المادي والروحي والمعنوي، وحقّه عليها أن تحنو عليه وأن تحتضنه، ومن هنا أعطى الإسلام للأم "حقّ الحضانة" وجعله من واجباتها الأساسية تجاه ولدها، لأنّ الطفل في تلك السنّ المبكرة هو أحوج ما يكون إلى الأم التي تعطيه من حنانها ودفئها وعاطفتها وروحها، ولذا نرى أنّ حياة المرأة كزوجةٍ من دون وجود ولد يختلف جداً عن دورها بعد أن تصبح أمّاً لأنّها في هذه الحالة صارت مسؤولةً عن نفسٍ بشرية عليها أن تتعهدها بالحضانة التي خصّها الله بها لكي تعطي ولدها كلّ ما يحتاج من عناية ورعاية، لأنّ حضانة الأم هو دورٌ عظيمٌ جداً في حياة المرأة، لأنّ هذا الدور هو الأساس الذي يؤهّل الطفل للمراحل المقبلة من الحياة، وقد ورد في حقّ الرضاع: (ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة من لبن أمه)5، ما أروع ما ورد عن الإمام زين العابدين من التعبير عن حقّ الولد على أمّه حيث قال (عليه السلام): (فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمى، وتنعمك ببؤسها وتلذذك بالنوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاءً وحجرها لك حواء، وثديها لك سقاء، ونفسها لك وقاء، تباشر حرّ الدنيا وبردها لك ودونك)6.
وعندما تلتزم الأم بحضانة ولدها كما قال الإمام زين العابدين فتكون الأم قد قامت بحقّ ولدها تمام القيام ويصبح الطفل مؤهّلاً معنوياً ومادياً للإنتقال إلى المرحلة اللاحقة من حياته، حيث لا ينتهي دور الأم، بل تصبح المسؤولية أكبر لأنّها العين الساهرة على ولدها خصوصاً مع انشغال الأب بمسؤولياته تجاه أٍسرته، فالأم هي الرقيب والساهر والحصن الذي يحمي الأولاد ويجمعهم تحت ظلّها المشفوع بالحنان والعطف والحب، ولذا ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الجنة تحت أقدام الأمهات)7 نظراً لدورها الأساس في حضانة ولدها ورعايته والسهر على راحته ولو على حساب تعبها وجهدها.
وأمّا آداب تعامل الأبوين مع الأبناء فخير ما يعبّر عنه ذلك هو ما ورد في القرآن الكريم عن قصة لقمان وابنه حيث قال تعالى:﴿ ... يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ... ﴾ 8 ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ... ﴾ 9 ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ... ﴾ 10 ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ... ﴾ 11.
حيث نرى في هذه الآيات مجموعة من الآداب والفضائل التي تصلح أن تكون نموذجاً إلهياًً مهمّاً في طريقة تعامل الأبوين مع الأبناء.
فعلى الأب أن يعامل ولده وكذلك على الأم أن تتعامل مع ولدها بنفس الروح المسؤولة والمحبة، لأنّ كلاً من الأبوين لا يريدان لأولادهما إلاّ ما هو في صالحهم وخيرهم للدنيا والآخرة.
هذا مع ملاحظة أنّ الأبناء ذكوراً وإناثاً يرون في الوالدين القدوة والأسوة والنموذج، ولذا يبقى على الوالدين أن يكونا متوازنين في شخصيّتهما الإسلاميّة حتى يتمكنا من معرفة طريقة التعامل مع الأبناء التي تقوّي الإرادة عندهم وتنمِّي شخصيّتهم وتجعلهم مؤهلين للتعامل مع المجتمع الكبير الذي ينطلقون إليه بدءاً من البيت الذي آواهم والأبوين الذين تحملا مسؤولية تربية أبنائهما.
من هنا فإنّ تعامل الأبوين مع الأبناء لا بدّ أن ينطلق من منطلق إسلامي تربوي وأخلاقي يوجِّه الأبناء نحو كلّ ما يقوّي إيمانهم ويزيد من ثقتهم بأنفسهم ويحقّق لهم الشخصية المتوازنة التي يمكن أن تجد لها مكاناً محترماً في المجتمع.
وبالجملة فطريقة تأديب الوالدين لأولادهما ينبغي أن ترتكز على قاعدة أساسية (أنّ الإبن لديه الإستعدادات للتلقّي والإنطلاق في الحياة ولكن مع كبح الجموح والإيقاف عند الضوابط الشرعية والأخلاقية والسلوكية، فلا يعطي الأبوان الحرية الكاملة لولدهما من دون مراقبة، ولا ينبغي التضييق عليه إلى الحد الذي ينفر فيه الولد منهما بسبب توهّم عدم ثقة الأبوين به).
والحمد لله ربّ العالمين12.
_____________
1. بحار الأنوار /ج4/ص199.
2. شرح رسالة الحقوق /ص581.
3. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 46، الصفحة: 299.
4. شرح رسالة الحقوق /ص582.
5. الكافي /ج6/ص40/ح1، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)..
6. تحف العقول /ص 263..
7. مستدرك الرسائل /ج15/ص180/ح17933.
8. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 13، الصفحة: 412.
9. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 17، الصفحة: 412.
10. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 18، الصفحة: 412.
11. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 19، الصفحة: 412.
12. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد (حفظه الله).