بسم الله الرحمن الرحيم
(( وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ )) القصص / 55ان الاية المباركة تشير الى قاعدة عامة وهي ان الانسان يتحرك في حدود ما ينفعه ويعرض عما لا ينفعه وهي قاعدة فطرية وعقلية ايضاً وجاءت الاية لتركز على هذا المعنى وتشخص احدى هذه الحالات الاجتماعية وهي عدم الخوض في اللغو أي الكلام الذي لا فائدة فيه ويرى بعض المفسرين ان اللغو المقصود في هذه الاية هو الشتم الذي تعرض له الرواد الاوائل للدعوة في فجر ولادتها ويمكن القول ان الشتم من أهم مصاديقه ولا ينحصر به ان الظاهرة التي اشارت اليها الاية المباركة ظاهرة مهمة ينبغي الوقوف عليها حتى نفهم الاجواء العامة لنزول الاية والمنهج التربوي الذي حملته فالمجتمع المكي مجتمع تجاري يقوم على الاموال عن طريق رحلتي الشتاء والصيف وتوجد فيه طبقة ثرية تمول الجزيرة تقريباً ومن جهة اخرى يرون انفسهم اهل بيت الله بمعنى يرون لانفسهم ميزات حضارية وفي بدء الدعوة الذين اعتنقوا الاسلام اغلبهم من الطبقات المسحوقة والفقيرة مثل خباب ابن الارت وعمار وبلال ولاحظ المشركون ان هؤلاء اصبحوا شيئاً مذكورا فصعب ذلك عليهم فراحوا يسمعون المسلمين كلمات نابية فجاءت الاية في مقام التربية ووضع منهج تربوي وان يرتفعوا عن مستوى المقابلة وان سمعوا الكلام فلا يرتبوا عليه اثراً اذاً من مظاهر التربية الجاهلية الشتم والسباب ومن مظاهر التربية العقائدية هي المرونة و استيعاب الاخر
منشـــأ هذه الظاهرة
ان الشعور بالاستعلاء الناشئ من عقدة نفسية واخلاقية والاعتقاد بان الثروة منشأ العظمة والاحترام هو سبب هذه الظاهرة وهي في الحقيقة محاولة لتغطية هذا النقص وهذا المعنى اشارت اليه النصوص الدينية وانتهت اليه بعض الدراسات النفسية المعاصرةمعالم المنهج التربوي:
ان المنهج التربوي الذي تضمنته الاية قائم على ثلاث معالم رئيسية .
المعلم الاول (الاعراض):
- (اذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه) -نحن نعلم ان الانسان يعيش في مجتمع وهذا المجتمع ليس بالضرورة ان تكون افراده على عقيدة واحد او مذهب موحد والناس متفاوتون في قابلياتهم الذهنية والاخلاقية والتصادمات العقائدية والاجتماعية امر طبيعي فلعلاج هذه الظاهرة جاءت المرحلة الاولى هي الاعراض وقد يفهم منه العزلة النفسية وعدم التأثر في هذه الاجواء والتعامل مع هذا الموقف بالتغاضي وصرف النظر لان القرآن يريد الارتفاع بمستوى الفرد المسلم الى مستوى اخلاقي عالي فلا يقابل اللغو بالمثل لان المقابلة تهبط بالانسان وقد تتعقد المشكلة ونذكر نموذجاً راقياً انصهر بالعقيدة وتربى على يد امير المؤمنين (ع) وهو الاحنف بن قيس صاحب قبيلة من مئة الف شخص وكان اذا قال لهم تقدموا تقدموا باجمعهم لأي عمل ولو كان فيه الموت ولا يسألونه عن السبب شتمه احد الناس يوماً وراح يسمعه الفاضاً نابية فلم يلتفت اليه فقال للاحنف أانت حجر؟ اياك اعني فقال له الاحنف وعنك اعرض
المعلم الثاني (التنبيه):
وهو الدخول في حوار هادئ وشفاف لتحريك العقول المتحجرة والضمائر الميتة ويمكن ان يستفاد من قوله تعالى (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) ثلاث منبهات:المنبه الاول (المسؤولية الفردية):
انكم تتعرضون الينا بالشتم فهل هذا من باب النقد ام لا؟
ان قلتم هذا من النقد فهذا ليس اسلوباً للنقد وليس فيه أي نبضاً انساني بل نابع من العقد التي تربى عليها القوم باحتقار الطبقات المسحوقة والضعيفة وان لم يكن نقداً بل اعتداء على حقوق الاخرين فالجواب نحن لا نعتدي على حقوق الناس وفي هذا المقطع اشارة الى المسؤولية الفردية فنحن نتحمل اعمالنا وانتم تتحملون اعمالكم وهذه قاعدة عقلية وشرعية ايضاً وهذا نوع من الانصاف دعت اليه الاية المباركة.
المنبه الثاني (المسؤولية العقائدية):
نحن لنا دين وانتم لكم دين وقد علمنا ديننا الا نشتم حتى اصحاب الصنم لان ان شتمته شتمك فلا تجعل لهؤلاء حجة عليك وطريقاً لشتمك، قال رسول الله (ص) يوصي اصحابه: (من الكبائر شتم الرجل منكم والديه فقالوا اويشتم الرجل اباه قال نعم يسب ابا الرجل فيسب اباه)فهذا المقطع يعطي نموذج فريداً من التعايش الحضاري لنا عقيدتنا ولكم عقيدتكم فان اردنا التعايش فليحترم بعضنا البعض - المنبه الثالث (المسؤولية الاخلاقية):
الالفاظ القبيحة والنابية ليست من خلق المؤمن لان عمل الانسان المؤمن كله بحساب ويسعى بجهده من اجل تسخير الطاقات في خدمة الدين والمجتمع وهو يرى للكلمة مسؤولية كبيرة وكما ورد في الحديث الشريف (الكلمة الطيبة صدقة).
المعلم الثالث (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ):
معنى السلام ترك الحرب فهم يقولون نحن لا نقاتلكم من اجل سبابكم (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت/34}) فالمشركين ومن سار على خطاهم منطقهم منطق الشاعر:
الا لا يجهلن احد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والاية المباركة تعبر عن منهج المؤمنين المعبر عنه بالحسنة والدفع بالتي هي احسن فشتان بين الاثنين، بين من يعيش العقد النفسية والإنحطاط الخلقي ويملؤه التعصّب ويبتعد عن منطق العقل كالمشركين وينغلق عن الوحي وأنواره وإن كان يدعي الإنتساب إليه بحسب الظاهر كالمنافقين والمتعصبين الذين يتبرقعون بالأغطية العلمية وتحركهم الغرائز العدوانية أمثال الخوارج وبني أمية وغيرهم كثيرين وبين التألّق والأدب الرفيع الذين يتناغم مع الوحي ويعيش على مستوى الأهداف النبيلة ويرتفع عن صغائر الأمور ويحتكم إلى العقل والمنطق والوحي ويتخلّق بالأخلاق الفاضلة ويضحّي بالأمور الشخصية من أجل هذه الأهداف كالإمام أمير المؤمنين (ع) وبقية الأئمة ومن سار على خطاهم من شيعتهم ومحبّيهم وإليك عزيزي القارئ بعض الأمثلة عن ظاهرة الشتم والإعراض عنها:
الامام علي (عليه السلام) وظاهرة الشتم
رغم تألق هذه الشخصية المباركة في سماء جميع الفضائل حتى تحول الى الحق بل الحق يدور معه كم جاء في الاثر الشريف لكن النفوس المريضة والحاقدة استمرت على الخلق الجاهلي المنبوذ في التعرض الى منار الهداية ونبراس الحق ونفس النبي (ص) امثال قريش والخوارج وبنو امية وكذلك الاقلام المأجورة او الجاهلة كم استطالت على مقامه الشامخ فها هم الخوارج عندما كان (ع) على منبر الكوفة فقام احدهم ينادي (لله ابوك ما افصحك كاذباً) والى جانبه من ينادي (اشهد انك انت الله والعياذ بالله) فلم يكن يرتب (ع) اثرا على شتمهم لكنه كان ينهى عن ذلك الغالي الذي يعتقد بالوهيته اما بني امية فحدث عنهم بلا حرج فقد سودوا صحائف التاريخ باحداثهم الدامية والاجرامية كسبهم الامام علي اكثر من ثمانين عاماً كما يروي المؤرخون وعلي (ع) هو الاسلام المجسد وهذه مفارقات التاريخ ولنأخذ نموذج ثالثاً من الكتاب وما اكثرهم وعلى رأسهم ابن تيميه ونظائره فقد حاربوا الفضائل المروية والتي طفحت بها صحاحهم بحجة البحث العلمي يقول محمد بن عبد الوهاب في رسالته بعنوان الرد على الرافضة ينقل عن المفيد عن كتاب ينسبه اليه بعنوان (روضة الواعظين) ولا يوجد للشيخ المفيد كتاب يحمل هذا الاسم !!