قال تعالى : (إنّما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اُهل به لغير اللّه، فمن اضطرَّ غير باغٍ ولا عاد فلا إثم عليه. إنّ اللّه غفور رحيم)(1).
وقال : (قل لا اجد فيما اُوحي اليّ محرّماً على طاعم يطعمه، إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير، فإنّه رجس، أو فسقاً اُهل لغير اللّه به. فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد، فإنّ ربّك غفور رحيم)(2).
وقال : (إنّما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اُهل لغير اللّه به، فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عاد، فانّ اللّه غفور رحيم)(3).
وقد اختلفت الأقوال في تفسير الباغي والعادي اللذين لم يُرخّص لهما تناول الحرام في حالة الاضطرار ايضاً...
قال الشيخ ابو جعفر الطوسي : في معناهما ثلاثة اقوال :
اوّلها - غير باغٍ اللَّذة، ولا عادٍ سدَّ الجوعَة. وهو قول الحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد.
والثاني - ما حكاه الزجّاج : غير باغ في الإفراط، ولا عاد بالمعصية في التقصير.
والثالث - غير باغٍ على امام المسلمين، ولا عادٍ بالمعصية طريق المحقّين. وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد. وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد اللّه عليهما السلام(4).
غير ان هناك آيتين اُخريين تعرّضتا للموضوع نفسه، وهو اباحة تناول الحرام عند الضرورة اليه، احداهما وردت مطلقة من غير ما تقييد، وهي قوله تعالى : (وما لكم اَلاّ تأكلوا مما ذُكر اسم اللّه عليه وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اُضطررتم اليه...)(5).
والاخرى جاءت مقيّدة بقيدين يختلفان تعبيراً عن الآيات الثلاث الآنفة. قال تعالى : (حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اُهل لغير اللّه به... فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثم. فان اللّه غفور رحيم)(6).
فلفظة (في مخمصة) حلّت محل (غير باغ)...
ولفظة (غير متجانف لاثمٍ) حلّت محل (ولا عادٍ)...
فهل هناك من علاقة بين العنوانين في كلّ من الوصفين؟
قال الراغب : في مخمصة أي مجاعة، تُورث خمص البطن أي ضُمُوره...
قال : أصل الجَنَف مَيْلُ في الحكم، فقوله (فمن خاف من موصٍ جنفا)(7) أي ميلاً ظاهراً.
وبذلك صحّ تفسير الباغي والعادي في الآيات الثلاث الاولى، بما جاء في هذه الآية من تبيين، اذ قوله تعالى : (في مخمصة) يعني انه وقع في ضرورة أتته رغم ارادته ولم يكن هو الذي أتاها رغبةً في الحرام...
وقوله : (غير متجانف لاثمٍ) أي غير مائل الى ارتكاب الاثم بتناول فوق سد الجوعة، وذلك ان ما يسدّ به الرمق هو حد الضرورة المبيحة لتناول الحرام، اما الزائد على ذلك فهو مما لم يرخص له ولا شملته شريعة الاباحة عند الاضطرار، اذ لا اضطرار الى الزائد على مقدار الضرورة.
وهذا هو الوجه الاول من الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ، فالباغي على هذا هو طالب الالتذاذ من الحرام أوقع نفسه في ضرورة تلجئه الى تناول الحرام وقوعاً عن اختيار... فهو الذي أتى الضرورة رغبة في الحرام ولم يكن بالذي أتته الضرورة رغم ارادته.
والعادي : هو الذي يتجاوز عن المقدار الذي تندفع الضرورة به، فهو يتجانف أي يميل الى ارتكاب الاثم بتناول الزائد على سدّ الرمق...
وعليه فقد تبيّن ان البغي - هنا - بمعنى الطلب، وليس بمعناه الآخر : البغي والفساد في الارض.
كما ان العدوان هنا يعني الصبيان الخاص بتناول الزائد عن المقدار المباح، لا مطلق العصيان. نظير الإثم المقصود به خصوص الإثم المرتَكب هنا بتجاوز الحدّ المباح، وليس مطلق الإثم...
اذ لو اريد مطلق الاثم والعصيان، لم يكن متناسباً مع موضوع الحكم ذلك التناسب القائم معه في صورة ارادة الخصوص... فكأنه اُريد جانب المنفي من الحكم في صورة فقد الموضوع، عند تجاوز حدّ الضرورة...
هذا فضلاً عن أنه لو كان اُريد به ارتكاب مطلق الإثم، لم تعد لهذا الاستثناء فائدة، اذ لا يخلو امرؤ من ارتكاب إثمٍ مهما كان صادقاً في ايمانه... ولاختص الترخيص بالمعصوم حينذاك.
وقول بعضهم: اختصاصُه بقطع سبيل المسلمين او نحو ذلك... رجمُ بالغيب وتخصيص من غير مخصّص او ترجيح من غير دليل...
ولعلّك تقول : هب أنّه وقع في الضرورة وكان فاقداً للوصفين، فهل لا يجب عليه حفظ الحياة او يموت رغم امكان الإبقاء على الحياة بتناول الحرام؟!
قلت : لا منافاة حينذاك بين وجوب حفظ النفس، ومعاقبته على ارتكاب الإثم... فرقاً بينه وبين واجد الوصف الذي لا يعاقب على تناول الحرام... انه ألقى بنفسه في التهلكة اختياراً... فمن جهة يجب عليه حفظ نفسه، ومن جهة اخرى يعاقب على اختياره هذا المسير المظلم... والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار...
وعليه فلا وقع لما استشكله الرمّاني في المقام : «بانه تعالى لم يبح لأحد قتل نفسه، بل حظر عليه ذلك، والتعريض للقتل قتل في حكم الدين. ولأنّ الرخصة انما كانت لأجل المجاعة المتلفة، لا لأجل الخروج في طاعة وفعل اباحة...»(8).
ذلك انه - على الفرض - لم يستبح له قتل نفسه، بل يجب عليه حفظها بتناول الحرام بما يسد رمقه... نعم يعاقب عليه، لانه فرّط في جنب اللّه واقدم على ارتكاب الحرام باختياره هذا المسير في بداية المطاف.
وهناك روايات تفسّر الآية على غير هذا الوجه :
ففي مرسلة البزنطي عن الامام الصادق عليه السلام قال : الباغي : الذي يخرج عن الامام، والعادي : الذي يقطع الطريق ، لا تحلُ له الميتة...
وفي حديث عبد العظيم الحسني مع الامام الرضا عليه السلام : العادي : السارق، والباغي : الذي يبغي الصيد بطراً ولهواً، لا ليعود به على عياله. ليس لهما ان يأكلا الميتة اذا اضطرّا، هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار...
وعن حمّاد بن عثمان عن الامام الصادق عليه السلام : الباغي : باغي الصيد، والعادي : السارق...(9).
ولصاحب الجواهر قدس سره كلام حول هذه الروايات : انّه يرى عدم ثبوت حجيتها، ومن ثَمّ فسّر الباغي والعادي بما في آية اخرى من التعبير بالمتجانف لاثم، لان باغي الحرام والعادي عن المقدار الحلال، كلاهما عامدان الى تناول المحرّم، وليست الضرورة دعتهما الى ذلك، وكان الاختيار والاضطرار بالنسبة اليهما واحداً في القصد الى ارتكاب الإثم...
اذن فليست الرخصة الخاصة بالمضطر، مما يشملهما، قال : وحينئذٍ فيكون المراد الرخصة للمضطرّ من حيث كونه كذلك. لا المتناول لها القادم على الإثم او المستحل لها، فانه لا رخصة لهما ولو في حال الاضطرار، ضرورة عدم كون الباعث لهما الاضطرار، بل البغي والعدوان، أي التجانف للإثم في اكل الميتة... بل في الحقيقة لا اضطرار بالنسبة الى مثله، ضرورة عدم حالة امتناع له مطلقاً... والمنساق من قوله (فمن اضطر) الرخصة للممتنع حال الاختيار ان اتفق اضطراره...
قال : فحينئذٍ يكون قوله تعالى (غير متجانف لإثم) حالاً مؤكدة وكاشفة، وكذا قوله (غير باغ ولا عاد) بناءً على ارادة معنى غير متجانف للاثم منهما...
قال : ولا ينافي ذلك النصوص المزبورة التي لم تثبت حجّيتها... ومع التسليم يكون ما فيها امراً آخر تنتفي الرخصة ايضاً مضافاً الى ذلك...(10).
المصادر :
__________________________
(1) البقرة : 173.
(2) الانعام : 145.
(3) النحل : 115.
(4) تفسير التبيان 2 : 86.
(5) الانعام : 119.
(6) المائدة : 3.
(7) البقرة : 182.
(8) ذكره الشيخ في التبيان 2 : 86.
(9) وسائل الشيعة 16 : 479 - 480 باب 56 الاطعمة المحرّمة رقم 5 و 1 و 2.
(10) جواهر الكلام 36 : 430.