ثم إنّ علماء الغرب قد وظّفوا هذا التحليل لخدمة مصالحهم ومذاهبهم الاجتماعية الفاسدة والباطلة، ولخدمة التيارات المنحرفة التي نرى ظلالها بصورة واضحة على الحياة بكل ألوانها، كأمثال «فرويد» و«ماركس» ، حيث أنّهم يعتقدون بأصل واحد وهو رجوع كل قضية اجتماعية وفكرية الى الجنس أو الاقتصاد، ويصرّون على توجيه كل شيء على هذا الأساس والأصل.
وبالإضافة إلى أنهم لم يتمكنوا من تأسيس نظريات في الأخلاق أو علم الاجتماع أو في سائر العلوم الإنسانية التي تتقاطع مع مبادئ الفكر المادي الذي يعتمدونه في بناء حضارتهم، وهو ما يتجلى بوضوح في العلوم الطبيعية والكيمياء والفيزياء، حيث نجدهم يحاولون إنكار بعض الظواهر التي تدل على التوحيد وصدق العقيدة، وتوظيف مثل هذه العلوم لخدمة الفكر المادي.
إنّ مشكلة الازدواجية من المشاكل الاجتماعية المتفشية، التي يحاول الفكر المادي إن يطرحها بأسلوب وكأنها من السمات العصرية للمجتمع والفرد، حيث يعتبر الفرد الناجح والسوي هو الذي يستطيع إن يوفق بين افراد المجتمع بكل ألوانه وطوائفه رجالاً ونساءً؛ لذا نرى بوضوح اليوم كيف يتعامل الغرب مع القضايا الاسلامية بازدواجية واضحة (1) فكما أنّ الازدواجية حالة فردية، فإنّها ممكن أن تكون حالة اجتماعية تعم المجتمع، وتصبح سمة من سماته، بل الصفة الغالبة في تعامله مع باقي المجتمعات، وهذا ما سنراه في ما عرضه القرآن الكريم عند الحديث عن مجتمع بني إسرائيل، ولكن قبل بيان ذلك ارتأينا أن نبيّن بعض الأمور.
معنى الازدواجية
لقد جاء في المعاجم اللغوية إن الازدواجية هي من باب ازدوج والافتعال (الازدواج)، (ازدوجاً) اقترنا و القوم تزوج بعضهم من بعض والكلام أشبه بعضه بعضاً في السجع أو الوزن و الشيء صار اثنين.( 2)ومن المجاز : تَزاوَجَ الكَلامانِ وازْدَوَجَا . وقالوا على سَبِيلِ " المُزاوَجَة " هو والازْدِواجُ بمعنىً واحدٍ . وازْدَوَجَ الكلامُ وتَزاوَجَ : أَشْبَهَ بَعضُه بعضاً في السَّجْعِ أَو الوَزْن أَو كان لإحْدَى القَضِيتَّينِ تَعَلُّقٌ بالأُخرَى. وفي اللسان : والافتعالُ من هذا البابِ ازْدَوَجَت الطَّيرُ ازْدِوَاجاً فهي مُزْدَوِجَةٌ
وتَزاوَجَ القَوْمُ وازْدَوَجُوا : تَزَوَّجَ بعضُهُم بعضاً . صَحَّت في ازْدَوَجُوا لكَوْنِهَا في معنى تَزَاوَجُوا.انتهى
ولا يختلف المعنى الاصطلاحي للأزدواجية عمّا جاء في المعنى اللغوي، الذي من خلاله نفهم إن الازدواجية للنفس الإنسانية شيء طارئ عليها، ثم باقترانه مع النفس تصبح صفة لها، لذا عرّفها البعض بأنّها: (هي حالة نفسية فيها يكون للشخص صورتان مختلفتان, الصورة الواقعية الأساسية التي يحيا بها والتي أوجدها له الله, والصورة الأخرى غير واقعية اختلقها لنفسه.(3 )
الفرق بين النفاق والازدواجية:
قد يرد على ذهن القارئ سؤال كيف نميّز بين حالة الازدواجية والنفاق؟
أليس هما حالة واحدة ؟ وهل الشخصية الازدواجية التي تمارس الدورين معاً إذا ظهرت عليها اثار أحد القطبين كانت مدعية، مرائية، منافقة؟
الجواب كلا إنّهما حالتان مختلفتان وإن اشتركتا في بعض الأسباب والآثار إلا أنّه يمكن الفصل بينهما من خلال علامات للشخصية المنافقة حيث ذكر (أربعة من علامات النفاق: قلة الديانة وكثرة الخيانة وغش الصديق ونقض المواثيق).(4 )
وقد ورد عن الرسول(صلى الله عليه وآله) في رواية له عن علائم المنافق حيث يقول: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً وان صام وصلى وزعم انه مسلم، من إذا أؤتمن خان، و إذا حدث كذب و إذا وعد اخلف...) (5 ).
الأولى: الخيانة
إنّ الخائن منافق؛ وذلك لأنّه يتظاهر بالأمانة وهو في الواقع خائن، وعلى هذا لا يمكننا أن نأتمنه بيت المال، قد يكون البعض أمناء تجاه الأموال القليلة إلا أنّهم يفصحون عن واقعهم الخائن عند ائتمانهم على الأموال الطائلة.الثانية: الكذب
إن الكاذب منافق؛ وذلك لأنه يبطِّن نوايا قذرة ومخالفة للحقيقة والواقع من خلال تملقه الكلامي، رغم أنه يصلي ويقرأ دعاء الندبة والتوسل وغيرهما.الثالثة: خلف الوعد
إنّ الذي يخلف الوعد منافق؛ وذلك لأنَّ الوفاء بالوعد ضروري من الناحية الاخلاقية ومن الناحية الفقهية قد يكون واجباً أحياناً.
والحاصل:
هو أن الفارق الجوهري بينهما هو إن المنافق ملتفت لإظهار ما يناسب ظرفه من أفعال وكلام، حيث يضمر شيئاً ويظهر شيء مخالف لما في وجدانه، وهو عالم بما يقوم به من هذا الدور القبيح، بينما الإنسان الأزدواجي لا يمارس مثل هذا الدور، بل هو غير ملتفت إلى أنه يقوم بدورين، وله جابين، فهو يجد نفسه سوية وليس لديه شك في أنّ تصرفاته مخالفة للأصول أو للقيم الإنسانية، بل يشعر أنّه موفق لإصابة مثل هذه الامور المنحرفة، مثلاً، وكذلك إصابة أمور أخلاقية حسنة، وان كان البعض(6) يعتبر النفاق أعم من الأزدواجية، وكل ازدواجية هي نفاق، وليس كل نفاق ازدواجية، ولكن الصحيح ما بيناه.
الشخصية الازدواجية:
لا نعني بها كون الشخصية التي تظهر شيئاً وتضمر شيئاً آخر، اعتقاداً أو ظناً، فمثل هذه الشخصية تمارس النفاق، بل نعني بها الشخصية التي تمتاز بحالة ذاتية أو باطنية فيها اكثر من قطب ، وأكثر من توجه تتصارع هذه الاقطاب والتوجهات فيما بينها من أجل الظهور والبروز على ساحة النفس، فقطب من هذه الجهة، وقطب من الجهة المقابلة، بحيث تقتسم النفس كأن شيئاً منها للفضيلة خاصة، و شيئاً منها للرذيلة خاصة، فترى الرجل المسلم مثلاً يأكل الربا ولا يبالي عن ابتلاع أموال الناس، و لا يصغي إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم، ويجتهد في الصلوات المفروضة، و يبالغ في خضوعه وخشوعه، أو أنه لا يبالي في إهراق الدماء و هتك الأعراض والإفساد في الأرض، ويخلص لله أي إخلاص في أمور من الطاعات والقربات.
وهذا هو الذي يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد تعددها وتنازعها، وهو أن تنازع الميولات النفسانية المختلفة، ويثور بعضها على بعض بالتزاحم و التعارض، و لا يزال الإنسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر الملكتان فتزدوجان، وتتصالحان ويغيب كل واحد منهما عند ظهور الآخر، واستنهاضها وإمساكها على فريستها(7).
ولما كان هذان القطبان في حالة توازن، فليس من السهل أن يتغلب أحدهما على الآخر، فيصير المظهر مرهون بالظرف الخارجي، فإن حصل موقفاً من المواقف التي تتعرض لها النفس في الحياة اليومية، وكان الموقف موافق لأحد القطبين، فقد جاءه دعم من الخارج، وعندها تظهر الشخصية التي تحمل سمات هذا القطب، فتمثله بكل ما فيه من سمات.
وإذا جاء الظرف الموافق للقطب الآخر ظهر تأثير هذا القطب أيضاً، وعندها تظهر عليه آثاره، فهو في حالة ظهوره في أحدى الحالتين، فيعبر عما في باطنه عن ذلك؛ لذا ترى صاحب هذه الشخصية تظهر منه بعض التصرفات التي قد تسبب للمقابل الدهشة والامتعاض أحياناً، والاشمئزاز أو النفور أحياناً أخرى؛ وذلك عندما تظهر آثار القطب الذي يكون منبع الآثار القبيحة والمنحرفة، خصوصا إذا كان هذا الفرد ممن يتصف بالأخلاق الحسنة والإيمان وكثرة الطاعة والعبادة .
أسباب الازدواجية :
بما إن الازدواجية من الحالات المرضية للفرد والمجتمع، فلابد من معرفة الأسباب التي تؤدي للإصابة بها، وسنقتصر على أهم هذه الأسباب الجوهرية بالنسبة لها، مع الالتفات إلى أننا سنأخذ أحد معاني القلب المتعددة، الذي هو عبارة عن وعاء أعدّه الله سبحانه وتعالى لخزن آثار الأفعال والأفكار، لا أنّه يخزن نفس الأفعال والأفكار، وإنّما بخصوص الآثار التي ترد على النفس من ظرف المحيط، أو الفكرة التي يتبناها الشخص، أو السلوك الذي يسلكه، فعلى سبيل المثال، الطفل الذي يعيش في بيئة فاسدة أو منحرفة، يتعرض يومياً إلى مشاهد منحرفة كأن يسمع كلام قبيح، إلى أن يكبر على ذلك، ففي بدايته ليس لديه موقف تجاه هذه القضايا، وبعد أن يصل الى مرحلة متطورة فانه يبدأ يسجل الموقف تجاهها، إما تأييداً أو رفضاً، هذا من حيث تأثير البيئة.
وهنا لدينا عدة تصورات عن هذه الشخصية، إما أن تكون متقبلة لما هو موجود من افكار وسلوكيات منحرفة والفاسدة، فلا يختلف عن البيئة التي يعيش فيها، وحينئذ يقبل ما يفعله وما يفعلوه (أفراد بيئته) من افكار منحرفة وسلوكيات ذميمة؛ ولذا نجده يقدم عليها بدون ادنى تردد، فمثل هذه الشخصية يكون خزين الآثار للتجارب والأفكار والأفعال لديه في هذا الوعاء (القلب) عبارة عن ترسبات هذه الآثار التي تشابه التوجه العام الذي يعيشه في هذه البيئة المنحرفة، فسلوكه وفكره يشابه ما هو موجود في البيئة، فهذه الآثار تمثل قطباً، وهذا القطب يكون تأثيره على مثل هذا الشخص سلبياً، فكلما مرّ بفكرة أو سلوك أو فعل منحرف يجد لنفسه ميل وتلقي بالقبول، لأنه أسس قطباً كاملاً من هذه الامور( وأصبحت شخصيته تتسم بالشعور بالنقص الذي يدفعه إلى الخوف من العواقب)(8 ).
وفي المقابل فالطفل الذي يعيش في بيئة صالحة فيها الاخلاق والخير والمعروف، ويكتسب منها التجارب الخيرة ويتعلم الافكار الصحيحة ...، ولا يكون مجبوراً علية، فيتولد من ذلك قطباً خيراً يخزن فيه الآثار لهذه الأمور الصالحة، وهذا القطب يستدعي منه فعل الخير والسلوك الخير في مقابل ذاك القطب الذي يكون مستدعياً للفعل القبيح وللشر (وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَرِعُونَ فِى الاِْثمّ وَالْعُدْوَنِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(9 ).
وهذين القطبين إذا وجدا عند الشخص تسمى هذه الحالة بالاثنينية في الوجدان الدخلي أو التعددية في الوجدان الداخلي، وهذه هي الحالة التي يسميها علماء النفس (الازدواجية في الشخصية).
وقد تكون هناك اسباب اخرى هي بمثابة عوامل مساعدة على نشوء مثل تلك الحالة، نذكر بعض منها، (الرغبة في إرضاء الآخرين لنوال المديح منهم بغض النظر عن الواقع الذي يعيشه الشخص، الرغبة في جذب أنظار وانتباه الآخرين، الإعجاب بالآخرين، والرغبة في تقليدهم، الإصابة ببعض الأمراض النفسية تجعل صاحبها يعيش في الازدواجية، و أحيانا كثيرة تأتي كنتيجة لفراغ في الحياة غير مشبع.وأيضاً تأتي كنتيجة لإرادة ضعيفة لا يمكن أن تتخذ قرارات حاسمة)(10 ).
طرح القران للمشكلة وعلاجها :
لم يتعرض علماء النفس لمعالجة هذه الحالة بمثل ما طرحه القرآن الكريم، حيث طرحها بأسلوب يشمل جميع ما يرتبط بهذه الشخصية، حيث تتطرق الآيات المتعددة فيه بأسلوب رائع وفني لم يعهد مثله قبل القرآن الكريم، إذ إنّها جميعاً توحي بأن هذه من الحالات التي لابد من الالتفات إليها، أن يعرف منشأها أولاً وأسبابها وإبعادها وعواقب وجودها لدى الفرد والمجتمع، ومن ثم معالجتها بلمسات الود والمحبة والرحمة التي لا وجود لها اليوم في عالم المادة والقسوة لدى الطبيب، حيث يرى المتأمل بالآية (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )(11 ) الرين: صدأ يعلو الشيء الجليل، كصدأ على جلاء قلوبهم، فعمي عليهم معرفة الخير من الشر، انتهى.
فكون ما كانوا يكسبون وهو الذنوب رينا على قلوبهم، هو حيلولة الذنوب بينهم و بين أن يدركوا الحق على ما هو عليه.
ويظهر من الآية:
أولا: إن للأعمال السيئة نقوشاً و صوراً في النفس تنتقش و تتصور بها.
و ثانيا: أن هذه النقوش و الصور تمنع النفس أن تدرك الحق كما هو و تحول بينها و بينه.
وثالثاً: أن للنفس بحسب طبعها الأولي صفاء و جلاء تدرك به الحق كما هو وتميز بينه وبين الباطل وتفرق بين التقوى والفجور قال تعالى: (ونفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها)(12 )، وهنا تبيّن الآية إن لدى النفس قلباً له القابلية على جمع الاثار وتصدير ردود الأفعال والانعكاسات(13 ) وغيرها من الآيات التي تتحدث عن القلب ، والآيات التالية تتناول العاقبة والآثار المترتبة على وجودها لدى الفرد قال تعالى: (مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(14)
فقد جاء في تفسير الآية (أي إن بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان، وإنّ إيمانه ضعيف جدّاً. ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، وعبارة «على حرف» ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصاً من نوره إلاّ قليلا، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه، فأحد معاني «الحرف» هو حافّة الجبل والأشياء الاُخرى. والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ. فهو قلق في موقفه هذا، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.
ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام. إلاّ أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّاً، وإلاّ فلا..)(15 ).
والآية (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)(16 ) حيث فسر الختم بعدة وجوه: أحدها: إن المراد بالختم العلامة و إذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم الله تعالى أنه لا يؤمن فإنه يعلم على قلبه علامة و قيل هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها فيذمونه و يدعون عليه كما أنه تعالى يكتب في قلب المؤمن الإيمان و يعلم عليه علامة تعلم الملائكة بها أنه مؤمن فيمدحونه ويستغفرون له و كما طبع على قلب الكافر و ختم عليه فوسمه بسمة تعرف بها الملائكة كفره فكذلك وسم قلوب المؤمنين بسمات تعرفهم الملائكة بها و قد تأول على مثل هذا مناولة الكتاب باليمين و الشمال في أنها علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة و المناول بالشمال من أهل النار و قوله تعالى « بل طبع الله عليها بكفرهم » يحتمل أمرين أحدهما أنه طبع عليها جزاء للكفر و عقوبة عليه و الآخر أنه طبع عليها بعلامة كفرهم كما تقول طبع عليه بالطين و ختم عليه بالشمع (وثانيها) أن المراد بالختم على القلوب إن الله شهد عليها و حكم بأنها لا تقبل الحق كما يقال أراك تختم على كل ما يقوله فلان أي تشهد به و تصدقه و قد ختمت عليك بأنك لا تفلح أي شهدت و ذلك استعارة (و ثالثها) أن المراد بذلك أنه تعالى ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنه لا يدخلها الإيمان و لا يخرج عنها الكفر.(17 )
أما الروايات التي تحدثت عن القلب ودوره وأهميته في تربية الشخصية فهي كافية في اعطاء التصوير الواضح للمشكلة وهذه بعض منها وتركنا التفصيل فيها إلى بحث اخر حول معنى القلب في القران إن شاء الله تعالى .
منها: روى العياشي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما من عبد مؤمن إلا و في قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء فإذا تاب ذهب ذلك السواد و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا و هو قول الله تعالى (كلا بل ران على قلوبهم) الآية و قال أبو عبد الله (عليه السلام) : يصدأ القلب فإذا ذكرته بآلاء الله انجلى عنه)(18)
وبعضها ذكرت القلب على انه من الأوعية، فقد جاء هذا المعنى في رواية: أن لله عز وجل في عباده آنية وهي القلب فأحبها إليه أصفاها وأصلبها وأرقها: أصلبها في دين الله، وأصفاها من الذنوب، وأرقها على الإخوان(19).
وان القلب ييتقلب ليستقر على الحق أو الخير أو على الباطل أو الشر. وعن فضالة، عن أبي المغرا ، عن أبي بصير، عن خثيمة بن عبد الرحمن الجعفي قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : إن القلب ينقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق ، فإذا أصاب الحق قر ، ثم ضم أصابعه وقرأ هذه الآية (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا)(20)
أما ما تعرض له القرآن من الناحية الاجتماعية لهذه المشكلة، فقد ذكر مثالاً لذلك مجتمع بني إسرائيل، وما كان له من سمات ومميزات افرزت مسألة الازدواجية بصورة واضحة عليه، حتى صارت طابعاً يمتاز به دون غيره ، حيث كانت الازدواجية في التعامل مع باقي الشعوب، وكذلك في جانب الازدواجية في الالتزام بالأحكام الإلهية(21).
والنتيجة إن هذه الظاهرة نراها موجودة في نسبة كبيرة من الافراد في المجتمعات الاسلامية و(إنّ من أعظم المصائب التي ابتلي بها الاسلام والمسلمون هي الازدواجية ، وهي ان يعيش الانسان حالتين في ذاته متناقضتين) (22).
و(إنّ الازدواجية بين الضعف و القوة تشمل جميع الكائنات دون استثناء و هي القاسم المشترك بين الجميع)(23).
وعليه فالإسلام دعا إلى محاربة هذا التوجه السلوكي، ومحاولة ترجيح قطب الخير على قطب الشر، وخلق فردا (يصدق مع نفسه، ويصدق مع ربه، ويصدق مع الناس.. والصدق بالنسبة إليه جزءٌ لا يتجزّأ من صميم وجوده وكيانه، فلا يعيش الازدواجية والنفاق والثنائية؛ فما يقوله هو ما يؤمن به، وما يفعله هو ما يؤمن به، وما يؤمن به يقوله ويفعله. وليست هناك أيّة مسافة بينه وبين الواقع الخارجي. فما يقوله للآخرين هو نفسه الذي يقوله لربه، وما يفعله هو الذي يرتاح إليه ضميره في الدنيا، ولن يخجل منه لدى لقائه ربَّه في يوم القيامة)(24) وأيضاً، تخفيف معانات الفرد المبتلى بهذه الحالة ، لأنه يعيش حالة صراع مرير، بين قطبيه المتقاطعين وهذا الصِراع يحطم الشخص الذي لديه مثل هذه الحالة .
وهذه الحالة لها جانبين جانب يعود عليه، وجانب يعود على المجتمع، فهو له شرين شر على نفسه، وشر على الناس، فمن الجانب النفسي يخلق حالة من النفور من الصالحين، لأنه شخص يخدع الآخرين بأساليب عجيبة لا تصدر من شخص يظهر بمظهر الصالحين، ويؤدي إلى تمزيق الدين؛ لأنه يجعل الناس تشك في عقائدها لانه معروف بالعبادة مثلاً.
ومن منا من لم يصطدم مع مثل هؤلاء فالاسلام يعمل على تقوية القطب الخير على ذاك القطب الشرير،لذا فإن القران يفتح الافاق والأنظار ويوجهها إلى هذا النوع من الشخصيات، ويريد من الانسان أن
يلتفت الى شخصيته
إلا انه من الخطأ إن يعتمد الانسان في تقييم سلوكه على ظرف محدد كأن يكون ظرف السراء والدعة - مثلا – فأن السلوك يتأثر سلبا وإيجاباً حينما تختلف الظروف والأحوال وهذا ما اشار اليه القران في قوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) (الاحزاب/23) ، فإذا كان تبدل الظروف يؤثر على سلوكه الخير سلبا فإن ذلك حتما يعبر عن إرباك في شخصيته،لان ذلك يعني انه ليس لديه عقيدة ة واسلام صحيح وذلك لأن لديه تعددية والاسلام يريد بناء شخصية ثابتة وتربيتها مرتكزة على اسس متينة وقوية حتى نتخلص من هذا التلون، ونكون في مأمن كمجتمع وكفرد من هذا التلون، بدرجة هذا التثبيت هو العمل الصالح بالمقابل يعيش الظالمون حالة الضياع والضلال فهم في تيه مستمر لا يقر لهم أي قرار ، فلابد إن يقف الؤمن موقفا ثابتا من حيث تقرير مصيره ومهما امتد به الامل، وان ما ورد من روايات وأدعية من قبيل دعاء العديلة وما شابه ذلك يستحب ذكرها عند ساعة الاحتضار فإنه لا يعدو كونه متما من متممات العمل الصالح وليس هو الداعي لأساس لتقرير مصير المؤمنين بينما الانسان الذي قضى عمره بالخير والطاعة والاخلاق الحسنة والسعي للوصول الى الله يكون عمله هو مؤيد له .اذن عبادة الله يجب ان تكون خالصة لوجهه الكريم ، وليست هي على حرف أوليست متاثرة بظرف وليست هي عبادة لله منحرفة عن خط الدين الحق.
وأمّا العبادة غير الخالصة لله تعالى فلا تأتي مثل هذه العبادة ثمارها، لأن صاحبها لديه افكار يؤمن بها لاعلاقة للدين بها، سرعان مايسقط في ابسط امتحان يتعرض له، لانه ليس لديه اي ثوابت ، واليوم نرى كثير من الناس يتعبدون ويصلون ويعمل الطاعات والنوافل ، ولكنه يرى الدين من وجهة نظره ، ولايقبل بعض التكاليف الشرعية التي تعودعلية بالتعب، والارهاق فهو لا يريد ان يتحمل بعض مشاق الشريعة ،حيث نعلم ان في الشريعة تكاليف فيها جهاد فيها ايثار فيها بذل وتضحية .
فهو يقضي اوقاته بالعبادة والزيارات ولكنه يعبد الله على حرف . فهذه عبادة على حرف ، فالحرف له عدة معاني منها فهم خاطئ للشريعة ،ومنها ظرف من الظروف التي يعيشها الانسان ،وممكن أن يكون الحرف هو شيء يدفع الانسان أويهئه للتعبد ،أوهو وجهة نظره حول العبادة .
فهذا النوع من الشخصية عرضة للفتنة كما تصرح به الاية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)
وحيث نلاحظ مثل هذا الشخص قد قضى فترة طويلة بالعبادة ،والطاعة والتدين، وعند تعرضه للفتنة سقط فيها فهو خسر طاعته ،وعبادته،
وهذا مصير الأنسان المتلون حيث يخسر الاخرة بفقد عباداته وطاعاته وكذلك خسر الدنيا من خلال فقدان ثمرات التي جمعها في فترة حياته من خلال طاعاته حتى فقد عصمته . وعمله الصالح .فلا يصلح للدنيا ولا يصلح للاخرة فهو خاسر من الطرفين ان صح التعبير .. وهذه التعددية في الوجدان، لا يخلو منها إنسان تقريبا إلا أن تقول أن هذا الانسان لاتوجد عنده من بداية حياته أفكار تتقاطع مع الدين، ولم تؤثر عليه البيئة في قبول، وخزن آثار أفكار وسلوكيات منحرفة، ،فهذا اذا امتحنه الله ،فهو يخرج معدنه الاصلي ولا يخاف عليه .
وسنة الافتتان جارية من الله في الخلق فكل انسان يتعرض للإمتحان فأما أن يكون صادق في باطنه ويخرج صدقه ، وأما أن يكون باطلا في باطنه فيخرج ماكان يجمعه من فساد .
والملاحظ أن الحالة هذه لا تستمر مع صاحبها إلى نهاية العمر فالحياة فيها مواقف متعددة ولاتكون على نسق واحد حتى يبقى الانسان على حاله فالمصير اما الى رسوخ الايمان والسعادة في الدنيا واما الطبع او الختم على هذه القلوب بالكفر والنفاق فهذه عاقبة الفرد الازدواجي (أعاذنا الله من هذه الحالة) لذا تطرقت بعض الايات الى العاقبة فمرة تصرح بالختم والطبع ومرة بالخسران.
علاج الحالة :
يمكن تلخيص العلاج لهذه الحالة على المستويين، النظري والعملي، وذلك عن طريق:
أولا: السعي على تحصيل فكر قوي ورصين يحقق الثابت الأول وهو العقيدة الحقّة، ويتم ذلك عن طريق الوعي بالقرآن والاطلاع على تفسيره والأخذ بما يقوله القرآن عن طريق اهل البيت(عليهم السلام) والعلماء الربانيين الذين ينهلون من منهل الشريعة الحقّة.
وثانياً: لابد من تحقيق سلوكاً عملياً يتفق مع سلوك الإسلام والقيم الصحيحة، حتى يتحقق الثابت الثاني؛ لذا نرى القران في الاية (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ )(25).
وهذا ما يتعرض له بعض الباحثين، حيث قال:(ولا نجاة من تلك الازدواجية إلا بتطبيق كامل لشرعة الله في المعاملات والجنايات والحدود وغيرها، وتغيير القوانين الوضعية. وبالفعل برقت آمال في اتجاهات صادقة نحو قوانين الشريعة في دنيا العرب والإسلام لتطهير المجتمع من الرذيلة والانحراف، وإثبات الذات، ومعالجة شؤون الحياة بفكر الإسلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، ولتحطيم قيود الذل والهوان، ودحر العدوان بمختلف أشكاله، ومحاربة الاستغلال بكل أصنافه، والاعتماد على النفس، وجمع المسلمين تحت راية القرآن، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والإفادة من فقه الشريعة الذي لا يخرج عن هذين المصدرين)(26).
والحمد لله رب العالمين صلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ــــــــــــــــ
1 - موسوعة الغزو الفكري والثقافي وآثاره على المسلمين - ج 6 ، ص 67
2 - المعجم الوسيط - ج 1 ، ص 841 وأيضا ذكر تاج العروس - ج 1 ، ص 1428.
3 - الحر النداوي منتدى بجيله
4 - معدن الجواهر- أبو الفتح الكراجكي - ج 1 ، ص 33
5 - أمثال القرآن - ج 3 ، ص 6
6 - تفسير الأمثل - مكارم الشيرازي - ج 1 ، ص 99
النفاق في مفهومه الخاص ـ كما ذكرنا ـ صفة أُولئك الذين يظهرون الإِسلام، ويبطنون الكفر. لكن النفاق له معنىً عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن، وكل افتراق بين القول والعمل. من هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض ما نسميه «خيوط النفاق». أمثال القرآن - ج 3 ، ص 7
7 - تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي - ج 4 ، ص 110
8 - نفس المصدر- النداوي
9 - المائدة 62
10 - الحر النداوي
11 - المطففين 14
12 - الشمس: 8.
13 - راجع: تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي - ج 20 ، ص 130
14 - الحج
15 - تفسير الأمثل - مكارم الشيرازي - ج 10 ، ص 294
16 - البقرة 7
17 - راجع: مجمع البيان - الطبرسي - ج 1 ، ص 92
18 - تفسير مجمع البيان - الطبرسي - ج 1 ، ص 93
19 - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 67 ، ص 56
20 - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 5 ، ص 204
21 - تفسير الأمثل - مكارم الشيرازي - ج 1 ، ص 286
الازدواجية في الالتزام:
مرّ بنا أن القرآن الكريم يوبّخ اليهود بشدّة على التزامهم ببعض الأحكام الإلهية وتركهم لبعضها الآخر، وينذرهم بخزي الدنيا وبعذاب الآخرة وخاصة في عملهم بالأحكام الجزئية، ومخالفتهم لأهم الاحكام الشرعية. أي قانون حرمة إراقة الدماء، وتهجير من يشاركهم في العقيدة من ديارهم وأوطانهم.
22 - الوعي الإسلامي - ج 1 ، ص 76
23 - في ظلال نهج البلاغة - ج ، ص 1.
24 - أحاديث رمضانية - ج 1 ، ص 12.
25 - إبراهيم: 24-27.
26 - الفقه الإسلامي وأدلته - ج 7 ، ص 214