الإيمان وعلامات المؤمن
  • عنوان المقال: الإيمان وعلامات المؤمن
  • الکاتب: اقتباس شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام)
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 4:45:30 2-10-1403

الإيمان وعلامات المؤمن *

  أنواع الإيمان :

يمكن تقسيم الإيمان ـ بالنظر إلى رسوخه وثباته أو عدمه ـ إلى ثلاثة أقسام هي :

* أوّلاً : الإيمان الفطري :

كإيمان الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، الذين لا تخالجهم الشكوك ، ولا يكونون نهباً للوساوس ؛ لأنّ الله تعالى فطرهم على الإيمان به ، واليقين بما أخبرهم عنه مِن مكنون غَيْبه  .

يقول الإمام الصادق عليه السلام : ( إنَّ الله جبل النبيّين على نبوّتهم ، فلا يرتدّون أبداً ، وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدّون أبداً ، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدّون أبداً ، ومنهم مَن أُعير الإيمان عارية ، فإذا هو دعا وألحَّ في الدعاء مات على الإيمان ) (1) .

* ثانياً : الإيمان المستودع :

وهو الإيمان الصوري غير المستقر ، الذي سرعان ما تزعزعه عواصف الشبهات ووساوس الشيطان ، ويُعبَّر عنه ـ أيضاً ـ بالإيمان المُعَار كأنّما يستعير صاحبه الإيمان ، ثمّ يلبسه ، ولكن سرعان ما ينزعه ويتخلّى عنه ، ويذهب بعيداً مع أهوائه ومصالحه  .

عن الفضل بن يونس عن أبي الحسن عليه السلام قال : ( أَكثِر من أنْ تقول : اللّهمَّ لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من التقصير .. ) (2) .

 وكان الأئمّة عليهم السلام يطلبون من شيعتهم الإكثار من هذا الدعاء ؛ وذلك أنّ بعض كبار الأصحاب قد تعرّضت رؤيته للاضطراب بفعل عواصف الشبهات ودواعي الشهوات ، عن جعفر بن مروان قال : إنَّ الزبير اخترط سيفه يوم قُبض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال : لا أغمده حتى أُبايع لعليّ ، ثمَّ اخترط سيفه فضارب عليّاً فكان ممّن أُعير الإيمان ، فمشى في ضوء نوره ثمَّ سلبه الله إيّاه (3) .

وفي قوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ .. ) (4) إشارة إلى هذين القسمين من الإيمان : الثابت والمتزلزل .

يقول أمير المؤمنين عليه السلام : ( فمِن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقرّاً في القلوب ، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم .. ) (5) .

* ثالثاً : الإيمان الكسبي :

وهو الإيمان الفطري الطفيف الذي نمّاه صاحبه واستزاد رصيده حتى تكامل وسمى إلى مستوى رفيع ، وله درجات ومراتب (6) .

ويمكن تنمية هذا النوع من الإيمان وترصينه حتى يصل إلى مرتبة الإيمان المستقر ؛ ولذلك ورد في نصائح أمير المؤمنين عليه السلام لكميل قوله : ( يا كميل ، إنّه مستقر ومستودع ، فاحذر أنْ تكون من المستودعين ، وإنّما يستحقُّ أنْ تكون مستقرّاً إذا لزمت الجادَّة الواضحة التي لا تُخرجك إلى عوجٍ ولا تزيلُك عن منهج ) (7) .

وتجدر الإشارة إلى أنّ للإيمان أربعة أركان يستقرّ عليها ، فمَن اتّصف بها كان إيمانه مستقرّاً ، وحول هذه المسألة قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( الإيمان له أركان أربعة : التوكّل على الله ، وتفويض الأمر إلى الله ، والرّضا بقضاء الله ، والتسليم لأمر الله عزَّ وجل ) (8) .

كما أنّ للإيمان أربع دعائم معنوية يرتكز عليها ، يقول الإمام علي عليه السلام : ( إنَّ الإيمان على أربع دعائم : على الصبر ، واليقين ، والعدل ، والجهاد ) (9) .

وفوق ذلك للإيمان عُرى وثيقة تأمن مَن تمسّك بها من السقوط في مهاوي الضلال ، منها : التقوى ، والحب في الله والبغض في الله ، وتولّي أولياء الله ، والتبرّي من أعداءه .

ومن الأدلّة النقلية على ذلك ، قول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( أوثق عرى الإيمان : الولاية في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله ) (10)  .

وقد وجّه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه ـ يوماً ـ سؤالاً استفهاميّاً : ( أيّ عرى الإيمان أوثق ؟

فقالوا : الله ورسوله أعلم ، وقال بعضهم : الصلاة ، وقال بعضهم : الزكاة .. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : لكلِّ ما قلتم فضل وليس به ، ولكن أوثق عرى الإيمان : الحبُّ في الله ، والبغض في الله ، وتولّي أولياء الله ، والتبرّي من أعداء الله ) (11) .

وأهل بيت العصمة عليهم السلام من العرى الوثيقة التي تعصم مَن تمسّك بها عن السقوط في مهاوي الضلال ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام كثيراً ما كان يردّد هذه الكلمات : ( ... أنا حبل الله المتين ، وأنا عروة الله الوثقى ، وكلمة التقوى ... ) (12) .

لم يكن ذلك منه للتفاخر ، بل لإلفات النظر إلى أنّ أهل البيت عليهم السلام هم العروة الوثقى التي لا انفصام لها ، عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( مَن أحبَّ أنْ يتمسّك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسّك بولاية أخي وحبيبي علي بن أبي طالب ، فإنّه لا يهلك مَن أحبّه وتولاّه ، ولا ينجو مَن أبغضه وعاداه ) (13) .

  علامات المؤمن :

العلامات الأساسية التي يتميّز بها المؤمن عن غيره أربعة ، وهي :

* أوّلاً : علائم عبادية :

العبادة هي التجسيد الحقيقي للإيمان ، وتحتل مركز الصدارة في الكشف عن حقيقة إيمان الإنسان ، فمَن آمن بالله تعالى حقاً عليه أنْ يتقرّب إليه بطقوس عبادية تكشف عن عبوديته ، وتعبّر عن شكره وحمده لخالقه ، وخير كاشف عن مصداقية الإيمان هو أداء الإنسان لِما افترضه الله عليه من صلاة وصيام وحج البيت الحرام وما إلى ذلك من فرائض عبادية .

يقول أمير المؤمنين عليه السلام : ( ... لا عبادة كأداء الفرائض ) (14) .

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( نزل جبرئيل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا محمّد .. ما تَقرَّبَ إليَّ عبدي المؤمن بمثل أداء الفرائض ، وإنّه ليتنفّل لي حتّى أحبّه ، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يُبصر به ، ويده التي يبطش بها  .. ) (15)  .

وهناك علاقة طردية بين الإيمان والعبادة ، كلّما أزداد إيمان العبد كلّما أقبل على العبادة أكثر فأكثر ، وظهرت عليه علائم التفاعل معها والانفعال بها ، كما هو حال أهل البيت عليهم السلام الذين ضربوا بعبادتهم أروع الأمثلة ، فكانوا عليهم السلام إذا حضرت الصلاة تقشعرّ جلودهم وتصفرّ ألوانهم ويرتعدون من خوف الله ، فعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر ، ورد عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( كان أبي عليه السلام يقول : كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنّه ساق شجرة لا يتحرّك إلاّ ما حرّكه الريح منه ) (16) .

إنَّ العبادة الصادقة تصنع الأعاجيب وتمنح المؤمن الكرامة وتزوّده بالبصيرة الصافية ، قد تجعله يسبر أغوار نفس غيره فيطّلع على ما يدور فيها ، تمعّن في الحكاية التالية التي تكشف عن بعض كرامات الإمام موسى الكاظم عليه السلام كما رَوَتْهَا مصادر العامّة :

 ( عن شقيق البلخي قال : خرجتُ حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومئة ، فنزلت القادسية ، فبينما أنا أنظر إلى الناس وزينتهم وكثرتهم ، نظرت فتى حسن الوجه فوق ثيابه ثوب صوف مشتملاً بشملة وفي رجليه نعلان ، وقد جلس منفرداً ، فقلتُ في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أنْ يكون كلاًّ على الناس في طريقهم ، والله لأمضينّ إليه ولأُوبّخنّه ، فدنوتُ منه ، فلمّا رآني مقبلاً قال : ( يا شقيق ، ( اجتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظنِّ إنَّ بعضَ الظنِّ إثمٌ ) (17) ) وتركني ومضى ، فقلتُ في نفسي : إنَّ هذا لأمر عظيم قد تكلّم على ما في نفسي ونطق باسمي ، ما هذا إلاّ عبد صالح ، لألحقنّه ولأسألنّه أنْ يحلّلني ، فأسرعتُ في أثره فلم ألحقه ، وغاب عن عيني ، فلمّا نزلنا واقصة إذا به يصلّي وأعضاءه تضطرب ، ودموعه تجري ، فقلتُ : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلّه ، فصبرت حتى جلس وأقبلتُ نحوه ، فلمّا رآني مقبلاً قال : ( يا شقيق اقرأ ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) ) (18) ، ثمّ تركني ومضى ، فقلتُ : إنَّ هذا الفتى لَمِن الأبدال ، قد تكلّم على سرّي مرّتين ، فلمّا نزلنا إلى منى إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يريد أنْ يستقي ، فسقطتْ الركوة مِن يده إلى البئر وأنا أنظر إليه ، فرأيتُه قد رمق السماء وسمعتُه يقول :

( أنت ربّي إذا ظمئتُ من الماء      وقوّتي إذا أردتُ الطعاما

اللّهمَّ أنت تعلم يا إلهي وسيّدي ما لي سواها ، فلا تعدمني إياها ) .

 قال شقيق .. : فو الله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤه ، فمدّ يده وأخذ الركوة وملأها ماءً وتوضّأ وصلّى أربع ركعات ، ثمّ مال إلى كثيب من رمل ، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحرّكه ويشرب ، فأقبلتُ إليه وسلّمتُ عليه ، فردَّ عليَّ السلام ، فقلتُ أطعمني من فضل الله ما أنعم الله تعالى به عليك ، فقال : ( يا شقيق لم تزل نعمة الله تعالى علينا ظاهرة وباطنة ، فأحسِن ظنّك بربّك ) ، ثمّ ناولني الركوة فشربت منها ، فإذا سويق وسكّر ، فو الله ما شربت قط ألذَّ منه ولا أطيب منه ريحاً ، فشبعتُ ورويتُ وأقمتُ أيّاماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً ، ثمّ لم أره حتى دخلنا مكّة فرأيتُه ليلة في جنب قبّة الشراب في نصف الليل يصلّي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلمّا رأى الفجر جلس في مصلاّه يسبّح ثمّ قام فصلّى ، فلمّا سلّم من صلاة الصبح طاف بالبيت أسبوعاً وخرج فتبعتُه ، فإذا له حاشية وأموال ، وهو على خلاف ما رأيتُه في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه ، فقلتُ لبعض مَن رأيته بالقرب منه : مَن هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين .. رضوان الله عليهم أجمعين ، فقلتُ : قد عجبت أنْ تكون هذه العجائب والشواهد إلاّ لمثل هذا السيّد ) (19) .

يبقى أنْ نشير إلى أنّ العبادة لا ينحصر مصداقها في الصلاة والصيام وما إلى ذلك من الفرائض العبادية ، بل توجد لها مصاديق أعلى ، تكشف لنا عن علائم المؤمن كالفكر والذكر ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ : ( التفكّر في آلاء الله نِعْم العبادة ) (20) ، وعنه أيضاً أنّ : ( التفكّر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين ) (21) .

فالإنسان إذا كان شغله الشاغل التفكّر في خلْق الله وآلائه ، فمن الطبيعي ـ والحال هذه ـ أنْ يترجم هذا الفكر إلى ذكر يفيض بمعاني الحمد والعرفان ، وهذا من أجلى مظاهر الإيمان  .

يقول علماء النفس : قل لنا فيم تفكّر ، نَقُل لك مَن أنت  .

ففكر الإنسان الذي يتجسّد في أقواله وينعكس على أعماله يكشف عن شخصيته ومتبنّياته العقيديّة  .

والإسلام يَعتبر التفكّر في أمر الله مؤشّراً عظيماً على الإيمان ، يقول الإمام الصادق عليه السلام : ( ليست العبادة كثرة الصلاة والصوم ، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزَّ وجلَّ ) (22) .

وقد : ( سئلت أمّ أبي ذرّ عن عبادة أبي ذر ، فقالتْ : كان نهاره أجمع يتفكّر في ناحية عن الناس ) (23) .

* ثانياً : علائم نفسية :

يتميز المؤمن عن غيره بعدّة علائم نفسية ، يمكن الإشارة إلى أبرزها بالنقاط التالية :

1 ـ الصلابة والثبات :

فالمؤمن يكون ثابتاً كالطَود الشامخ لم تزعزعه الحوادث ويستسهل كلّ صعب بقلب مطمئن بقضاء الله وقدره ، ويتمسك بعروة الصبر في مواطن الخطر ، وَقُور لا يخرج عن طوره ، شاكراً لربّه قانعاً برزقه ، يُؤْثر راحة الآخرين على راحته كالشجرة العظيمة في الصحراء المحرقة تُظلّل الناس بوارف ظِلّها ، وهي تصطلي حرَّ الهاجرة وأوارها  .

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : ( ينبغي للمؤمن أنْ يكون فيه ثمان خصال : وقورٌ عند الهزائز ، صبور عند البلاء ، شكور عند الرخاء ، قانع بما رزقه الله ، لا يظلم الأعداء ، ولا يتحامل للأصدقاء ، بدنه منه في تعب ، والناس منه في راحة ) (24) .

ولا بدَّ من إلفات النظر إلى أنّ المؤمن وعلى الرغم من صلابته الإيمانية فهو يتّصف بالمرونة مثل العشب الناعم ينحني أمام النسيم ولكن لا ينكسر للعاصفة ، يقول الإمام الصادق عليه السلام : ( المؤمن له قوّة في دين ، وحزم في لين ، وإيمان في يقين ) (25) .

2 ـ التزام الحق عند الرّضا والغضب :

المؤمن لا يندفع بغريزته إلى آفاق تبعده عن ساحة الحق ، كما أنّه يقاوم بلا هوادة نزعة الغضب الكامنة في نفسه حتى لا تجرّه إلى مهاوي الباطل ، وفي حالة امتلاكه القوة أو القدرة يتجنّب الظلم والعدوان كأمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يرى أنّ سَلْب جُلب شعيرة من نملة لو كان ظلم وعصيان لله وابتعاد عن الحق ما فعلته ، وفي ذلك يقول : ( والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أنْ أعصي الله في نملة أسلبها جُلب شعيرة ما فعلته .. ) (26) .

وعليه فالمؤمن مَن يبلغ مرحلة من السموّ الروحي والتهذيب الوجداني بحيث لا يخرج عن جادّة الحق المستقيمة ، وفي هذا الإطار ورد عن أبي حمزة قال : سمعت فاطمة بنت الحسين عليه السلام تقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( ثلاث مَن كنَّ فيه استكمل خصال الإيمان ، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحقِّ ، وإذا قدر لم يتعاطَ ما ليس له ) (27) .

إنّ القوة الحقيقية هي القوة النفسية التي يصنعها الإيمان ويرسّخها اليقين ، تلك القوة التي يتميّز بها المؤمن والتي يتمكّن من خلالها من كبح عواطفه المتأجّجة عند نشوة الحب وسورة الغضب وسكرة القوة التي تُغري صاحبها بالجموح والغطرسة ، فعن الإمام الصادق عليه السلام ، عن أبيه عن جدّه عليه السلام قال : ( مرَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوم يرفعون حجراً ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : نعرف بذلك أشدّنا وأقوانا ، فقال : أَلاَ أُخبركم بأشدّكم وأقواكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : أشدّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق ، وإذا قدر لم يتعاطَ ما ليس له بحق ) (28) .

3 ـ البِشْر وانشراح الصدر :

من العلائم الأخرى للمؤمن أنّ البِشْر يطفح على وجهه ، أمّا حزنه فيدفنه في أعماق قلبه ، كما إنّه يمتاز بسعة الصدر وانشراحه ، قال أمير المؤمنين عليه السلام محدداً أبرز علامات المؤمن : ( المؤمن بِشْره في وجهه وحزنه في قلبه ، أوسع شيء صدراً ، وأذل شيء نفساً ، يكره الرفعة ، ويشنأ السمعة ، طويل غَمّه ، بعيدٌ همّهُ ، كثيرٌ صَمْته ، مشغول وقتُه  . شكورٌ صبور ، مغمور بفكرته ، ضنين بخلَّته ، سهلُ الخليقة ، ليِّن العريكة ! نفسه أصلب من الصلد وهو أذل من العبد ) (29) .

 وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( ما من مؤمن إلاّ وفيه دُعابة ، قلتُ : ما الدعابة ؟ قال : المزاح ) (30)  . فالمؤمن تتألق ملامحه بالبِشر والنور ، وتفيض عيناه بالوداعة واللطف ، فيعبّر عمّا يجيش في نفسه من أحاسيس خيّرة تجاه الناس عن طريق المزاح ، محاوِلاً إدخال السرور على قلوبهم ، على العكس من المنافق الذي يغلي قلبه غيضاً وحقداً كالمِرْجَل على المؤمنين ، فينعكس ما في داخله على صفحات وجهه فتجده مقطب الجبين ، تنتابه نوبات من الهستريا والغضب  .

وقد ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : ( المؤمن دعبٌ لعبٌ ، والمنافق قطب غضب ) (31) .

والملاحظ أنّه في الوقت الذي يُعتبر ( المزاح ) أحد علائم المؤمن النفسية ، نجد أنّ الإسلام يحثّ على عدم الإسراف فيه بحيث يصل إلى حدّ السخف والسفاهة أو تجافي الحق . وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يمازح أصحابه وأهل بيته عليهم السلام ويحب إدخال السرور على الجميع ، ولكن لا يقول إلاّ حقاً ، ولا يخرج عن طوره ، ولا يخل بوقاره وهيبته  .

عن الإمام الصادق عليه السلام : ( إنَّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : كثرة المزاح يُذهب بماء الوجه ، وكثرة الضحك يمحو الإيمان .. ) (32) .

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( كان بالمدينة رجل بطّال يضحك الناس منه ، فقال : قد أعياني هذا الرجل أنْ أضحكه يعني علي بن الحسين عليهما السلام قال : فمرَّ علي عليه السلام وخلفه موليان له فجاء الرجل حتى انتزع ردائه من رقبته ثمّ مضى لم يلتفت إليه علي عليه السلام فاتبعوه وأخذوا الرداء منه فجاءوا به فطرحوه عليه ، فقال لهم مَن هذا ، فقالوا له هذا رجل بطّال يُضحك أهل المدينة ، فقال عليه السلام : قولوا له إنَّ لله يوماً يخسر فيه المبطلون ) (33) .

4 ـ قوة الإرادة :

وهي من علامات المؤمن الرئيسية التي يتمكّن من خلالها من كبح شهواته والسيطرة على غرائزه ، فالإنسان بلا إرادة كالسفينة بلا بوصلة سرعان ما تنحرف عن المسير ، فالإرادة هي الخيط المتين الذي يكبح جموح النفس ويمكّنها من السيطرة على رغباتها  ، فمن يفتقد الإرادة ـ إذن ـ يكون حاله كقارب تمزّقت حبال مرساته في بحر هائج مائج !

وهنا يبدو من الضروري بمكان الإشارة الإجمالية إلى علائم نفسية أُخرى تُميّز المؤمن عن غيره قد تنكشف لنا من خلال نظرته الواعية لمَن حوله وما حوله ، كما قد تظهر أيضاً في طبيعة صمته وذكره أو سرعة رضاه وعفوه عمّن أساء إليه ، كما قد ننتهي إليها من نيّته وما يضمره من الخير للغير ، ويجمع هذه الأمور ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : ( إنَّ المؤمن إذا نظر اعتبر ، وإذا سكت تذكّر ، وإذا تكلّم ذكر ، وإذا استغنى شكر ، وإذا أصابته شدّة صبر ، فهو ربيب الرضا بعيد السخط ، يرضيه عن الله اليسير ، ولا يسخطه الكثير ولا يبلغ بنيّته إرادته في الخير ، ينوي كثيراً في الخير ويعمل بطائفةٍ منه ويتلهّف على ما فاته من الخير كيف لم يعمل به ) (34) .

5 ـ الاستغلال الأمثل للزمن :

للزمن ـ كما هو معروف ـ قيمة حضارية كبرى ، لذلك نجد المؤمن حريصاً على الزمن الذي هو رأس مال حضاري كبير ، فيقسّم أوقاته بين العبادة الحقّة والعمل المثمر واللذَّة المباحة ؛ لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : ( للمؤمن ثلاثُ ساعات : فساعة يُناجي فيها ربَّهُ ، وساعة يَرُمُّ معاشه ، وساعة يُخلِّي بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلُ ويجمُلُ  . وليس للعاقل أنْ يكون شاخصاً إلاّ في ثلاث : مرَمَّةٍ لمعاش ، أو خطوةٍ في معادٍ ، أو لذَّةٍ في غير مُحرَّمٍ ) (35) .

إذن فأحد علامات المؤمن الحضارية هي الحرص على الزمن والاستغلال الأمثل له  .

* ثالثاً : علائم أخلاقية :

لا يخفى أنّ هناك علاقة وطيدة بين الإيمان والأخلاق ، كلّما سما المؤمن في إيمانه كلّما حسنت أخلاقه ، وعليه فالمؤمن المتسلّح بإيمان عميق نجد أنّه يتّصف بخلق رفيع  . والأخلاق ـ بدورها ـ هي السور الواقي الذي يصون المؤمن من التردّي في مهاوي الضلال والرذيلة  . وممّا يكشف لنا عن عمق نظرة الإمام الصادق عليه السلام أنّه يحثّ أصحابه على عدم الانخداع بالمظاهر العبادية للرجل التي قد لا تكلّفه شيئاً وقد تنجم عن الأَلفة والعادة ، ولكن يجب النظر إلى مظاهره الأخلاقية : كالصدق ، والأمانة ، فمن خلال التزامه الدائم بها يظهر إيمانه على حقيقته ، يقول عليه السلام : ( لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإنَّ ذلك شيء قد اعتاده فلو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته ) (36) .

وقال عليه السلام أيضاً : ( المؤمن لا يُخلق على الكذب ولا على الخيانة ) (37) .

ويذهب أهل البيت عليهم السلام في تعاليمهم الأخلاقية إلى أقصى حد ، فعن أبي حمزة الثمالي قال : سمعتُ سيد الساجدين علي بن الحسين عليهما السلام يقول لشيعته : ( عليكم بأداء الأمانة ، فو الذي بعث محمّداً بالحق نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيتُه إليه ) (38) .

ونسج حفيده الإمام الصادق عليه السلام على هذا المنوال ، فقال لأصحابه : ( اتقوا الله وعليكم بأداء الأمانة إلى مَن أئتمنكم ، فلو أنّ قاتل أمير المؤمنين عليه السلام ائتمنني على أمانة لأدّيتُها إليه ) (39) .

وهناك خصلة أخلاقية تميّز المؤمن عن غيره هي خصلة الحياء ، والواقع أنّ الحياء والإيمان صفتان متلازمتان يؤدّي زوال أحديهما إلى زوال الأخرى ، وهذا هو ما عبّر عنه الإمام الباقر عليه السلام بقوله : ( الحياء والإيمان مقرونان في قرن ، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه ) (40) .

وهناك خصال أخلاقية أُخرى كالفهم والرأفة تشكّل مع الحياء أبرز علائم المؤمن ، قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : ( ... وأمّا علامة المؤمن فإنَّه يرأف ويفهم ويستحي ) (41) .

أضف إلى ذلك ليس من أخلاق المؤمن أنْ يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، عن أبي عبد الله عليه السلام : ( إنَّ المؤمن يغبط ولا يحسد والمنافق يحسد ولا يغبط ) (42) ؛ لأنَّ المؤمن يعلم جيداً أنّ الرزق بيد الله تعالى يقسّمه وِفق علمه وحكمته ، وما صُرف عنه قد يكون رحمةً به لا نقمة عليه .

كما أنّ من أبرز علائم المؤمنين أنّهم لا يسيئون إلى الآخرين حتى يعتذروا منهم ، على عكس المنافقين الذين ديدنهم الإساءة ثمّ الاعتذار ، قال الإمام الحسين عليه السلام : ( إيّاك وما تعتذر منه ، فإنَّ المؤمن لا يسيء ولا يعتذر ، والمنافق كلَّ يوم يُسيء ويعتذر ) (43) .

* رابعاً : علائم اجتماعيّة :

من الأمور الهامّة التي تكشف عن مدى إيمان الفرد شعورُه نحو أبناء جنسه وعلاقته معهم ، فالمؤمن الواقعي لا يدفن رأسه في رمال اللامبالاة ، بل يتحسّس معاناة الناس ويمدّ يد العون لهم ، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : ( المؤمن حسن المعونة خفيف المؤونة .. ) (44) .

وكان أئمّة أهل البيت عليهم السلام نموذجاً فريداً للإيمان الكامل يقدّمون العون للفقراء والمعوزين ـ كما أشرنا سابقاً ـ ويحرصون على عدم الكشف عن شخصيّاتهم ، توخّياً للثواب الجزيل على صَدَقَة السِرّ ، وبُعداً عن الرياء ، فكانوا في إعانة الملهوف كالبنفسج المختبئ بين لفائف الأدغال ينشق الناس طيبه ويحمدون عرفه وإن لم يعرفوا مكانه . وفي الخصال بسنده عن الباقر عليه السلام : ( كان علي بن الحسين عليهما السلام يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجِراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم ، وربّما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتى يأتي باباً باباً فيقرعه ثمّ يناول مَن يخرج إليه ، وكان يغطّي وجهه إذا ناول فقيراً ؛ لئلاّ يعرفه ، فلمّا توفّى فقدوا ذلك فعلموا أنّه كان علي بن الحسين ، ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرّض له سائل فتعلّق بالمطرف فمضى وتركه ) (45) .

من جانب آخر أنّ المؤمن ألف مألوف ، يتحبّب إلى الناس ، ويسعى لكسب رضاهم ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : ( المؤمن مألوف ولا خير فيمن لا يَألف ولا يُؤلف ) (46) . فالمؤمن لا يعيش منعزلاً خلف الأسوار العالية والأبراج العاجية ، بل يتفاعل مع الناس ويحرص على مداراتهم والترفّق بهم ، وقد اعتبر الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم أنّ : ( مداراة الناس نصف الإيمان ، والرفق بهم نصف العيش ) (47) .

وهناك قرينة اجتماعية قويّة تفرز لنا الإيمان الحقيقي من المزيف وهي علاقة المؤمن بجيرانه ، فمن أحسن إليهم كشف لسان حاله عن عمق إيمانه . وقد صاغ الإمام الصادق عليه السلام قاعدة تلازميّة لا تقبل الخطأ بين الإيمان والإحسان إلى الجيران ، عن أبي حمزة قال : سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول : ( المؤمن من آمن جاره بوائقه ، قلتُ : ما بوائقه ؟ قال : ظلمه وغشمه ) (48) .

وفي كتب السيرة : ( أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : أتاه رجل من الأنصار فقال : إنّي اشتريت داراً من بني فلان ، وإنَّ أقرب جيراني منّي جواراً مَن لا أرجو خيره ولا آمن شرّه ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً وسلمان وأبا ذر .. أنْ ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنّه : ( لا إيمان لمَن لم يأمن جاره بوائقه )  . فنادوا بها ثلاثاً (49) .

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضاً : ( ما آمن بي مَن بات شبعان وجاره جائع .. ) (50) .

فحسن الجوار ـ إذن ـ من أبرز العلائم الاجتماعية للمؤمن  .

____________

* اقتباس شبكة الإمامين الحسنين ( ع) من كتاب : الإيمان وعلامات المؤمن : مركز الرسالة : ص33 ـ ص76 .

(1) أصول الكافي : 2 : 419 / 5 كتاب الإيمان والكفر .

(2) أصول الكافي : 2 : 73 / 4 كتاب الإيمان والكفر .

(3) تفسير العيّاشي : 1 : 371 .

(4) سورة الأنعام : 6 : 98 .

(5) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 279 / خطبة 189 .

(6) أخلاق أهل البيت عليهم السلام ، للسيد مهدي الصدر : 100 .

(7) تحف العقول : 174  .

(8) أصول الكافي : 2 : 47 / 2 كتاب الإيمان والكفر .

(9) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 18 : 142 .

(10) كنز العمال : 15 : 890 / 43525 .

(11) الاختصاص ، للشيخ المفيد : 365 .

(12) التوحيد ، للشيخ الصدوق : 165 باب معنى جنب الله .

(13) معاني الأخبار : 368 ـ 369 باب معنى العروة الوثقى .

(14) نهج البلاغة : صبحي الصالح : 488 / حكم 113 .

(15) المؤمن ، للشيخ الثقة الحسين بن سعيد الكوفي : 32 / 61 .

(16) فروع الكافي : 3 : 300 .

(17) سورة الحجرات 49 : 12 .

(18) سورة طه 20 : 82 .

(19) روض الرياحين في حكايات الصالحين ، عفيف الدين أبي السعادات عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني : 122 / الحكاية 74 مؤسسة عماد الدين ، قبرص .

(20) غرر الحكم .

(21) المصدر السابق .

(22) أصول الكافي : 2 : 55 / 4 باب الإيمان والكفر .

(23) تنبيه الخواطر : 1 : 250 : باب التفكر .

(24) أصول الكافي : 2 : 47 / 1 كتاب الإيمان والكفر .

(25) أصول الكافي 2 : 231 / 4 كتاب الإيمان والكفر .

(26) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 347 ، خطبة 224 .

(27) الاختصاص : 233 .

(28) معاني الأخبار : 366 .

(29) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 533 / حكم 333 .

(30) معاني الأخبار : 164 .

(31) تحف العقول : 49 .

(32) أمالي الصدوق : 223 / 4 .

(33) المصدر السابق : 183 / 6 .

(34) تحف العقول : 212 .

(35) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 545 / حكم 390 .

(36) أصول الكافي 2 : 105 / 12 كتاب الإيمان والكفر .

(37) تحف العقول : 367 .

(38) أمالي الصدوق : 204 .

(39) المصدر السابق نفسه .

(40) تحف العقول : 297 .

(41) المصدر السابق : 20 .

(42) أصول الكافي : 2 : 307 / 7 كتاب الإيمان والكفر .

(43) تحف العقول : 248 .

(44) أصول الكافي 2 : 241 / 38 كتاب الإيمان والكفر .

(45) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، للسيد محسن الأمين 3 : 194 .

(46) أصول الكافي : 2 : 102 / 17 كتاب الإيمان والكفر .

(47) المصدر السابق : 2 : 117 / 5 .

(48) وسائل الشيعة : 8 : 488 كتاب الحج .  

(49) المصدر السابق 8 : 487 .

(50) أصول الكافي : 2 : 668 / 14 كتاب العشرة .