عندما تتحدث عن الشهداء، تتواضع الأقلام ويجف مدادها خجلاً أمام عظمتهم. عندما تبحر في متون وصاياهم ومفرداتها تنساب ريح هادئة من عالم آخر عرفوه حق المعرفة، ولا مكان فيه للزيف أو الرياء. كلمات صادقة خُطت بدمهم القاني، ليست بحاجة إلى دليل عن صدقيتها، إذ إنهم كمن كشف له الغطاء فأصبح بصرهم حديدا. عرفوا الدنيا لكنها لم تأسرهم بحبها فأعرضوا عنها طائعين، فأحياهم الله في كتابه العزيز ﴿بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾.
كلماتهم تضج «حزماً في لين» و«إيماناً في يقين وحرصاً في علم وعلماً في حلم» كما وصفهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فهم «أهل الفضائل ومنطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع». ملامحهم تظهر بين سطور وصاياهم، فيفوح منها عبق الإيمان والتقوى والولاية والجهاد والتضحية والإيثار واليقين من النصر بتحقيق إحدى الحسنيين. «أنتم تعلمون أن طريقنا طريق ذات الشوكة والصعاب، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين». يقول الاستشهادي صلاح غندور (ملاك) في وصيته. أما الشهيد المجاهد محمد منيف أشمر فيخاطب إخوانه المجاهدين في وصيته بالقول «عليكم بالجهاد لأننا وخاصة في هذا الوقت، نحن بحاجة ماسة إلى جهودكم وإلى قدراتكم في الميادين الجهادية، حيث ان الجهاد يعتبر من دعائم الإيمان وهو على أربع شعب، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين… وعليكم أيها الإخوة الأعزاء والمجاهدون الصابرون أن تثبتوا على عزمكم في الدفاع عن الإسلام». وصاياهم تتمحور حول مجاهدة (إسرائيل) والتشديد على وحدة المسلمين لتتكامل في منظومة واحدة يكمل بعضها بعضا، وتؤكد أهمية سلوك درب الجهاد وتأثيره على قوة الأمة وعزتها. يقول الشهيد المجاهد جلال علي بليبل: «إن قضية الجهاد لها قيمة في الإسلام باعتبار أنها توحي بقوة الأمة ووحدتها، والجهاد هو الطريق الذي سلكه المسلمون ليقطعوا سبيل الفتنة في العالم». كما تشير وصايا شهداء آخرين إلى أهمية تقديم مصلحة الإسلام والمسلمين على المصالح الخاصة الضيقة والشخصية، ويشير آخرون إلى أهمية تلافي الفتن التي يخطط لها الأعداء بين المسلمين، الشهيد المجاهد (علي قاسم ياسين ۱۹۸۹) يوصي إخوانه المجاهدين ويقول «أوصيكم أن تضحوا بمصالحكم الخاصة لأجل مصلحة الإسلام العامة». وفي العنوان التفصيلي للجهاد ضد (إسرائيل) تظهر وصايا الشهداء وعياً سياسياً رفيعاً وثقة كاملة بالنصر حسب وصية الشهيد هاني علي طه (۱۱/۱۲/۱۹۹۴) الذي يقول: «نحن نعرف أن إسرائيل التي يتحدثون عنها بأنها القوة التي لا تقهر لا تعني شيئاً أمام قبضات المجاهدين ودماء الشهداء»… وببصيرتهم الثاقبة أدركوا منذ البداية عظيم المسؤولية الملقاة على عاتقهم فكانوا أهلاً لها، وأدركوا المؤامرات وتحدثوا عنها وحذروا منها. يقول الشهيد هاني علي طه: «هؤلاء الذين يسيرون على خط أهل البيت (عليهم السلام) وعلى خط سيد الشهداء من أبناء المقاومة الإسلامية، الذين يتعبون ويسهرون ويرابطون على الثغور من اجل الحفاظ على هذه الأمة وكرامتها وحريتها. كنت اكره أصحاب النفوس المريضة التي كانت تحيك المؤامرات ضد المقاومة الإسلامية، لكن بفضل الله كشفت هذه المؤامرات وما كان لله ينمو». علم ومعرفة الشهداء بواقع الصراع الذي يخوضونه لم يقتصر على معرفة ميدانية أو قطرية إنما كانت رؤيتهم شاملة، ومؤمنين بصوابية وحقانية هذه الرؤية التي أثبت الواقع أنها عين الحقيقة. وتظهر وصية الشهيد محمد علي ياسين ـ شمران (۳/۱۱/۱۹۹۴) هذه الحقيقة بالقول: «أوصيكم إخوتي بخط الجهاد الذي هو منار الأمة وعز الأمة، لعل الله يرحم هذه الأمة بجهادكم لعدوكم، لان الله ينظر نظرة غاضب ساخط على هذه الأمة التي أرادت ذل الاستسلام والمفاوضات مع العدو الصهيوني الذي هو عدو الله والإنسانية، لعل الله سبحانه وتعالى يفرّج عنا ويتفضل علينا…. أوصيكم بالمقاومة الإسلامية. أوصيكم بالانتفاضة الإسلامية. أوصيكم بالصحوة الإسلامية … حافظوا على دينكم وإسلامكم… حافظوا على وحدتكم التي هي أقوى قوة على عدوكم». التأكيد على حفظ المقاومة الإسلامية لا يفارق أي وصية من وصايا الشهداء أو الاستشهاديين أو الشهداء القادة وهي كما وردت على لسان سيد شهداء المقاومة السيد عباس الموسوي… «الوصية الأساس حفظ المقاومة الإسلامية»، وردت في وصايا الجميع ومنها وصية الشهيد حسن عباس ياسين الذي يقول: «إخواني اعرفوا أن المقاومة الإسلامية عزنا وفخرنا، وسيد الشهداء منارة دربنا.. أوصيكم بالتقوى وأوصيكم بالحفاظ والدفاع عن المقاومة الإسلامية، وعن ارض جبل عامل والبقاع الغربي وكل بقعة من البقاع الإسلامية»…. ويتابع في وصيته: «إخواني: اعرفوا أن وجودنا وبقاءنا وحماية الأماكن المقدسة لا تبقى إلى ببذل الدماء الطاهرة في سبيل المولى عز وجل، ويجب عليكم أن تحفظوا وصية سيد شهداء المقاومة الإسلامية وهي أن حفظ المقاومة الإسلامية من الواجبات الأساسية، وأيضاً قول الإمام الخميني الراحل إن جهاد حزب الله في لبنان حجة على علماء العالم». هي كلمات من نور، ولكنها قبسات سريعة تبقى عاجزة عن تفسير كنه ذلك البحر الواسع من الفيض الإلهي الذي يجسده الشهداء فكانت «أنفسهم عفيفة صبروا أياماً قصيرة أعقبتها راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها».