عن الإمام الباقر «عليه السلام» قال: «ما من عبد إلاّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا تغطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداَ، وهو قول الله عز وجل: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 1»2.
من يسبر آيات القرآن الكريم، وينظر في الرّوايات المأثورة عن النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة الطاهرين من أهل البيت «عليهم السلام» يتبيّن له جليّاً أنّ ما يصيب الأفراد والمجتمعات من نكبات ومآسي هو عقاب وجزاء لهم على تخلّفهم عن القوانين الإلهية، بارتكابهم المخالفات الشرعية، فمثلاً يذكر لنا القرآن الكريم قصة قوم سبأ وكيف أنّهم تعدّوا على القوانين الإلهية، فمارسوا المخالفات الشرعية، وارتكبوا من الذنوب ما استحقّوا بموجبه أن يحرمهم الله شيئاً من نعمه التي وهبها لهم، والتي كانت تعني لهم الكثير، حيث انعكست آثارها على حياتهم فأورثتهم حياة سعيدة هانئة خالية إلى حدٍّ كبير من الأزمات لا سيما الاقتصاديّة والمعيشيّة منها، فلما أن أعرضوا عن الله وتعاليمه وأعرضوا عن شكره سبحانه على نعمه هذه عاقبهم سبحانه فسلب منهم تلك النعم، وأبدلهم عنها ما لا ينتفعون به أو ما كان انتفاعهم منه محدوداً جدّاً، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ 3.
ومن الرّوايات ما عن الإمام الباقر «عليه السلام» أنّه قال: «إنّ الله قضى قضاءً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة»2.
وعن الإمام الرضا «عليه السلام» قال: «كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون»4.
وعن الإمام الباقر «عليه السلام» قال: «إنّ العبد ليذنب الذّنب فيزوى عنه الرّزق»5.
إنّه عقاب أليم إنْ صرف عن العبد الرّزق، حيث سيعيش الفقر والفاقة والعوز والحاجة، هذا إذا كان المراد بالرّزق هنا ما يتعلّق بأمر المعيشة والنفقة فقط، وأمّا إذا كان المراد به المعنى الشامل لكل أفراد الرّزق فقد يكون الحرمان من بعض أفراده عقاباً أشد وأقسى وآلم من الحرمان من رزق المعيشة والنفقة.
وعن أبي أسامة عن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: سمعته يقول: «تعوذوا بالله من سطوات الله بالليل والنهار، قال: قلت له: وما سطوات الله؟ قال: الأخذ على المعاصي»6.
وعن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها، لأنّ الله تعالى ليس بظلام للعبيد»7.
فآثار الذنوب خلاف آثار التقوى، فبينما تدخل الذنوب الإنسان في الأزمات والمآسي تكون التقوى - التي هي الائتمار بأوامر الله والانتهاء عن نواهيه - مخرجاً له من كلّ ما يحل به من أزمات الحياة ومصاعبها، قال تعالى: ﴿ ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ 8، وقال: ﴿ ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ 9.
فمن يعيش المآسي ويتعدّى على القوانين الإلهية فلن يجد المخرج مما ألمّ به من مآسي إلاّ بالكف عن المعاصي، فهو إن خرج من نكبة ستحل به نكبة أخرى بل نكبات، أمّا من يعود إلى الطاعة المطلقة لله ويدخل في كنف التقوى، ويرجع إليه سبحانه مستغفراً تائباً مما سلف من ذنوبه، فإن الله سيجعل له المخرج مما ألم به من مصاعب الحياة وأزماتها، بل سيغدق عليه من نعمه وخيراته، قال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ 10.
نعم قد يصاب العبد ببعض المصاعب وهو يعيش في إطار خط الاستقامة، وهذه المصاعب وإن كان ظاهرها النقمة، إلاّ أنها تتضمن في باطنها الرّحمة، حيث تكون ابتلاءاً منه عزّ وجل لعبده ليسمو به في مراتب الكمال الرّوحي والقرب الإلهي.
هناك رواية عن الإمام الصادق «عليه السلام» يقول فيها: «من يموت بالذّنوب أكثر ممن يموت بالآجال»11، وهذه حقيقة، فالموت هنا يشمل الموت الحاصل من جراء الذنوب التي يمارسها العبد بنفسه، والتي يكون من آثار بعضها قصر العمر وبتره كقطيعة الرحم مثلاً، ففي الرّواية عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنّه قال: «ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلاّ صلة الرحم، حتى أنّ الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولاً للرحم فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون قاطعاً للرحم فينقصه الله ثلاثين سنة ويجعل أجله إلى ثلاث سنين»12.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: قال أمير المؤمنين «عليه السلام» في خطبته: «أعوذ بالله من الذنوب التي تعجل الفناء، فقام إليه عبد الله بن الكواء اليشكري، فقال: يا أمير المؤمنين أو تكون ذنوب تعجل الفناء؟ فقال: نعم ويلك قطيعة الرحم»13، أو من الذنوب التي يصاب الإنسان بسبب ارتكابه لها بالأمراض والعلل الفتاكة التي تقضي عليه وتسلبه حياته، كالأمراض التي تصيبه بسبب ممارسته لمعصية الزنا واللواط، من الزهري والسيلان ونقص المناعة وغيرها.
أو الموت الحاصل بسبب العقاب الإلهي الجماعي الذي يعاقب الله سبحانه وتعالى به المجتمعات الإنسانية بسبب تماديهم في الذنوب وابتعادهم عن نهج الحق وتعديهم على القوانين الإلهية كما حصل ويحصل بواسطة الأوبئة والزلازل والعواصف والأعاصير والفيضانات وما شاكل ذلك14.
أو الموت الحاصل بسبب الحروب والاقتتال واعتداء الظالمين والمجرمين وأهل الجور والطغيان على غيرهم بإزهاق أرواحهم، فهو أيضاً موت بسبب الذنوب، لكن لا يكون بسبب ذنب العبد بنفسه وإنما بسبب ذنب القتل الذي مارسه الظالم والمعتدي والجائر.
فإذا ما قارنّا عدد من يموت بالذنوب لما ذكرناه وما لم نذكره من أسباب بعدد من يموت بحلول أجله نجد أنّ من يموت بالذنوب هم الأكثر والأغلب.
إنّ من أعظم آثار الذنوب تلك الآثار التي تعود على النفس، فالنّفس الإنسانية وقبل أن تتلوّث بالذنوب تكون نقيّة طاهرة يشعُّ فيها نور الفطرة، إلاّ أنّ الذنوب تقضي على هذا النقاء، فتصاب النفس بالتكدّر والظلمة، ويضعف فيها نور الفطرة، وبالتوبة تعود إلى صفائها ونقائها ويعود النور فيها إلى حالته السابقة، وهذا ما أوضحته الرّواية التي تصدرنا بها الحديث، ففيها يقول الإمام الباقر «عليه السلام»: «فإن تاب ذهب ذلك السواد»، أي ذهب وانقشع ما أصاب النفس من أثر المعصية، كما وأشارت إلى ذلك الرّواية المرويّة عن النبي «صلى الله عليه وآله» والتي يقول فيها: «إنّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فان تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ذاك الرّين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 1»15، فقوله «صلى الله عليه وآله»: «فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه» يدل على أن أثر التوبة على النّفس في عودتها إلى صفائها ونقائها بعد تلوّثها بآثار المعاصي كبير جدّاً، ولعل استعماله «صلى الله عليه وآله» لفظة «صقل» دون غيرها من الألفاظ التي تدل على إزالة الشيء بعد أن علق بآخر، لأنّ هذه اللفظة لا تدلُّ على الإزالة فقط، بل تدل على الإزالة مع الجلاء واللمعان، فدل ذلك على أنّ بالتوبة عن المعصية تعود النفس إلى نقائها كما كانت عليه قبل ممارسة صاحبها للمعصية، وهذا هو أحد معاني قول الإمام الباقر «عليه السلام»: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»16.
وأمّا إذا لم يتب العبد من ذنوبه، وتمادى وداوم في ممارسته لها، فإنّ أثرها يكون على النّفس عظيماً جدّاً17، قد يصل إلى مرحلة تعمّ الظلمة النّفس وينعدم نور الفطرة فيها انعداماً تامّاً، فتصدأ النفس وتصاب بالرّين، بحيث أنّ صاحب هذه النفس وبسبب تقييد الذنوب له لا يمكنه الرّجوع إلى خط الاستقامة، وهذا ما أوضحته رواية الإمام الباقر «عليه السلام» قال: «وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا تغطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً وهو قول الله عز وجل: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 1» فينجرُّ من فعل ذنب إلى فعل ذنب آخر، ويتدرّج من فعل الذنوب ذات الأثر السلبي الأقل إلى ما كانت آثاره أكبر وأعظم، ولعل هذا ما يوحيه قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ 18، في أحد معانيه، فالذنب الواقع على نفس الإنسان له أثر كبير في إضعاف إيمانه بل وإعدامه فيصل به إلى حد يكذب بآيات الله عزّ وجل، ويستهزئ بها ويسخر منها، وإلى مرحلة من القسوة حيث تنعدم الرحمة والرأفة من هذه النفس، ولا تؤثر فيها الموعظة والنصيحة أبداً، قال الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام»: «ما جفّت الدّموع إلاّ لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذّنوب»19.
«إنّ نظرة واحدة في صفحات تاريخ كثير من الجناة والبغاة تكشف أنهم لم يكونوا هكذا في بداية الأمر، إذ كان لديهم على الأقل نور من إيمان ضعيف يشعُّ في قلوبهم، ولكن ارتكابهم للذنوب المتتابعة سبب يوماً بعد آخر أن ينفصلوا عن الإيمان والتّقوى، وأن يبلغوا آخر الأمر إلى المرحلة النّهائية من الكفر»20.
إذاً فالذنوب هي الموجب لهلاك الإنسان، وهي مصدر شقائه دنياً وآخرة، فحريٌّ به أن يجتنبها ويبتعد كل البعد عنها، بل عليه أن يبتعد عنها ليس فقط على مستوى الممارسة والفعل وإنّما على مستوى التفكير أيضاً، فالشريعة الإسلامية لا توجه المسلم إلى الابتعاد عن اقتراف المعاصي فقط وإنما توجهه أيضاً إلى عدم التفكير فيها، فعن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «صيام الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام»21.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» أن نبي الله عيسى بن مريم قال للحواريين: «إن موسى نبي الله «عليه السلام» أمركم أن لا تزنوا وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا، فضلاً عن أن تزنوا، فإن من حدث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت»22، وذلك لأنّ مجرّد التفكير في الذنب يوجد ظلمة في نفس الإنسان، ويؤثر في صفائها، نعم ليس هذا الأثر كالأثر الحاصل عليها بعد فعل الذنب، فمما لا شك فيه أنّ أثر فعل الذنب أكبر وأعظم من أثر التفكير فيه دون ارتكابه23.
_____________
1. a. b. c. القران الكريم: سورة المطففين (83)، الآية: 14، الصفحة: 588.
2. a. b. الكافي 2 /273.
3. القران الكريم: سورة سبإ (34)، الآيات: 15 - 17، الصفحة: 430.
4. الكافي 2 /275.
5. الكافي 2/ 275.
6. الكافي 2/ 269.
7. بحار الأنوار 70/ 264.
8. القران الكريم: سورة الطلاق (65)، الآية: 2، الصفحة: 558.
9. القران الكريم: سورة الطلاق (65)، الآية: 4، الصفحة: 558.
10. القران الكريم: سورة نوح (71)، الآيات: 10 - 12، الصفحة: 570.
11. ميزان الحكمة 3/ 381، برقم: 6849.
12. الكافي 2 /153.
13. الكافي 2 /348.
14. لا يجزم أن يكون كل زلزال أو عاصفة أو إعصار أو فيضان يموت بسببه أناس هو عقاب من الله عزّ وجل.
15. مسند أحمد 2 /297.
16. بحار الأنوار 6 /41.
17. فإنّ أثر الذنوب على النفس كأثر المرض الخبيث الذي يصيب العضو من الجسد فإن لم يستأصل سينتشر إلى أن يعم ذلك العضو ويفسده فساداً تاماً إلى درجة أنّه قد يؤدي في أغلب الحالات إلى القضاء على حياة الإنسان، ولذلك قال الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام»: «لا وجع أوجع للقلوب من الذّنوب». «الكافي 2 /275».
18. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 10، الصفحة: 405.
19. ميزان الحكمة 3/380، برقم: 6834.
20. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 12 /438.
21. موسوعة أحاديث أهل البيت 8 /519.
22. الكافي 5 /542.
23. المصدر كتاب "دروس من وحي الإسلام" للشيخ حسن عبد الله العجمي حفظه الله.