النقد..
يعني تقييم ومراجعة سلوك أو حدث ما لغرض التعديل والتوجيه، والأمم المتحضرة هي التي تتبع النقد كنهج أساسي في تفكيرها لتتطور وتنمو وتبدع، وعندما يبدأ النقد من الذات فإن الإنسان يكن أكثر مرونة في تقبل نقد الآخر، وشعوبنا العربية عاشت تحت ضغط أنظمة سياسية قمعية تفرض عليها نمطاً فكرياً خاضعاً فهضمت الغث والسمين دون فلترة وتقييم، وقد عززت هذا الأمر حتى في مناهج التعليم القائمة على الحفظ والتلقين، ومن هنا كانت المخرجات (محدودة الفكر، ضعيفة الأفق، انهزامية، مغلقة، متطرفة) تلغي من لا يتماهى معها في المبادئ والقيم، وأصبح النقد في مجتمعاتنا قائماً على المحاباة والتزلف أو التحطيم والهدم لأننا لا نمتلك معايير علمية وموضوعية للنقد إنما تتحكم بنا المزاجية والأهواء في عملية النقد والتحكيم، ناهيك عن غياب منهجية النقد الذاتي التي ترشح العقل وتطهر النفس وتصفي الذهن لينفتح الإنسان بقلبه على أخيه الآخر مهما كان لونه ودينه ومذهبه بل ويتكيف مع التعددية بكل أشكالها لأنها سمة من سمات التعايش الحضاري الإنساني. فحينما نقرأ ذاتنا بوعي ونفهم أننا (خطاءون، قاصرون) ننتبه إلى مواطن الضعف والخلل فينا ونلتقط بصورة أوضح تغثرات النقص التي تتبدد منها قوانا، طاقتنا، مزايانا، ونكتشف فجأة أننا وقفنا على أولى محطات البناء والتغيير، ونكون بذلك حققنا أعلى درجة من درجات المعرفة بالذات والتي تقودنا إلى معرفة الآخرين واستبصار الواقع بكشّاف جديد ينبت في الداخل تدريجياً كلما توغلنا في الأعماق أكثر، فحينما تعرف على سبيل المثال أنك إنسان عصبي وتحدث نفسك أنها رذيلة مدمرة لنفسك وللآخرين وتشخص ملياً أسباب العصبية ودوافعها وبواعثها وتعالجها وتؤدبها فإن سلوكك سيتحسن وستتقبل آراء الناس برحابة صدر وستهضم نقد الآخر بحسن نية وستأتلف مع من حولك في محبة وإن خالفوك. فالمشكلة التي يعاني منها أغلب الناس خصوصاً في منطقتنا العربية (الأنا) المتضخمة التي توهم الإنسان أنه كامل الأوصاف وأحكم وأعلم وأفضل من غيره، وأن رأيه فوق الجميع لأنه متبحر في العلم أو لأنه من النخب المتميزة، فحينما تنتقد رأيه كأنما تطعن رجولته أو تسفه علمه، فهو يغضب ويثور حتى يثأر لكرامته! وبالمثل حينما يخوض حواراً فإن أسلوبه الهجومي يفضح ضحالة ذاته وسطحية تفكيره وربما يود افتراسك ونهش لحمك إذا أشعرته بالهزيمة، والعلة تكمن في ذاته المتورمة تراكمياً والتي لم يهذبها ويصقلها ناقداً وموجهاً حتى يقع على مواطن الخلل فيه، فقد تلقن منذ طفولته على نمط تفكير قائم على القمع والحفظ والخضوع، فإن عبر عن رأيه في البيت أخرسه أباه أو اعترض على معلمه في المدرسة عاقبه فتراه قد كبروحصد أعلى الشهادات والمراتب وحسب ضمن دائرة المثقفين في المجتمع لكنه في الجوهر قاصر التفكير يكشف سلوكه العدائي عن خواء وفراغ كبيرين . شاهدوا برامج الفضائيات الحوارية سواء في مجال السياسة أو الثقافة وستتأكدون تماماً أن من نطلق عليهم مثقفون ليسوا سوى قهرمانات مصارعة! فلو فتحت باب النقد على ذاتك وغصت في عالمك الأرحب لاكتشفت أن أصابع النقد المصوبة نحوك جديرة بالمراجعة والتمحيص، فحينما تحطم الصنم المصلوب داخلك سنين طويلة فإنك تفتح نافذة الحب على من حولك وأفضل النقد ما كان مكتوباً على الورق، فلو كتبت قائمة طويلة من عيوبك وحسناتك في ورقة ستأخذ الأمر بجدية وحرص، وقد أوصانا رسول الله (ص) في أحاديث كثيرة تحت عنوان المحاسبة: (حاسبوا أنفسك قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا). (المؤمن مرآة لأخيه المؤمن).. فاحضر الآن ورقة وقلماً لتنطلق من ذاتك ماذا تنتظر؟!