هناك آثار دنيوية وأخرى أخروية تترتب على مودة قربى النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، أي أهل بيته المخصوصين بالذكر والكرامات والفضائل وغيرها من قبل المولى تبارك وتعالى؛ إذ لا يوجد أهل بيت نبي من الأنبياء (عليهم السلام) مخصوصون كما خص أهل بيته محمد (صلى الله عليه وآله)، وقد كانت لمحبة ومودة أهل البيت من الآثار التي تناقلتها الروايات الشريفة عن النبي(صلى الله عليه وآله) في كتب الطرفين السنة والشيعة بلا فرق، حتى قال ابن عمر: (قال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلى من حمر النعم، تزويجه فاطمة، واعطائه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.) (1).
وروى الترمذي في سننه ن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ قال أما ما ذكرت ; ثلاثا قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لان تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلى وخلفه في بعض مغازيه ؟ فقال له يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال فتطاولنا لها فقال ادعوا لي عليا، قال فأتاه وبه رمد فبصق في عينه فدفع الراية إليه ففتح الله عليه وأنزلت هذه الآية (ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم) الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي ". هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه) (2).
وقال ابن حجر في الإصابة: (عن علي قال: لقد عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق. وأخرج الترمذي بإسناد قوي عن عمران بن حصين في قصة قال فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تريدون من علي إن عليا مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي) (3)
وإنّ من جملة هذه الآثار الدنيوية والأخروية، هي ما سنقوم بنقل بعضها بما يسع المجال؛ وإلاّ فإنّ لهذه المودة المفروضة من قبل الله تعالى آثار كثيرة؛ ولكننا سوف نقتصر على ذكر الآثار المهمة منها، ونترك الباقي إلى دراسات أوسع، وإليك بيان ذلك:
أولاً: الالتفاف حول قربى النبي(صلى الله عليه وآله) بمودتهم عامل على توحيد الصف لم نجد أمراً دينياً أجمع عليه المسلمون بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) - على الرغم من تنوع آرائهم واتجاهاتهم المذهبية واختلاف مدارسهم الفكرية-
كحب أهل البيت(عليهم السلام)، حيث استقطب اهتمام الأولين والآخرين منهم، واغتنت به كتاباتهم، وطُرّزت به مؤلفاتهم، وتواترت عليه الروايات في مسانيدهم وصحاحهم ومجاميعهم، بل أنّهم تسالموا على وجوب حبهم، وذكر فضائلهم.
ولم يبق شيء يؤسف له سوى عدم تجسيد هذا الحب بقالب العمل، وبذلك نستكشف عدم تحقق هذه المحبة والمودة الواقعية في قلوبهم، في الوقت الذي يعترفون بوجوبها عليهم، فلو أنّ جميع المسلمين حبوا أهل البيت(عليهم السلام) الحب الواقعي لما بقي مجال للاختلاف بين الأمة الإسلامية، ولما بقيت مشكلة تواجه المسلمون أثناء حياتهم، كما جاء في زيارة الجامعة الكبيرة: (وبموالاتكم تمت الكلمة، وعظمت النعمة، وائتلفت الفرقة)(4). وكما أفصحت عن ذلك السيدة الصديقة فاطمة الزهراء ((عليها السلام)) في خطبتها المعروفة، التي جاء في ضمنها: (وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة) (5).
كما روى الكافي في كلام طويل للرضا (عليه السلام) في الإمامة نأخذ منه موضع الحاجة، حيث قال فيه(عليه السلام)(.. إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين، إن الإمام أس الإسلام النامي، وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. الإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله) (6).
فهذه الروايات تؤكد على لزوم الالتفات حول أهل البيت(عليهم السلام) والتمسك بهم في جميع الأحول، كما أن حديث الثقلين المتواتر عند السنة والشيعة هو الآخر دال على وجوب التمسك بأهل البيت، وكاشف عن أن التمسك بهم يوجب العصمة من الانحراف والضلال، جاء في صحيح مسلم:(أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربى فأجيب وإنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)(7).
وبهذا يندفع التوهم الذي قد يتصوره البعض من أنّ التأكيد على طرح مسألة الإمامة يثير الأحقاد الدفينة والفتن بين المسلمين في الوقت الذي فيه الأمّة بأمس الحاجة إلى توحيد الصف ووحدة الكلمة؛ إذ إنّ مثل ذلك يذكّرهم بطبيعة الخلاف الذي حصل في الأمة الإسلامية بعد رحيل نبيها (صلى الله عليه وآله)، وحصول الحروب الثلاثة الجمل والنهروان وصفين بين الإمام علي(عليه السلام) والمخالفين له من الصحابة وبعض التابعين، مضافاً إلى ما حصل من نزاع وافتراق للأمة في مسألة الإمامة بعد تولي أبي بكر زمام الأمر، الذي واجه آنذاك معارضة الكثير من المسلمين، حتى أنّه أوجب الأمر بقتل بعض المعارضين بحجة الارتداد عن الدين، كما حصل مع الذين منعوا دفع الزكاة(8)، حتى قال الشهرستاني: (وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان) (9).
ولكننا نقول إن التأكيد على مسألة الإمامة وطرح مسألة أهل البيت(عليهم السلام) والدعوة وجوب الالتفاف حولهم بمقتضى الوجوب الوارد في آية المودة وآيات أخرى كآية وجوب الطاعة وغيرها، من شأنّه أن يجمع كلمة المسلمين ويوحد صفهم على محبة الله تعالى ومعرفته، بشرط الابتعاد عن الطائفية المقيتة والعنصرية والقومية والمذهبية؛ إذ ما من مسلم من المسلمين يبغض أهل البيت(عليهم السلام) وهو يعلم أن بغضهم موجباً للدخول في نار جنّهم، كما سننقل بعض هذه الروايات من كتب الفريقين، ولم يكن في يوم من الأيام أن الأئمة الأطهار قد فرقوا بين المسلمين، أو دعوهم إلى التقاتل والتنازع والافتتان، كما فعل اليهود والمنافقون المندسون في صفوف المسلمين.
وعليه فلا يبقى مجال للتفرقة والاختلاف لو أن الأمّة تمسكت بوصية نبيها الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) في أهل بيته(عليهم السلام)، كما مرّ علينا أن(صلى الله عليه وآله) طالما كان يكرر ذلك في وصاياه (أذكركم بأهل بيتي) وما ذلك إلاّ بياناً وكشفاً منه(صلى الله عليه وآله) عما يترتب على محبة وولاية أهل البيت(عليهم السلام).
ثانياً: مودة قربى النبي(صلى الله عليه وآله) علامة الإيمان الإيمان أثر من آثار محبة أهل البيت(عليهم السلام)، كما يستفاد ذلك من العديد من الروايات الواردة عن النبي(صلى الله عليه وآله)، حتى عدت من لم يحب أهل البيت ليس هو مؤمن، وإليك بعضها:
1- قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (لا يؤمن رجل حتى يحب أهل بيتي لحبي، فقال عمر بن الخطاب ما علامة حبّ أهل بيتك، قال هذا وضرب بيده على علي بن أبي طالب)(10).
2- وعنه(صلى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده لا يدخل قلب عبد إيمان حتىيحب أهل بيتي)(11).
3- وعنه(صلى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحبني ولا يحبني حتى يحب ذوي قرابتي)(12).
4- وعنه(صلى الله عليه وآله): (يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)(13).
5- وعن ابن عباس قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي فقال: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق من أحبك فقد أحبني ومن أبغضك فقد أبغضني وحبيبي حبيب الله وبغيضي بغيض الله ويل لمن أبغضك بعدي)(14)، قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات)(15).
6- وعنه(صلى الله عليه وآله): (لا يتم الإيمان إلا بمحبتنا أهل البيت، وإن الله تبارك وتعالى عهد إلي أنه لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي ولا يبغضنا إلا منافق شقي، فطوبى لمن تمسك بي وبالأئمة الأطهار من ذريتي. فقيل: يا رسول الله فكم الأئمة بعدك ؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل.) (16)
فهذه وغيرها من الروايات تكشف لنا عن كون محبة أهل البيت(عليهم السلام) ومودتهم علامة من علائم الإيمان.
ثالثاً: مودة قربى النبي (صلى الله عليه وآله) توجب الاطمئنان القلبي إن حب آل محمد(صلى الله عليه وآله) يبعث في القلب السكينة والطمأنينة والإحساس بالسلام. وحبّ آل البيت(عليهم السلام) يضفي على حياة الإنسان شعوراً بالصفا والطمأنينة ويجعل من طعم الحياة حلواً مفعماً بالمشاعر الإنسانية السامية.
قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): (إنّ رسول الله لما نزلت هذه الآية {.. إلا بذكر الله تطمئن القلوب} (17)، قال ذلك: من أحب الله ورسوله وأحب أهل بيتي صادقاً غير كاذب، وأحب المؤمنين شاهداً وغائباً، إلا بذكر الله يتحاجون)(18).
أجل أن من يحب الله ورسوله وآل الرسول والمؤمنين حباً خالصاً وجاء عمله لله خالصاً وكانت طاعته للرسول وآله طاعة لله عزّوجلّ الذي أمر بحبهم فإنّ هذا الحبّ سيكون له عوناً في تزكية نفسه وتطهير قلبه وتنقية عمله من كل ما يشوب العمل الصالح والنوايا الطيبة من وساوس وسيجعل من قلب الإنسان المحبّ مضيئاً مشرقاً ومتألقاً كالمرايا(19).
رابعاً: مودة قربى النبي(صلى الله عليه وآله) توجب الاغتباط عند الموت إنّ من أصعب اللحظات على الناس هي لحظات التوديع، وخصوصاً إذا هذا التوديع إذا كان إلى مكان مجهول لم يعهد أنّه قد سافر إليه من قبل، ولم يعرف عن أحكامه وقوانينه وكيفية الحياة فيه بنحو مفصل، أي بالمعايشة، بل بمجرد السمع بأنّه مكان مريح لمن أعد عدّة السفر وتهيئة له، وأنّه عذاب ومرار لمن لم يعد العدة ويتهيأ له، لأنّه سفر طويل وبعيد، فكيف إذا كان السفر إلى عالم تنكشف فيه الأسرار، ويحاسب فيه الإنسان على صغائر أفعاله وكبائرها، والمحاسب عالم لا تخفى عليه ذرة لا في السموات ولا في الأرض، وعليم بما تخفي الصدور، فمثل هذا السفر يكون كالدعوة إلى محكمة قضائية، فالإنسان حتى لو كان عالماً بأنّه لم يرتكب أي جريمة بحق أحد، ولكن مع ذلك تشوبه موجهة من الخوف والوجل من الوقوف والمسآلة أمام الحاكم والقاضي في أمور التحقيق، هذا في عالم الدنيا، مع علمه بأنه لو كان مجرماً حقاً ولم يكن هناك شاهداً يشهد عند هذا القاضي والحاكم، وإنّه سوف يتخلص منه وينجو من حكمه، ولكن مع ذلك يخاف الوقوف في حضرته وبين يديه، فكيف بالوقوف عند الله وبين يدي الله وهو يعلم أن الربّ مطالع على صغائر أفعاله وأقواله، بل ونواياه التي أضمرها في نفسه، فمثل ذلك لمخيف حقاً.
وعندئذ يبشر النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) أمته ويطمئنها بأنّ حب أهل بيته يدفع عنهم هذا الخوف العظيم، وبالخصوص في لحظات الموت وسكراته، وهي اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان التي يتم بها توديع عالم الدنيا والسفر إلى عالم الآخرة، حيث الحياة غير الحياة والقوانين غير القوانين، والناس غير الناس، وكل شيء فيها يختلف عما كان في عالم الدنيا، فالصور ملكوتية، والأعمال تجسمية بمثال كما في عالم البرزخ، أو بجسم كما في عالم القيامة الكبرى.
روى الصدوق بسند إلى علي بن الحسين عن أبيه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (حب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة عن الوفاة وفي القبر وعند النشور وعند الكتاب وعند الحساب وعند الميزان وعند الصراط)(20).
ولا يقتصر نفع حب أهل البيت على عالم البرزخ، بل يتجاوزه إلى عالم القيامة الكبرى، ويم يعاد الناس، فقد سأل معاذ النبي(صلى الله عليه وآله) عن قوله تعالى:
{فتأتون أفواجا} فقال(صلى الله عليه وآله): (يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه وقال يحشر الناس عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صور القردة وبعضهم على صور الخنازير وبعضهم منكوسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها وبعضهم عمي وبعضهم صم بكم وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مولاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم وبعضهم مصلوبون على جذوع من نار وبعضهم أشد نتنا من الجيف وبعضهم ملبسون جبابا سائغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صور القردة فالقتات من الناس وأما الذين على صور الخنازير فأهل السحت وأما المنكوسون على وجوههم فأكلة الربا وأما العمي فالذين يجورون في الأحكام وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم
فعلهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذي يؤذون الجيران وأما المصلوبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى الشيطان وأما الذين هم أشد نتنا في الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ويمنعون حق الله وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء) (21).
فكل إنسان رهين أعماله في الآخرة(22)، فما زرعه في دار الدنيا يجنيه فهي متجر أولياء الله كما جاء عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، حيث قال في وصفها: (إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله. اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة) (23)، فما أن يخرج عن هذا العالم إلاّ ويجد نتائج أعماله حاضرة متجسمة عنده في عالم الآخرة، وهو عالم حساب ولا عمل، وعندها تتجلى قيمة الحب لآل البيت(عليهم السلام).
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):(لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزوع روحه وظهور ملك الموت له، وذلك أن ملك الموت يرد على المؤمن وهو في شدة علته، وعظيم ضيق صدره لما يخلفه من أمواله، ولما هو عليه من اضطراب أحواله في معامليه وعياله، وقد بقيت في نفسه حسراتها فانقطع دون أمانيه فلم ينلها. فيقول له ملك الموت: مالك تجرع غصصك ؟ فيقول: لاضطراب أحوالي واقتطاعك لي دون آمالي. فيقول له ملك الموت: وهل يحزن عاقل من فقد درهم زائف واعتياض ألف ألف ضعف الدنيا ؟ فيقول: لا. فيقول ملك الموت: انظر فوقك. فينظر فيرى درجات الجنان وقصورها التي تقصر دونها الأماني. فيقول ملك الموت: تلك منازلك ونعمك وأموالك وأهلك وعيالك ومن كان من أهلك هنا وذريتك صالحا فهم هناك معك، أترضى بهم بدلا عما هنالك ؟ فيقول: بلى والله. ثم يقول: انظر، فينظر محمدا وعليا والطيبين من آلهما في أعلى عليين. فيقول: أو تراهم هؤلاء ساداتك وأئمتك هم هناك جلساؤك، واناسك أفما ترضى بهم بدلا عما تفارق هاهنا ؟ فيقول: بلى وربي، فذلك ما قال الله - تعالى -: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا) فأما ما أمامكم من الأهوال فقد كفيتموها (ولا تحزنوا) على ما تخلفونه من الذراري والعيال، فهذا الذي شاهدتموه في الجنان بدلا منه (وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون) هذه منازلكم وهؤلاء ساداتكم وأناسكم وجلساؤكم)(24).
روي زيد عن أبيه هو يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):(والذي نفسه بيده، لا تفارق روح جسد صاحبها حتى تأكل من ثمار الجنة أو من شجرة الزقوم، وحين ترى ملك الموت، تراني وترى عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فإن كان يحبنا قلت: يا ملك الموت أرفق به فإنه كان يحبني ويحب أهل بيتي وإن كان مبغضنا قلت: يا ملك الموت شدد عليه فإنه كان يبغضني ويبغض أهل بيتي)(25).
خامساً: مودة قربى النبي(صلى الله عليه وآله) من علائم طهارة المولد
لقد جعل النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) محبة علي ميزاناً ومعياراً وملاكاً لمعرفة طهارة المولود، حتى نقل أن العرب كانت تضع أبناءها في قارعة الطريق، ليتأكدوا من طهارة أولادهم، فإن ابتسم بوجه الإمام علي استبشروا بذلك واستدلوا على طهارتهم، وإن عبسوا بوجه الإمام وبكوا وحزنوا وشكوا في طهارة أبنائهم، كما قد جاءت في بعض الروايات أنّه لا يحب أهل بيت النبي إلا من طابت ولادته ولا يبغض إلاّ من خبثت ولادته، وإليك بعض هذه الروايات:
أخرج الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: (إن كنا لنعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب) (26)
وروى الحاكم النيسابوري في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) (27)
وروى الصدوق في أماليه بسند عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال لعلي(عليه السلام):(يا علي من أحبّني وأحبّك وأحبّ الأئمة من ولدك فليحمد الله على طيب مولده فإنّه لا يحبّنا إلا من طابت ولادته ولا يبغضنا إلاّ من خبثت ولادته)(28).
ثم قال في مقام آخر:(من أحبنا أهل البيت فليحمد الله على أول النعم، قيل: وما أول النعم؟ قال: طيب الولادة، ولا يحبنا إلاّ من طابت ولادته)(29).
وأخرج الحاكم النيسابوري عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يريد أن يحيى حياتي ويموت موتى ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة) ثم قال معلقاً عليه: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) (30).
قال الإمام الصادق(عليه السلام):(من وجد برد حبنا في كبده فليحمد الله على أوّل النعم قال قلت: جعلت فداك ما أوّل النعم؟ قال: طيب الولادة)(31).
والحاصل: أنّ جميع هذه الروايات المعتبرة والصحيحة، تدل على أن محبة الإمام علي(عليه السلام) وأهل بيته(عليهم السلام) كاشف عن طهارة الولادة، فما أعظمها من ميزان تكشف به السرائر وتعرف به بوطن الأسرار.
سادساً: محبة أهل البيت (عليهم السلام) توجب محبتهم له يستفاد من بعض الروايات أن لأهل البيت يحبون من يحبهم، وأنّهم(عليهم السلام) يحبون محبي محبهم(عليهم السلام)، نقرأ في رواية حنش بن المعتمر هو يقول:(دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، كيف أمسيت ؟ قال: أمسيت محبا لمحبنا، مبغضا لمبغضنا، وأمسى محبنا مغتبطا برحمة من الله كان ينتظرها، وأمسى عدونا يرمس بنيانه على شفا جرف هار فكان ذلك الشفا قد انهار به في نار جهنم و....) (32).
سابعاً: محبة أهل البيت خير الدنيا والآخرة يعد في بعض الروايات أن محبة أهل البيت(عليهم السلام) هي خير الدنيا والآخرة، كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):(من أراد التوكل على الله فليحب أهل بيتي، ومن أراد أن ينجو من عذاب القبر فليحب أهل بيتي، ومن أراد دخول الجنة بغير حساب فليحب أهل بيتي، فوالله ما أحبهم أحد إلا ربح الدنيا والآخرة.
وأيضاً قال:(من رزقه الله حب الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة، فلا يشكن أحد أنه في الجنة فإن في حب أهل بيتي عشرون خصلة، عشر منها في الدنيا وعشر منها في الآخرة، أما التي في الدنيا فالزهد والحرص على العمل، والورع في الدين، والرغبة في العبادة، والتوبة قبل الموت، والنشاط في قيام الليل، واليأس مما في أيدي الناس، والحفظ لأمر الله ونهيه عز وجل، والتاسعة بغض الدنيا، والعاشرة السخا، وأما التي في الآخرة فلا ينشر له ديوان، ولا ينصب له ميزان، ويعطى كتابه بيمينه، ويكتب له براءة من النار، ويبيض وجهه، ويكسى من حلل الجنة، ويشفع في مائة من أهل بيته، وينظر الله عز وجل إليه بالرحمة ويتوج من تيجان الجنة، والعاشرة يدخل الجنة بغير حساب فطوبى لمحبي أهل بيتي)(33).
ثامنا: تمحيص الذنوب ومضاعفة الأجر قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (حبنا أهل البيت يكفر الذنوب، ويضاعف الحسنات..)(34).
عن علي بن الحسين عليهما السلام أنه قال: (من أحبنا لله نفعه حبنا، ولو كان في جبل الديلم، ومن أحبنا لغير ذلك فان الله يفعل ما يشاء، إن حبنا أهل البيت يساقط عن العباد الذنوب كما تساقط الريح الورق من الشجر)(35).
إنّ الحب في نفسه يحرك الإنسان باتجاه المحبوب، وهذه الحركة المعنوية أشبة بالحركة المادية، إذ أنّها تدفع بالإنسان إلى معرفة هذا المحبوب وما له من خصائص مميزات يمتاز بها على الآخرين، بحيث تأهله لاستحقاق هذه المحبة والمودة المفروضة من قبل الله تعالى على عباده، وبما أنّ هذه المعرفة تتوقف على طهارة النفس من أدناس الذنوب والآثام، فتجده سيسعى جاداً على تطهير نفسه من هذه الذنوب المانعة من تحقق هذه المعرفة، ويستبدلها بالفضائل والكمالات الوجودية التي تمثلها مكارم الأخلاق وغيرها، لأنّه يعلم علماً يقيناً بأن هذه الذوات الطاهرة المقدسة لا يمكن التقرب منها ولو على سبيل المعرفة القلبية ما يكن هذا القلب طاهراً من أدناس الذنوب الموجبة لحجبه عن رؤيا نورها، كما أن العقل يكون محجوباً بأوهام وجهل عدم معرفة هذه الذوات المقدسة، إذ لا معنى أن يكون الإنسان عاشقاً محباً لمحبوبه وهو يعلم أن محبوبه لا يحب الإنسان المتلوث بالذنوب والمعاصي، أو أنّه محجوب بحجب الأوهام وظلمة الجهل بمعشوقه، وعندها لا يسمع الدعاء؛ لأن سمعه قد حجب بحجاب الذنوب، قال الشيرازي: (الآذان التي أصمتها حجب الذنوب والغفلة والغرور فلا تسمع الحق مطلقا.) (36).
وجاء في رواية عن محمد بن صدقة أنه قال: (سأل أبو ذر الغفاري سلمان الفارسي رضي الله عنهما يا أبا عبد الله ما معرفة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنورانية ؟ قال: يا جندب فامض بنا حتى نسأله عن ذلك، قال: فأتيناه فلم نجده. قال: فانتظرناه حتى جاء قال صلوات الله عليه: ما جاء بكما ؟ قالا جئناك يا أمير المؤمنين نسألك عن معرفتك بالنورانية قال صلوات الله عليه: مرحبا بكما من وليين متعاهدين لدينه لستما بمقصرين، لعمري أن ذلك الواجب على كل مؤمن ومؤمنة، ثم قال صلوات الله عليه: يا سلمان ويا جندب قالا: لبيك يا أمير المؤمنين، قال (عليه السلام): إنه لا يستكمل أحد الإيمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام وصار عارفا مستبصرا، ومن قصر عن معرفة ذلك فهو شاك ومرتاب، يا سلمان ويا جندب قالا: لبيك يا أمير المؤمنين، قال (عليه السلام): معرفتي بالنورانية معرفة الله عز وجل ومعرفة الله عز وجل معرفتي بالنورانية وهو الدين الخالص الذي قال الله تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ". يقول: ما أمروا إلا بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الدين الحنيفية المحمدية السمحة، وقوله: " يقيمون الصلاة " فمن أقام ولايتي فقد أقام الصلاة وإقامة ولايتي صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. فالملك إذا لم يكن مقربا لم يحتمله، والنبي إذا لم يكن مرسلا لم يحتمله والمؤمن إذا لم يكن ممتحنا لم يحتمله، قلت: يا أمير المؤمنين من المؤمن وما نهايته وما حده حتى أعرفه ؟ قال (عليه السلام): يا عبد الله قلت: لبيك يا أخا رسول الله، قال:
المؤمن الممتحن هو الذي لا يرد من أمرنا إليه بشيء إلا شرح صدره لقبوله ولم يشك ولم يرتب)(37).
ولذا جاء عن النبي قوله(صلى الله عليه وآله) في حق معرفة الله والإمام علي(عليه السلام): (يا علي ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك، وما عرفك
حق معرفتك غير الله وغيري. قال ابن حماد:
جل العلي علا *** عن مشبه ونظير
وروى الترمذي في سننه ن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ قال أما ما ذكرت ; ثلاثا قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لان تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلى وخلفه في بعض مغازيه ؟ فقال له يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال فتطاولنا لها فقال ادعوا لي عليا، قال فأتاه وبه رمد فبصق في عينه فدفع الراية إليه ففتح الله عليه وأنزلت هذه الآية (ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم) الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي ". هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه) (2).
وقال ابن حجر في الإصابة: (عن علي قال: لقد عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق. وأخرج الترمذي بإسناد قوي عن عمران بن حصين في قصة قال فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تريدون من علي إن عليا مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي) (3)
وإنّ من جملة هذه الآثار الدنيوية والأخروية، هي ما سنقوم بنقل بعضها بما يسع المجال؛ وإلاّ فإنّ لهذه المودة المفروضة من قبل الله تعالى آثار كثيرة؛ ولكننا سوف نقتصر على ذكر الآثار المهمة منها، ونترك الباقي إلى دراسات أوسع، وإليك بيان ذلك:
أولاً: الالتفاف حول قربى النبي(صلى الله عليه وآله) بمودتهم عامل على توحيد الصف لم نجد أمراً دينياً أجمع عليه المسلمون بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) - على الرغم من تنوع آرائهم واتجاهاتهم المذهبية واختلاف مدارسهم الفكرية-
كحب أهل البيت(عليهم السلام)، حيث استقطب اهتمام الأولين والآخرين منهم، واغتنت به كتاباتهم، وطُرّزت به مؤلفاتهم، وتواترت عليه الروايات في مسانيدهم وصحاحهم ومجاميعهم، بل أنّهم تسالموا على وجوب حبهم، وذكر فضائلهم.
ولم يبق شيء يؤسف له سوى عدم تجسيد هذا الحب بقالب العمل، وبذلك نستكشف عدم تحقق هذه المحبة والمودة الواقعية في قلوبهم، في الوقت الذي يعترفون بوجوبها عليهم، فلو أنّ جميع المسلمين حبوا أهل البيت(عليهم السلام) الحب الواقعي لما بقي مجال للاختلاف بين الأمة الإسلامية، ولما بقيت مشكلة تواجه المسلمون أثناء حياتهم، كما جاء في زيارة الجامعة الكبيرة: (وبموالاتكم تمت الكلمة، وعظمت النعمة، وائتلفت الفرقة)(4). وكما أفصحت عن ذلك السيدة الصديقة فاطمة الزهراء ((عليها السلام)) في خطبتها المعروفة، التي جاء في ضمنها: (وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة) (5).
كما روى الكافي في كلام طويل للرضا (عليه السلام) في الإمامة نأخذ منه موضع الحاجة، حيث قال فيه(عليه السلام)(.. إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين، إن الإمام أس الإسلام النامي، وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. الإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله) (6).
فهذه الروايات تؤكد على لزوم الالتفات حول أهل البيت(عليهم السلام) والتمسك بهم في جميع الأحول، كما أن حديث الثقلين المتواتر عند السنة والشيعة هو الآخر دال على وجوب التمسك بأهل البيت، وكاشف عن أن التمسك بهم يوجب العصمة من الانحراف والضلال، جاء في صحيح مسلم:(أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربى فأجيب وإنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)(7).
وبهذا يندفع التوهم الذي قد يتصوره البعض من أنّ التأكيد على طرح مسألة الإمامة يثير الأحقاد الدفينة والفتن بين المسلمين في الوقت الذي فيه الأمّة بأمس الحاجة إلى توحيد الصف ووحدة الكلمة؛ إذ إنّ مثل ذلك يذكّرهم بطبيعة الخلاف الذي حصل في الأمة الإسلامية بعد رحيل نبيها (صلى الله عليه وآله)، وحصول الحروب الثلاثة الجمل والنهروان وصفين بين الإمام علي(عليه السلام) والمخالفين له من الصحابة وبعض التابعين، مضافاً إلى ما حصل من نزاع وافتراق للأمة في مسألة الإمامة بعد تولي أبي بكر زمام الأمر، الذي واجه آنذاك معارضة الكثير من المسلمين، حتى أنّه أوجب الأمر بقتل بعض المعارضين بحجة الارتداد عن الدين، كما حصل مع الذين منعوا دفع الزكاة(8)، حتى قال الشهرستاني: (وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان) (9).
ولكننا نقول إن التأكيد على مسألة الإمامة وطرح مسألة أهل البيت(عليهم السلام) والدعوة وجوب الالتفاف حولهم بمقتضى الوجوب الوارد في آية المودة وآيات أخرى كآية وجوب الطاعة وغيرها، من شأنّه أن يجمع كلمة المسلمين ويوحد صفهم على محبة الله تعالى ومعرفته، بشرط الابتعاد عن الطائفية المقيتة والعنصرية والقومية والمذهبية؛ إذ ما من مسلم من المسلمين يبغض أهل البيت(عليهم السلام) وهو يعلم أن بغضهم موجباً للدخول في نار جنّهم، كما سننقل بعض هذه الروايات من كتب الفريقين، ولم يكن في يوم من الأيام أن الأئمة الأطهار قد فرقوا بين المسلمين، أو دعوهم إلى التقاتل والتنازع والافتتان، كما فعل اليهود والمنافقون المندسون في صفوف المسلمين.
وعليه فلا يبقى مجال للتفرقة والاختلاف لو أن الأمّة تمسكت بوصية نبيها الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) في أهل بيته(عليهم السلام)، كما مرّ علينا أن(صلى الله عليه وآله) طالما كان يكرر ذلك في وصاياه (أذكركم بأهل بيتي) وما ذلك إلاّ بياناً وكشفاً منه(صلى الله عليه وآله) عما يترتب على محبة وولاية أهل البيت(عليهم السلام).
ثانياً: مودة قربى النبي(صلى الله عليه وآله) علامة الإيمان الإيمان أثر من آثار محبة أهل البيت(عليهم السلام)، كما يستفاد ذلك من العديد من الروايات الواردة عن النبي(صلى الله عليه وآله)، حتى عدت من لم يحب أهل البيت ليس هو مؤمن، وإليك بعضها:
1- قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (لا يؤمن رجل حتى يحب أهل بيتي لحبي، فقال عمر بن الخطاب ما علامة حبّ أهل بيتك، قال هذا وضرب بيده على علي بن أبي طالب)(10).
2- وعنه(صلى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده لا يدخل قلب عبد إيمان حتىيحب أهل بيتي)(11).
3- وعنه(صلى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحبني ولا يحبني حتى يحب ذوي قرابتي)(12).
4- وعنه(صلى الله عليه وآله): (يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)(13).
5- وعن ابن عباس قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي فقال: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق من أحبك فقد أحبني ومن أبغضك فقد أبغضني وحبيبي حبيب الله وبغيضي بغيض الله ويل لمن أبغضك بعدي)(14)، قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات)(15).
6- وعنه(صلى الله عليه وآله): (لا يتم الإيمان إلا بمحبتنا أهل البيت، وإن الله تبارك وتعالى عهد إلي أنه لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي ولا يبغضنا إلا منافق شقي، فطوبى لمن تمسك بي وبالأئمة الأطهار من ذريتي. فقيل: يا رسول الله فكم الأئمة بعدك ؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل.) (16)
فهذه وغيرها من الروايات تكشف لنا عن كون محبة أهل البيت(عليهم السلام) ومودتهم علامة من علائم الإيمان.
ثالثاً: مودة قربى النبي (صلى الله عليه وآله) توجب الاطمئنان القلبي إن حب آل محمد(صلى الله عليه وآله) يبعث في القلب السكينة والطمأنينة والإحساس بالسلام. وحبّ آل البيت(عليهم السلام) يضفي على حياة الإنسان شعوراً بالصفا والطمأنينة ويجعل من طعم الحياة حلواً مفعماً بالمشاعر الإنسانية السامية.
قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): (إنّ رسول الله لما نزلت هذه الآية {.. إلا بذكر الله تطمئن القلوب} (17)، قال ذلك: من أحب الله ورسوله وأحب أهل بيتي صادقاً غير كاذب، وأحب المؤمنين شاهداً وغائباً، إلا بذكر الله يتحاجون)(18).
أجل أن من يحب الله ورسوله وآل الرسول والمؤمنين حباً خالصاً وجاء عمله لله خالصاً وكانت طاعته للرسول وآله طاعة لله عزّوجلّ الذي أمر بحبهم فإنّ هذا الحبّ سيكون له عوناً في تزكية نفسه وتطهير قلبه وتنقية عمله من كل ما يشوب العمل الصالح والنوايا الطيبة من وساوس وسيجعل من قلب الإنسان المحبّ مضيئاً مشرقاً ومتألقاً كالمرايا(19).
رابعاً: مودة قربى النبي(صلى الله عليه وآله) توجب الاغتباط عند الموت إنّ من أصعب اللحظات على الناس هي لحظات التوديع، وخصوصاً إذا هذا التوديع إذا كان إلى مكان مجهول لم يعهد أنّه قد سافر إليه من قبل، ولم يعرف عن أحكامه وقوانينه وكيفية الحياة فيه بنحو مفصل، أي بالمعايشة، بل بمجرد السمع بأنّه مكان مريح لمن أعد عدّة السفر وتهيئة له، وأنّه عذاب ومرار لمن لم يعد العدة ويتهيأ له، لأنّه سفر طويل وبعيد، فكيف إذا كان السفر إلى عالم تنكشف فيه الأسرار، ويحاسب فيه الإنسان على صغائر أفعاله وكبائرها، والمحاسب عالم لا تخفى عليه ذرة لا في السموات ولا في الأرض، وعليم بما تخفي الصدور، فمثل هذا السفر يكون كالدعوة إلى محكمة قضائية، فالإنسان حتى لو كان عالماً بأنّه لم يرتكب أي جريمة بحق أحد، ولكن مع ذلك تشوبه موجهة من الخوف والوجل من الوقوف والمسآلة أمام الحاكم والقاضي في أمور التحقيق، هذا في عالم الدنيا، مع علمه بأنه لو كان مجرماً حقاً ولم يكن هناك شاهداً يشهد عند هذا القاضي والحاكم، وإنّه سوف يتخلص منه وينجو من حكمه، ولكن مع ذلك يخاف الوقوف في حضرته وبين يديه، فكيف بالوقوف عند الله وبين يدي الله وهو يعلم أن الربّ مطالع على صغائر أفعاله وأقواله، بل ونواياه التي أضمرها في نفسه، فمثل ذلك لمخيف حقاً.
وعندئذ يبشر النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) أمته ويطمئنها بأنّ حب أهل بيته يدفع عنهم هذا الخوف العظيم، وبالخصوص في لحظات الموت وسكراته، وهي اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان التي يتم بها توديع عالم الدنيا والسفر إلى عالم الآخرة، حيث الحياة غير الحياة والقوانين غير القوانين، والناس غير الناس، وكل شيء فيها يختلف عما كان في عالم الدنيا، فالصور ملكوتية، والأعمال تجسمية بمثال كما في عالم البرزخ، أو بجسم كما في عالم القيامة الكبرى.
روى الصدوق بسند إلى علي بن الحسين عن أبيه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (حب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة عن الوفاة وفي القبر وعند النشور وعند الكتاب وعند الحساب وعند الميزان وعند الصراط)(20).
ولا يقتصر نفع حب أهل البيت على عالم البرزخ، بل يتجاوزه إلى عالم القيامة الكبرى، ويم يعاد الناس، فقد سأل معاذ النبي(صلى الله عليه وآله) عن قوله تعالى:
{فتأتون أفواجا} فقال(صلى الله عليه وآله): (يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه وقال يحشر الناس عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صور القردة وبعضهم على صور الخنازير وبعضهم منكوسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها وبعضهم عمي وبعضهم صم بكم وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مولاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم وبعضهم مصلوبون على جذوع من نار وبعضهم أشد نتنا من الجيف وبعضهم ملبسون جبابا سائغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صور القردة فالقتات من الناس وأما الذين على صور الخنازير فأهل السحت وأما المنكوسون على وجوههم فأكلة الربا وأما العمي فالذين يجورون في الأحكام وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم
فعلهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذي يؤذون الجيران وأما المصلوبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى الشيطان وأما الذين هم أشد نتنا في الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ويمنعون حق الله وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء) (21).
فكل إنسان رهين أعماله في الآخرة(22)، فما زرعه في دار الدنيا يجنيه فهي متجر أولياء الله كما جاء عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، حيث قال في وصفها: (إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله. اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة) (23)، فما أن يخرج عن هذا العالم إلاّ ويجد نتائج أعماله حاضرة متجسمة عنده في عالم الآخرة، وهو عالم حساب ولا عمل، وعندها تتجلى قيمة الحب لآل البيت(عليهم السلام).
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):(لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزوع روحه وظهور ملك الموت له، وذلك أن ملك الموت يرد على المؤمن وهو في شدة علته، وعظيم ضيق صدره لما يخلفه من أمواله، ولما هو عليه من اضطراب أحواله في معامليه وعياله، وقد بقيت في نفسه حسراتها فانقطع دون أمانيه فلم ينلها. فيقول له ملك الموت: مالك تجرع غصصك ؟ فيقول: لاضطراب أحوالي واقتطاعك لي دون آمالي. فيقول له ملك الموت: وهل يحزن عاقل من فقد درهم زائف واعتياض ألف ألف ضعف الدنيا ؟ فيقول: لا. فيقول ملك الموت: انظر فوقك. فينظر فيرى درجات الجنان وقصورها التي تقصر دونها الأماني. فيقول ملك الموت: تلك منازلك ونعمك وأموالك وأهلك وعيالك ومن كان من أهلك هنا وذريتك صالحا فهم هناك معك، أترضى بهم بدلا عما هنالك ؟ فيقول: بلى والله. ثم يقول: انظر، فينظر محمدا وعليا والطيبين من آلهما في أعلى عليين. فيقول: أو تراهم هؤلاء ساداتك وأئمتك هم هناك جلساؤك، واناسك أفما ترضى بهم بدلا عما تفارق هاهنا ؟ فيقول: بلى وربي، فذلك ما قال الله - تعالى -: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا) فأما ما أمامكم من الأهوال فقد كفيتموها (ولا تحزنوا) على ما تخلفونه من الذراري والعيال، فهذا الذي شاهدتموه في الجنان بدلا منه (وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون) هذه منازلكم وهؤلاء ساداتكم وأناسكم وجلساؤكم)(24).
روي زيد عن أبيه هو يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):(والذي نفسه بيده، لا تفارق روح جسد صاحبها حتى تأكل من ثمار الجنة أو من شجرة الزقوم، وحين ترى ملك الموت، تراني وترى عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فإن كان يحبنا قلت: يا ملك الموت أرفق به فإنه كان يحبني ويحب أهل بيتي وإن كان مبغضنا قلت: يا ملك الموت شدد عليه فإنه كان يبغضني ويبغض أهل بيتي)(25).
خامساً: مودة قربى النبي(صلى الله عليه وآله) من علائم طهارة المولد
لقد جعل النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) محبة علي ميزاناً ومعياراً وملاكاً لمعرفة طهارة المولود، حتى نقل أن العرب كانت تضع أبناءها في قارعة الطريق، ليتأكدوا من طهارة أولادهم، فإن ابتسم بوجه الإمام علي استبشروا بذلك واستدلوا على طهارتهم، وإن عبسوا بوجه الإمام وبكوا وحزنوا وشكوا في طهارة أبنائهم، كما قد جاءت في بعض الروايات أنّه لا يحب أهل بيت النبي إلا من طابت ولادته ولا يبغض إلاّ من خبثت ولادته، وإليك بعض هذه الروايات:
أخرج الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: (إن كنا لنعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب) (26)
وروى الحاكم النيسابوري في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) (27)
وروى الصدوق في أماليه بسند عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال لعلي(عليه السلام):(يا علي من أحبّني وأحبّك وأحبّ الأئمة من ولدك فليحمد الله على طيب مولده فإنّه لا يحبّنا إلا من طابت ولادته ولا يبغضنا إلاّ من خبثت ولادته)(28).
ثم قال في مقام آخر:(من أحبنا أهل البيت فليحمد الله على أول النعم، قيل: وما أول النعم؟ قال: طيب الولادة، ولا يحبنا إلاّ من طابت ولادته)(29).
وأخرج الحاكم النيسابوري عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يريد أن يحيى حياتي ويموت موتى ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة) ثم قال معلقاً عليه: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) (30).
قال الإمام الصادق(عليه السلام):(من وجد برد حبنا في كبده فليحمد الله على أوّل النعم قال قلت: جعلت فداك ما أوّل النعم؟ قال: طيب الولادة)(31).
والحاصل: أنّ جميع هذه الروايات المعتبرة والصحيحة، تدل على أن محبة الإمام علي(عليه السلام) وأهل بيته(عليهم السلام) كاشف عن طهارة الولادة، فما أعظمها من ميزان تكشف به السرائر وتعرف به بوطن الأسرار.
سادساً: محبة أهل البيت (عليهم السلام) توجب محبتهم له يستفاد من بعض الروايات أن لأهل البيت يحبون من يحبهم، وأنّهم(عليهم السلام) يحبون محبي محبهم(عليهم السلام)، نقرأ في رواية حنش بن المعتمر هو يقول:(دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، كيف أمسيت ؟ قال: أمسيت محبا لمحبنا، مبغضا لمبغضنا، وأمسى محبنا مغتبطا برحمة من الله كان ينتظرها، وأمسى عدونا يرمس بنيانه على شفا جرف هار فكان ذلك الشفا قد انهار به في نار جهنم و....) (32).
سابعاً: محبة أهل البيت خير الدنيا والآخرة يعد في بعض الروايات أن محبة أهل البيت(عليهم السلام) هي خير الدنيا والآخرة، كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):(من أراد التوكل على الله فليحب أهل بيتي، ومن أراد أن ينجو من عذاب القبر فليحب أهل بيتي، ومن أراد دخول الجنة بغير حساب فليحب أهل بيتي، فوالله ما أحبهم أحد إلا ربح الدنيا والآخرة.
وأيضاً قال:(من رزقه الله حب الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة، فلا يشكن أحد أنه في الجنة فإن في حب أهل بيتي عشرون خصلة، عشر منها في الدنيا وعشر منها في الآخرة، أما التي في الدنيا فالزهد والحرص على العمل، والورع في الدين، والرغبة في العبادة، والتوبة قبل الموت، والنشاط في قيام الليل، واليأس مما في أيدي الناس، والحفظ لأمر الله ونهيه عز وجل، والتاسعة بغض الدنيا، والعاشرة السخا، وأما التي في الآخرة فلا ينشر له ديوان، ولا ينصب له ميزان، ويعطى كتابه بيمينه، ويكتب له براءة من النار، ويبيض وجهه، ويكسى من حلل الجنة، ويشفع في مائة من أهل بيته، وينظر الله عز وجل إليه بالرحمة ويتوج من تيجان الجنة، والعاشرة يدخل الجنة بغير حساب فطوبى لمحبي أهل بيتي)(33).
ثامنا: تمحيص الذنوب ومضاعفة الأجر قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (حبنا أهل البيت يكفر الذنوب، ويضاعف الحسنات..)(34).
عن علي بن الحسين عليهما السلام أنه قال: (من أحبنا لله نفعه حبنا، ولو كان في جبل الديلم، ومن أحبنا لغير ذلك فان الله يفعل ما يشاء، إن حبنا أهل البيت يساقط عن العباد الذنوب كما تساقط الريح الورق من الشجر)(35).
إنّ الحب في نفسه يحرك الإنسان باتجاه المحبوب، وهذه الحركة المعنوية أشبة بالحركة المادية، إذ أنّها تدفع بالإنسان إلى معرفة هذا المحبوب وما له من خصائص مميزات يمتاز بها على الآخرين، بحيث تأهله لاستحقاق هذه المحبة والمودة المفروضة من قبل الله تعالى على عباده، وبما أنّ هذه المعرفة تتوقف على طهارة النفس من أدناس الذنوب والآثام، فتجده سيسعى جاداً على تطهير نفسه من هذه الذنوب المانعة من تحقق هذه المعرفة، ويستبدلها بالفضائل والكمالات الوجودية التي تمثلها مكارم الأخلاق وغيرها، لأنّه يعلم علماً يقيناً بأن هذه الذوات الطاهرة المقدسة لا يمكن التقرب منها ولو على سبيل المعرفة القلبية ما يكن هذا القلب طاهراً من أدناس الذنوب الموجبة لحجبه عن رؤيا نورها، كما أن العقل يكون محجوباً بأوهام وجهل عدم معرفة هذه الذوات المقدسة، إذ لا معنى أن يكون الإنسان عاشقاً محباً لمحبوبه وهو يعلم أن محبوبه لا يحب الإنسان المتلوث بالذنوب والمعاصي، أو أنّه محجوب بحجب الأوهام وظلمة الجهل بمعشوقه، وعندها لا يسمع الدعاء؛ لأن سمعه قد حجب بحجاب الذنوب، قال الشيرازي: (الآذان التي أصمتها حجب الذنوب والغفلة والغرور فلا تسمع الحق مطلقا.) (36).
وجاء في رواية عن محمد بن صدقة أنه قال: (سأل أبو ذر الغفاري سلمان الفارسي رضي الله عنهما يا أبا عبد الله ما معرفة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنورانية ؟ قال: يا جندب فامض بنا حتى نسأله عن ذلك، قال: فأتيناه فلم نجده. قال: فانتظرناه حتى جاء قال صلوات الله عليه: ما جاء بكما ؟ قالا جئناك يا أمير المؤمنين نسألك عن معرفتك بالنورانية قال صلوات الله عليه: مرحبا بكما من وليين متعاهدين لدينه لستما بمقصرين، لعمري أن ذلك الواجب على كل مؤمن ومؤمنة، ثم قال صلوات الله عليه: يا سلمان ويا جندب قالا: لبيك يا أمير المؤمنين، قال (عليه السلام): إنه لا يستكمل أحد الإيمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام وصار عارفا مستبصرا، ومن قصر عن معرفة ذلك فهو شاك ومرتاب، يا سلمان ويا جندب قالا: لبيك يا أمير المؤمنين، قال (عليه السلام): معرفتي بالنورانية معرفة الله عز وجل ومعرفة الله عز وجل معرفتي بالنورانية وهو الدين الخالص الذي قال الله تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ". يقول: ما أمروا إلا بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الدين الحنيفية المحمدية السمحة، وقوله: " يقيمون الصلاة " فمن أقام ولايتي فقد أقام الصلاة وإقامة ولايتي صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. فالملك إذا لم يكن مقربا لم يحتمله، والنبي إذا لم يكن مرسلا لم يحتمله والمؤمن إذا لم يكن ممتحنا لم يحتمله، قلت: يا أمير المؤمنين من المؤمن وما نهايته وما حده حتى أعرفه ؟ قال (عليه السلام): يا عبد الله قلت: لبيك يا أخا رسول الله، قال:
المؤمن الممتحن هو الذي لا يرد من أمرنا إليه بشيء إلا شرح صدره لقبوله ولم يشك ولم يرتب)(37).
ولذا جاء عن النبي قوله(صلى الله عليه وآله) في حق معرفة الله والإمام علي(عليه السلام): (يا علي ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك، وما عرفك
حق معرفتك غير الله وغيري. قال ابن حماد:
جل العلي علا *** عن مشبه ونظير
إمام كل إمام*** أمير كل أمير
حجاب كل حجاب*** سفير كل سفير
باب إلى كل رشد*** نور على كل نور
وحجة الله ربي*** على الجحود الكفور)(38)
حجاب كل حجاب*** سفير كل سفير
باب إلى كل رشد*** نور على كل نور
وحجة الله ربي*** على الجحود الكفور)(38)
فهذه المعرفة لا تحقق ما لم تكن هناك رغبة في الحركة، وهذه الحركة لا تحقق ما لم تكن هناك جاذبية خاصة باتجاه المتحرك إليه، يعني إن لم تكن حركة هادفة باتجاه معين، فإنها تكون حركة عبثية لهوية لا تحافظ على الدوم والاستمرار، ولكنها عندما تكون يراد لها أن تكون حركة هادفة فيتوجب على صاحبها أولاً أن يتصور الهدف والغاية ويدركها إدراك لا يشوبه وهم ولا جهل، ولما علم أنّ هذه المعرفة تتوقف على صفاء النفس وطهارتها تحرك باتجاه التخلص من كل ما من شأنّه أن يدنس النفس ويعكر صفائها.
فالحب هو الذي يدفع الإنسان على الحركة، وطلب المحبوب هو الذي يدعو العاشق أن يمحص نفسه من الذنوب الموجبة لابتعاده عن المحبوب.
فمن أحب التزم بكل ما يأمره به المحبوب، ومادام المحبوب هم أهل البيت(عليهم السلام) فأهل البيت(عليهم السلام) وصيتهم التقوى.
أمّا من يتصور أن حب أهل البيت يغنيه عن كل عمل صالح ويكتفي به عن أداء العبادات وسائر الفرائض الإلهية الأخرى، فهذا التصور في الواقع تصوراً شيطانياً يؤدي بصاحبه عن وصول الكمال والابتعاد عن الله ورسوله وأهل بيته، قال الإمام الباقر(عليه السلام) لجابر الأنصاري: (يا جابر لا تذهبن بك المذاهب حسب الرجل أن يقول: أحب عليا وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعالا ؟ فلو قال: إني أحب رسول الله فرسول الله (صلى الله عليه وآله) خير من علي (عليه السلام) ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عز وجل [ وأكرمهم عليه]
أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعا فهو لنا ولي
ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع.) (39).
تاسعاً: الأمن من هول القبر
هناك العديد من الروايات الشريفة تدل على أن حب أهل البيت أمان للإنسان من هول القبر وسؤاله، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) للحارث الأعور:(لينفعنك حبنا عند ثلاث: عند نزول ملك الموت، وعند مسائلتك في قبرك، وعند موقفك بين يدي الله)(40).
وقد جاء في دعائهم(عليهم السلام) بخصوص أهوال الموت والقبر والقيامة أنّهم كانوا يدعون(عليهم السلام): (اللهم بارك لي في الموت، اللهم أعني على الموت، اللهم أعني على سكرات الموت، اللهم أعني على غمرات الموت، (اللهم أعني على غم القبر) اللهم على ضيق القبر، اللهم أعني على ظلمة القبر، اللهم أعني على وحشة القبر، اللهم أعني على أهوال يوم القيامة اللهم بارك لي في طول يوم القيامة، اللهم زوجني من الحور العين)(41)
عاشراً: حب أهل البيت(عليهم السلام) يشرق الوجه يوم القيامة
إنّ من الآثار العجيبة لمحبة أهل البيت(عليهم السلام) ما يظهر منها في يوم القيامة، ومنها الاستبشار وشراقة الوجه ونورانيته، كما دلّ على ذلك ما ورد من الروايات
عن النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)، كما جاء في رواية الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بسندٍ جاء فيه: (حدثنا محمد بن الفضل بن العباس الفريابي حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني حدثنا عبد الله بن وهب قال: حدثني مالك بن أنس، عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكثركم نورا يوم القيامة أكثركم حبا لآل محمد ص. قال أبو القاسم: سألت أبا النصر المروزي الحافظ عن هذا الشيخ قال: أنا كتبت عنه بفارياب، ورأيت هذا في أصله وهو عندي صدوق.)(42).
وقال أيضاً: (أخبرناه عبد الرحمان بن الحسن، قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم، حدثنا مطين حدثنا نصر بن عبد الرحمان، حدثنا زيد بن الحسن، عن معروف بن خربوذ المكي، عن أبي عبيد مولى ابن عباس سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أما والله لا يحب أهل بيتي عبد إلا أعطاه الله
عز وجل نورا حتى يرد على الحوض، ولا يبغض أهل بيتي عبد إلا احتجب الله عنه يوم القيامة)(43).
عن أبي سعيد الخدري قال: (فمالوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ إلى منبره فحمد الله تعالى وأثني عليه وقال: يا أيها الناس بارك الله فيكم الثقلين فإنه لن تعمى أبصاركم، ولن تزل أقدامكم، ولن تقصر أيديكم، ما أخذتم به كتاب الله عز وجل، بينكم وبين الله تعالى، وطرق بيده وطرق بأيديكم، فآمنوا بمتشابه، واعملوا بمحكمه وحرموا حرامه وأحلوا حلاله، ألا وسنتي، والله لا يكرمها رجل ويوقرها على هواه، إلا أعطاه الله تعالى نورا حتى يرد على يوم القيامة، وأيم الله لا يموت رجل وقد تركها إلا احتجبت منه يوم القيامة، ثم حمل حتى يرجع إلى بيته ورأى الناس فيه الذي كانوا يتمنون ويرجعون، فتفرق الناس وأخلوه بأزواجه صلى الله عليه وسلم) (44).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف، ج4، ص76؛ القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، ج17، ص303؛ ابن عربي، محيي الدين، تفسير ابن عربي، ج2، ص307.
2-الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، ج5، ص302. الذهبي، تاريخ الإسلام، ج3، ص627.
3- العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ج4، ص468.
4- الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص616.
5- الطبرسي، الفضل بن الحسن، الاحتجاج، ص134.
6-الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص200، أمالي الصدوق، ص775.
7-النيسابوري، صحيح مسلم، ج7، ص123.
8-انظر: أسد الغابة، ج4، ص296، وقد ذكر فيه قصة قتل مالك بن نويرة وأصحابه واختلاف القوم فيه، وانتهى إلى أنه مسلم كما اعترف بذلك عمر وأبو بكر وغيرهم، حيث قال: >فلما فرغ خالد من بني أسد وغطفان سار إلى مالك وقدم البطاح فلم يجد به أحد كان مالك قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع فلما قدم خالد البطاح بث سراياه فأتى بمالك بن نويرة ونفر من قومه فاختلفت السرية فيهم وكان فيهم أبو قتادة وكان فيمن شهد انهم أذنوا وأقاموا وصلوا فحبسهم في ليلة باردة وأمر خالد فنادى أدفئوا أسراكم وهي في لغة كنانة القتل فقتلوهم فسمع خالد الواعية فخرج وقد قتلوا فتزوج خالد امرأته فقال عمر لأبي بكر سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه فقال أبو بكر تأول فأخطأ ولا أشيم سيفا سله الله على المشركين وودى مالكا وقدم خالد على أبي بكر فقال له عمر يا عدو الله قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته لأرجمنك وقيل إن المسلمين لما غشوا مالكا وأصحابه ليلا أخذوا السلاح فقالوا نحن المسلمون فقال أصحاب مالك ونحن المسلمون فقالوا لهم ضعوا السلاح وصلوا وكان خالد يعتذر في قتله ان مالكا قال ما أخال صاحبكم الا قال كذا فقال أوما تعده لك صاحبا فقتله فقدم متمم على أبي بكر يطلب بدم أخيه وان يرد عليهم سبيهم فأمر أبو بكر برد السبي وودى مالكا من بيت المال فهذا جميعه ذكره الطبري وغيره من الأئمة ويدل على أنه لم يرتد وقد ذكروا في الصحابة أبعد من هذا فتركهم<.
9-الشهرستاني، عبد الكريم، الملل والنحل،ج1، ص24.
10-الزرندي الحنفي، محمد بن يوسف، نظم درر السمطين، ص233؛ ابن الصباغ، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، ج3، ص1173. الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص446. الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، ص279.
11-القاضي المغربي، النعمان بن محمد، شرح الأخبار، ج2، ص483. وقريب منه أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، ج2، ص310؛ ابن الصباغ، الفصول المهمة، ج2، ص1173.
12-المرعشي، شهاب الدين، شرح إحقاق الحق، ج18، ص437؛ نقلاً عن الشيخ ولي الله اللكنهوئي في مرآة المؤمنين، ص81.
13-ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، ج1، ص95؛ الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص179؛ الصدوق، الخصال، ص577.
14-الطبراني، المعجم الأوسط، ج5، ص87.
15-الهيثمي، نور الدين، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج9، ص133.
16- الخزاز القمي، علي بن محمد، كفاية الأثر، ص110.
17- سورة الرعد، الآية 28.
18-السيوطي، جلال الدين، الدر المنثور، ج4، ص58؛ الشوكاني، فتح القدير، ج3، ص82.
19-انظر: أنصاريان، أهل البيت ملائكة الأرض، ص427.
20-الصدوق، محمد بن علي، فضائل الشيعة، ص5. القمي، الخزاز، كفاية الأثر، ص108.
21-تخريج الأحاديث والآثار، الزيلعي، ج4، ص144.
22- كما قال الله تعالى: {يوم تجد كل نفس ما قدمت حاضراً}
23-عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص32.
24-الحلي، حسن بن سليمان، المختصر، ص53؛ تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ذيل الآية 46 من سورة البقرة.
25-الطبري، محمد بن علي، بشارة المصطفى، ص25.
26-الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، ج5، ص298..
27-الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص129.
28-الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص563.
29-نفس المصدر، ص563. وفي كتابه علل الشرائع، ج1، ص141؛ الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، ص456.
30- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص129.
31- الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام، ج4، ص143.
32-المفيد، محمد بن محمد، الأمالي، ص334.
33- الصدوق، محمد بن علي، الخصال، ص515.
34-الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، ص165.
35-المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج65، ص116.
36-الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج10، ص173.
37-المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج26، ص2.
38-ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص60.
39-الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص75.
40- المجلسي، محمد باقر،بحار الأنوار، ج27، ص164.
41-الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام، ج3، ص93؛ الراوندي، قطب الدين، الدعوات، ص251.
42-الحاكم الحسكاني، عبد الله بن أحمد، شواهد التنزيل، ج2، ص310.
43-نفس المصدر، ج2، ص310.
44-المقريزي، أحمد بن علي، أمتاع الأسماع، ج14، ص476.