النقطة الثالثة في الجبر والاختيار
  • عنوان المقال: النقطة الثالثة في الجبر والاختيار
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 16:12:11 2-10-1403

لا يخفى انَّنا لو لم نؤمن بالحسن والقبح كمفهومين واقعيَّين خُلُقيَّين يستتبعان - عقلاً - استحقاق المدح والذمِّ، لا من سنخ مدح اللؤلؤ على ضوئه وبهائه وذمِّ حجر كريه المنظر على كراهة منظره، بل من سنخ استحقاق خُلقيٍّ يستتبع الثواب والعقاب ، بل فرضنا ان الحسن والقبح -مثلاً ليسا الا امرين اعتباريَّين ومجعولين من قبل العقلاء او الشرع او القانون؛ لحفظ المصالح ودرْء المفاسد، فهذا المعنى الخاوي للحسن والقبح عن المغزى الخُلُقيِّ ينسجم مع الجبر، كما ينسجم مع الاختيار، فحتَّى لو قلنا بالجبر قلنا: انَّ جعل الحسن والقبح من قبل العقلاء او القانون او الشرع وفرض ثواب وعقاب على ذلك، انَّما كان لفائدة انعطاف الانسان الى حفظ المصالح ودرْء المفاسد ولو جبرا.
 ولكن بعد فرض الايمان بانَّ الضرورة الخُلُقيّة - وهي الانبغاء وعدم الانبغاء - امرٌ واقعيٌّ يتبعه المدح والذمُّ الخُلُقيّان عن استحقاق عقليٍّ، وكذلك الثواب والعقاب، (وهذا ما ادَّعينا انَّ الضمير والوجدان شاهدان عليه) فهذا لاينسجم الا مع فرض الاختيار؛ لشهادة الوجدان بانَّ المجبور لا يستحقُّ مدحا ولا ذمّا ولا ثوابا ولا عقابا؛ كما انَّ حركة يد المرتعش لا تمدح ولا تذمُّ ولا يثاب عليها ولا يعاقب عليها ان ترتب عليها شي‏ء.
 والواقع : انَّ اختيار الانسان ليس شيئا يثبت بالبرهان، وانَّما هو امر ثابت بالوجدان.
 وقد اشتهر لتوضيح الاختيار التمثيل برغيفيْ الجائع وطريقيْ الهارب، فياتُرى لو امَنَّا بالجبر وعدم صدور الفعل الا بمرجِّح يؤثِّر قهرا في النفس افلا يعني ذلك: انَّ هذا الجائع لو لم يكن له مرجِّح لأحد الرغيفين فسوف يموت جوعا. وهذا الهارب لو لم يكن له مرجِّح لأحد الطريقين فسوف يستسلم لافتراس الاسد مثلاً او لوقوعه في اسر العدوِّ؟! اوليست هذه النتيجة امرا بديهيِّ البطلان؟!
 والواقع : انَّ ذكر هذه الامثلة لو قُصِدت به البرهنة على الاختيار بما اتَّفق حتَّى الان في العالَم من امثال هذه الامثلة، وانَّنا لم نرَ - ولا مرّة واحدة انَّ مَنْ ابتُلي بشي‏ء من هذا القبيل - مع دوران حاله بين فعلين لم يعرف مرجِّحا لأحدهما على الاخر - ترك الفعلين واستسلم للمحذور الذي يقع فيه لدى ترك الفعلين، امكن الايراد عليه باحتمال وجود مرجِّح في الواقع مؤثِّر في لا شعوره غير ملتفت هو ايّاه تفصيلاً.
 امّا لو قُصِد بذكر مثل هذه الامثلة مجرد تنبيه الوجدان على الاختيار، فهذا الاعتراض لا يرد عليه؛ لأنَّ المقصود بذكر هذه الامثلة - عندئذٍ - تنبيه الوجدان الحاكم بانّه حتَّى لو لم يكن في الواقع وفي اللّاشعور مرجِّح لأحد الامرين لن يستسلم هذا الشخص للموت بالجوع او بافتراس الاسد او لأيِّ مشكلة اخرى، بل يختار احد الامرين من دون مرجِّح.
 والانصاف : انَّ هذه الامثلة من خير المنبِّهات على الوجدان الحاكم بالاختيار.
 وكذلك من خير المنُبِّهات على ذلك الوجدان الخُلُقيّ والاستحقاق الخُلُقيّ للمدح والذمِّ والثواب والعقاب في افعال الناس؛ لأنّ ذلك لا يمكن ان يكون على الافعال غير الاختياريّة.
 والذي يقف امام الخضوع لحكم الوجدان بالاختيار هو البرهان الفلسفي المتخيَّل لإثبات الجبر، فنحن لسنا بحاجة الى اقامة البرهان على الاختيار، وانّما نحن بحاجة الى بطلان برهان الجبر؛ كي يعمل الوجدان بعد ابطال برهان الجبر عمله في النفس، ويتَّضح لصاحب الشبهة الاختيار بعد زوال شبهته.
 والبرهان الفلسفيُّ للجبر مؤتلف من مقدّمتين :
 الاولى : انَّ الاختيار ينافي الضرورة، فانَّ الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار، من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضروريّة.
 والثانية : انَّ صدور الفعل من الانسان يكون بالضرورة؛ لأنَّ الفعل الصادر منه ممكن من الممكنات، فتسوده القوانين السائدة على عالَم الامكان والتي منها انَّ الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد، فبالجمع بين هاتين المقدّمتين يثبت انَّ الانسان غير مختار في افعاله؛ اذ لا يصدر عنه فعلٌ الا بالضرورة والضرورة تنافي الاختيار.
 والبحث هنا مفصَّل، والوجوه والاراء حول الجواب عن ذلك متشعِّبة، وذكرها مع تقييمها لا يناسب المقام وبامكانك - لو اردت التفصيل - ان تراجع كتابنا مباحث الاصول الجزء الاوّل من القسم الاوّل ضمن بحث (دلالة الامر على الوجوب) والجزء الاوّل من القسم الثاني ضمن بحث (الحسن والقبح العقليين).
 ونحن نقتصر هنا على ذكر ما افاده استاذنا الشهيد الصدر - رحمه اللَّه في المقام ردّا على مبنى فلسفيّ معروف.
 ذلك انَّ الفلاسفة ذكروا: انَّ نسبة شي‏ء الى شي‏ء - بعد فرض اخراج الامتناع من المقسم - امّا هي الوجوب او الامكان، فنسبة الشي‏ء الى قابله هي الامكان والى فاعله هي الوجوب، وقد قالوا بذلك في تمام عوالم الامكان، بلافرق بين الافعال الاختياريّة وغيرها، فحركة يد المشلول وتحريك اليد اختيارا سيَّان في هذا الامر، ومن هنا جاءت شبهة الجبر.
 ولكنَّ الواقع: انَّ تخيّل انحصار النسبة في الوجوب والامكان غير صحيح، وانَّ نسبة الفعل الاختياري الى فاعله نسبة ثالثة، هي: بالتعبير الاسمي: نسبة )السلطنة( وبالتعبير الحرفي: نسبة )له ان يفعل وله ان لا يفعل( والقاعدة العقليّة المعروفة القائلة: )انَّ الشي‏ء ما لم يجب لم يوجد( ليست - بدقيق معنى الكلمة - صادقة، وانَّما الصحيح لو اردنا ان نعبِّر بتعبير دقيق هو: انَّ الشي‏ء لا يوجد الا بالوجوب او السلطنة، فموضوعها هو الجامع بين الوجوب والسلطنة لا نفس الوجوب فحسب. نعم، بما انَّ السلطنة غير موجودة في العلل التكوينيّة فوجود معلولاتها لا يكون الا بالوجوب.
 وما ادَّعيناه من وجود نسبة اخرى الى صفِّ نسبة الوجوب والامكان يكون - بحسب عالم التصور - بديهيّا كبداهة الوجوب والامكان، والوجود والعدم، فلا غبار - بحسب عالم التصور - على وجود نسبة ثالثة في قِبال نسبة الوجوب والامكان، فهذه غير الوجوب وغير الامكان.
 امّا انَّها غير الوجوب فللتضادِّ الواضح بين عنوان (له ان يفعل) وعنوان (لا بدَّ له ان يفعل).
 وامَّا انَّها غير الامكان فلأَنَّ الامكان عبارة عن القابليّة، وهي: التاهُّل للقبول، وهذا مفهوم لا يُتصوَّر الا بين الشي‏ء وقابله دون الشي‏ء وفاعله بخلاف مفهوم (له).
 وقاعدة انَّ (الشي‏ء ما لم يجب لم يوجد) ليست قاعدة قام برهان عليها، وانَّما هي قاعدة وجدانيّة ومن المُدرَكات الاوَّليّة للعقل، فانَّه وان كان قد يُبرهَن عليها بانَّ الحادث لو وُجِدَ بلا علَّة ووجوبٍ لَزِمَ ترجيح احد المتساويين على الاخر بلا مرجِّح، وهو محال، لكنَّك ترى انَّ استحالة الترجيح او الترجُّح بلا مرجِّح هي عبارة اخرى عن انَّ المعلول لا يوجد بلا علَّة. اذن، فلابدَّ من الرجوع في هذه القاعدة الى الفِطرة السليمة مع التخلُّص من تشويش الاصطلاحات والالفاظ؛ لنرى ماهو مدى حكم الفطرة والوجدان بهذه القاعدة؟
 والفِطرة السليمة تحكم بانَّ مجرد الامكان الذاتي لا يكفي للوجود.
 وهنا امران اذا وُجِد احدهما راى العقل انّه يكفي لتصحيح الوجود:
 احدهما - الوجوب بالغير، فانه يكفي لخروجه من تساوي الطرفين ويصحِّح الوجود.
 والثاني - السلطنة، فلو وجدت لفاعل ما السلطنة راى العقل بفطرته السليمة انَّ هذه السلطنة تكفي للوجود.
 وتوضيح ذلك : انَّ السلطنة تشترك مع الامكان في شي‏ء، ومع الوجوب في شي‏ء، وتمتاز عن كلّ منهما في شي‏ء :
 فهي تشترك مع الامكان في انَّ نسبتها الى الوجود والعدم متساوية، لكن تختلف عن الامكان في انَّ الامكان لا يكفي لتحقق احد الطرفين، بل يحتاج تحقّقه الى مؤونة زائدة، وامّا السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها الى ضمِّ شي‏ء اخر اليها لأجل تحقق احد الطرفين؛ اذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة، وهو خلف، بينما في الامكان لا يلزم من فرض الحاجة الى ضمِّ ضميمةٍ خلفُ مفهوم الامكان، اذن، فالسلطنة لو وُجِدت فلابدَّ من الالتزام بكفايتها.
 وهي تشترك مع الوجوب في الكفاية لوجود شي‏ء، بلا حاجة الى ضمِّ ضميمة، وتمتاز عنه بانَّ صدور الفعل من الوجوب ضروريٌّ، ولكن صدوره من السلطنة ليس ضروريّا؛ اذ لو كان ضروريّا لكان خلف السلطنة. وفرق بين حالة (له ان يفعل) وحالة (عليه ان يفعل). والعقل ينتزع من السلطنة - باعتبار وجدانها لهذه النكات - مفهوم الاختيار بالمعنى المنسجم مع الحسن والقبح الخُلُقيَّين.
 يبقى شي‏ء وهو: انَّنا لو حصلنا على برهان على ثبوت هذه السلطنة في الانسان ثبت الاختيار بالمعنى المصحِّح لقضايا الاخلاق بالبرهان، ولو لم نحصل على برهان على ذلك فمجرد تصوُّرنا البديهيِّ لمفهوم السلطنة في مقابل مفهوم الوجوب والامكان، وتصديقنا بانَّه لو وجد لذلك مصداق ثبت الاختيار، وصحَّ وجود الفعل من دون ان يجب، كافٍ في ابطال برهان الجبر القائم على اساس تخيُّل ان المصحِّح للوجود لا يمكن ان يكون الا الوجوب، فاذا بطل برهان الجبر سهل على الانسان الرجوع الى وجدانه الذي كان لدى صاحب الشبهة مغطَّى بالبرهان المتُخيَّل.
 والسلطنة التي تكلَّمنا عنها بعد فرض عدم امتلاك برهان عليها ينحصر امر اثباتها خارجا للإنسان بالشرع او بالوجدان، بان يقال مثلاً: انَّنا ندرك مباشرة بالوجدان ثبوت السلطنة فينا، وانَّنا حينما يتمُّ الشوق الاكيد في انفسنا نحو عمل ما لا نقدم عليه قهرا، ولا يدفعنا اليه احد، بل نقدم عليه بالسلطنة بناءً على دعوى انَّ حالة السلطنة من الامور الموجودة لدى النفس بالعلم الحضوريِّ، من قبيل: حالة الجوع، او العطش، او حالة الحبِّ، او البغض، وهذا يعني: وجدانيّة الاختيار.