المنهج التربوي العام في العلاقات الأسرية
صلاح الدين إبراهيم
مجلة نور الاسلام العددان : 69-70
إنّ العلاقات الأسرية القائمة بين أفراد الأسرة، والمنسجمة مع المنهج التربوي السليم، لها دور كبير في توثيق بناء الأسرة، وتقوية التماسك بين أعضائها، ولها تأثيراتها على نمو الطفل وتربيته، وإيصاله إلى مرحلة التكامل والاستقلال. إنّ الأجواء الفكرية والنفسية والعاطفية التي تؤمنها الأسرة للطفل، تمنحه القدرة على التكيّف الجدي مع نفسه ومع أسرته ومع المجتمع. ومن هذا المنطلق فإن الأسرة بحاجة إلى منهج تربوي ينظم مسيرتها، فيوزع الأدوار والواجبات، ويحدّد الاختصاصات للمحافظة على تماسكها المؤثر في انطلاقة الطفل التربوية. وتتحدّد معالم المنهج التربوي بما يلي:
أولاً: الاتفاق على منهج مشترك
إنّ للمنهج المتّبع فى الحياة تأثيراً على السلوك، فهو الذي يجعل الإيمان والشعور الباطني به حركة سلوكية في الواقع، ويحوّل هذه الحركة إلى عادة ثابتة. إنّ وحدة المنهج تؤدّي إلى وحدة السلوك، فالمنهج الواحد هو المعيار والميزان الذي يوزن به السلوك من حيث الابتعاد أو الاقتراب من التعاليم والبرامج الموضوعة؛ فيجب على الوالدين الاتفاق على منهج واحد مشترك يحدّد لهما العلاقات والأدوار والواجبات في مختلف الجوانب. والمنهج الإسلامي بقواعده الثابتة من أفضل المناهج التي يجب تبنّيها في الأسرة المسلمة، فهو منهج ربّاني موضوع من قِبَل الله تعالى، المهيمن على الحياة بأسرها، لا لبس فيه ولا غموض ولا تعقيد ولا تكليف بما لا يُطاق، وهو موضع قبول من الإنسان المسلم والأسرة المسلمة، فجميع التوجيهات والقواعد السلوكية تستمد قوتها وفاعليتها من الله تعالى. وهذه الخاصية تدفع الأسرة إلى الاقتناع باتّباع هذا المنهج، وتقرير مبادئه في داخلها؛ فلا مجال للنقاش في خطته أو محدوديته أو عدم القدرة على تنفيذه؛ فهو الكفيل بتحقيق السعادة الأسرية التي تساعد على تربية الطفل تربية صالحة وسليمة. وإذا حدث خلل في العلاقات أو تقصير في أداء بعض الأدوار، فإنّ تعاليم المنهج الإسلامي تتدخل لإنهائه وتجاوزه.
ثانياً: علاقات المودّة:
من واجبات الوالدين إشاعة الود والاستقرار والطمأنينة داخل الأسرة، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً...)(1).
فالعلاقة بين الزوج والزوجة أو الوالدين هي علاقة مودة ورحمة، وهذه العلاقة تكون سكناً للنفس وهدوءاً للأعصاب وطمأنينة للروح وراحة للجسد، وهي رابطة تؤدّي إلى تماسك الأسرة وتقوية بنائها واستمرار كيانها الموحّد، والمودّة والرحمة تؤدّي إلى الاحترام المتبادل والتعاون الواقعي في حلّ جميع المشاكل وإزالة العوائق الطارئة على الأسرة، وهي ضرورية للتوازن الانفعالي عند الطفل، يقول الدكتور سبوك: (اطمئنان الطفل الشخصي والأساسي يحتاج دائماً إلى تماسك العلاقة بين الوالدين، ويحتاج إلى انسجام الاثنين في مواجهة مسؤوليات الحياة)(2).
ويجب على الزوجين إدامة المودة في علاقاتهما في جميع المراحل، مرحلة ما قبل الولادة والمراحل اللاحقة لها، والمودة أوجدها الله تعالى، فتكون إدامتها استجابة له تعالى وتقرباً إليه، وقد أوصى الإمام علي بن الحسين عليه السلام بها فقال: ((وأما حقّ رعيتك بملك النكاح، فإن تعلم أن الله جعلها سكناً ومستراحاً وأنساً وواقية، وكذلك كل واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه، ويعلم أن ذلك منة عليه، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها، وإن كان حقك عليها أغلظ وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت ما لم تكن معصية، فإن لها حق الرحمة والمؤانسة وموضع السكون إليها قضاء اللذة التي لابدّ من قضائها وذلك عظيم..))(3).
وقد ركّز أهل البيت عليهم السلام على إدامة علاقات الحبّ والمودّة داخل الأسرة، وجاءت توصياتهم موجهة إلى الرجل والمرأة على السواء.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ((خيركم خيركم لنسائه وأنا خيركم لنسائي))(4).
وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: ((رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته))(5).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ((من اتّخذ زوجة فليكرمها))(6).
فأقوال أهل البيت عليهم السلام وتوصياتهم في الإحسان إلى المرأة وتكريمها عامل مساعد من عوامل إدامة المودة والرحمة والحبّ.
وقد أوصى أهل البيت عليهم السلام المرأة بما يؤدّي إلى إدامة المودّة والرحمة والحبّ إن التزمت بها، ومنها طاعة الزوج، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها وأحصنت فرجها وأطاعت بعلها فلتدخل من أي أبواب الجنّة شاءت))(7).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((ما استفاد امرؤ فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة، تسرّه إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله))(8).
وشجّع رسول الله الزوجة على اتباع الأسلوب الحسن في إدامة المودّة والرحمة، بالتأثير على قلب الزوج وإثارة عواطفه. جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: إن لي زوجة إذا دخلت تلقّتني، وإذا خرجت شيّعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمّك، إن كنت تهتمّ لرزقك فقد تكفّل به غيرك، وإن كنت تهتمّ بأمر آخرتك فزادك الله همّاً. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((بشّرها بالجنة وقل لها: إنكِ عاملة من عمّال الله ولكِ في كل يوم أجر سبعين شهيداً، وفي رواية أن لله عزّ وجلّ عمالاً وهذه من عمّاله، لها نصف أجر الشهيد))(9).
وقال الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام: ((جهاد المرأة حسن التبعّل))(10).
ومن العوامل المساعدة على إدامة المودة والحب وكسب ودّ الزوج، هي الانفتاح على الزوج واستجابتها إلى ما يريد، قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: ((خير نسائكم التي إذا خلت مع زوجها خلعت له درع الحياء، وإذا لبست لبست معه درع الحياء))(11).
فهي منفتحة على زوجها مع تقدير مكانته، وبعبارة أخرى التوازن بين الاحترام وعدم التكلّف.
وحدّد الإمام علي بن الحسين عليه السلام العوامل التي تعمّق المودّة والرحمة والحب داخل الأسرة، فقال: ((لا غنى بالزوج عن ثلاثة أشياء فيما بينه وبين زوجته، وهى الموافقة ليجتلب بها موافقتها ومحبّتها وهواها، وحسن خلقه معها، واستعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها وتوسعته عليها. ولا غنى بالزوجة فيما بينها وين زوجها الموافق لها عن ثلاث خصال، وهي صيانة نفسها عن كل دنس حتى يطمئن قلبه إلى الثقة بها في حال المحبوب والمكروه، وحياطته ليكون ذلك عاطفاً عليها عند زلة تكون منها، وإظهار العشق له بالخلابة والهيئة الحسنة لها في عينيه))(12).
وعلاقات المودّة والرحمة والحبّ ضرورية في جميع مراحل الحياة، وخصوصاً في مرحلة الحمل والرضاعة، لأن الزوجة بحاجة إلى الاطمئنان والاستقرار العاطفي، وإنّ ذلك له تأثير على الجنين وعلى الطفل في مرحلة الرضاع كما سيأتي.
ثالثاً: مراعاة الحقوق والواجبات:
وضع المنهج الإسلامي حقوقاً وواجبات على كل من الزوجين، والمراعاة لها كفيل بإشاعة الاستقرار والطمأنينة في أجواء الأسرة.
ومن أهم حقوق الزوج هو حقّ القيمومة، قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ...)(13).
فالواجب على الزوجة مراعاة هذا الحق، لأن الحياة الأسرية لا تسير بلا قوامة، والقوامة للرجل منسجمة مع طبيعة الفوارق البدنية والعاطفية لكل من الزوجين، وأن تراعي هذه القوامة في تعاملها مع الأطفال، وتشعرهم بمقام والدهم.
وأهم الحقوق بعد حق القيمومة كما جاء في قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((حق الزوج على المرأة أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تصدّق من بيتها شيئاً إلاّ بإذنه، ولا تصوم تطوعاً إلاّ بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب (14)، ولا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه...))(15).
ومن حقوق الزوج، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((حق الرجل على المرأة إنارة السراج، وإصلاح الطعام، وأن تستقبله عند باب بيتها فترحّب به، وأن تقدّم إليه الطشت والمنديل، وتوضّئه، وأن لا تمنعه نفسها إلاّ من علّة))(16).
ولأهمية مراعاة هذا الحق، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((لا تؤدّي المرأة حقّ الله عزّ وجلّ حتّى تؤدّي حق زوجها))(17).
ووضع المنهج الإسلامي حقوقاً للزوجة يجب على الزوج مراعاتها، قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: ((حق المرأة على زوجها أن يشبع بطنها، ويكسو جسمها، وإن جهلت غفر لها))(18).
وأجاب رسول الله صلّى الله عليه وآله على سؤال خولة بنت الأسود حول حق المرأة فقال: ((حقّكِ عليه أن يطعمكِ ممّا يأكل، ويكسوكِ ممّا يلبس، ولا يلطم ولا يصيح في وجهك))(19).
ومن حقّها مداراة الزوج لها وحسن صحبته لها، قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لمحمد بن الحنفية: ((إنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارها على كل حال، وأحسن الصحبة لها فيصفو عيشك))(20).
ومن حقّ الزوجة وباقي أفراد العائلة هو إشباع حاجاتهم المادية، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله))(21).
وقال صلّى الله عليه وآله: ((ملعون ملعون من يضيع من يعول))(22).
وقال صلّى الله عليه وآله: ((حقّ المرأة على زوجها أن يسدّ جوعتها، وأن يستر عورتها، ولا يقبّح لها وجهاً، فإذا فعل ذلك فقد أدّى والله حقّها))(23).
والالتزام بحقوق الزوج من قبل الزوجة، وبحقوق الزوجة من قبل الزوج ضرورة لإشاعة الاستقرار فى أجواء الأسرة، فيكون التفاعل إيجابياً، ويدفع كلا الزوجين للعمل من أجل سعادة الأسرة، وسعادة الأطفال، واستقرار المرأة في مرحلة الحمل والرضاعة، ومرحلة الطفولة المبكرة، يؤثّر في استقرار الطفل واطمئنانه والانطلاق في الحركة على ضوء ما هو مرسوم له من نصائح وإرشادات وتوجيهات، فينشأ مستقر الشخصية سويّاً في أفكاره وعواطفه وسلوكه.
رابعاً: تجنّب إثارة المشاكل والخلافات:
إنّ المشاكل والخلافات في داخل الأسرة تخلق أجواءً متوترة ومتشنّجة تهدّد استقرارها وتماسكها، وقد تؤدّي في أغلب الأحيان إلى انفصام العلاقة الزوجية، وتقويض الأسرة، وهي عامل قلق لجميع أفراد الأسرة بما فيها الأطفال، حيث تؤدّي الخلافات والأوضاع المتشنّجة بين الوالدين إلى خلل في الثبات والتوازن العاطفي للطفل في جميع المراحل التي يعيشها بدءاً من أشهر الحمل الأولى، والسنين الأولى بعد الولادة، والمراحل اللاحقة بها.
فالشعور بالأمن والاستقرار من أهم العوامل في بناء شخصية الطفل بناءً سويّاً متزناً، وهذا الشعور ينتفي في حالة استمرار الخلافات والعلاقات المتشنجة.
والمنهج الإسلامي مبتنٍ على أُسلوب الحثّ والتشجيع على الوقاية من حدوث الخلافات أو معالجة مقدماتها أو معالجتها بعد الحدوث، وأسلوب الردع والذمّ للممارسات الخلافية، أو التي تؤدّي إلى الخلافات.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((خير الرجال من أُمّتي الذين لا يتطاولون على أهليهم، ويحنّون عليهم، ولا يظلمونهم))(24).
وشجّع الإمام محمّد الباقر عليه السلام على تحمّل الإساءة، لأن ردّ الإساءة بالإساءة يوسّع دائرة الخلافات والتشنّجات، فقال عليه السلام: ((من احتمل من امرأته ولو كلمة واحدة، أعتق الله رقبته من النار وأوجب له الجنّة))(25).
وشجّع رسول الله صلّى الله عليه وآله الرجل على الصبر على سوء أخلاق الزوجة فقال: ((من صبر على سوء خُلُق امرأته أعطاه الله من الأجر ما أعطى أيوب على بلائه))(26).
والصبر على الإساءة من الزوجة أمر غير متعارف عليه لولا أنّه من توجيهات رسول الله صلّى الله عليه وآله، فيكون محبوباً ومرغوباً من قِبَل الزوج المتديّن وليس فيه أي إهانة لكرامته، فيصبر عن رضا وقناعة.
وشجّع الإمام جعفر الصادق عليه السلام على التفاهم لتجنّب الخلافات الحادّة، فقال: ((خير نسائكم التي إن غضبت أو أغضبت قالت لزوجها: يدي في يدك لا أكتحل بغمضٍ حتى ترضى عنّي))(27).
وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام: ((وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته))(28).
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وآله الزوجة عن الممارسات التي تؤدّي إلى حدوث الخلافات فقال: ((من شرّ نسائكم الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم الحقود، التي لا تتورّع عن قبيح، المتبرّجة إذا غاب عنها زوجها، الحصان معه إذا حضر، التي لا تسمع قوله، ولا تطيع أمره، فإذا خلا بها تمنّعت تمنّع الصعبة عند ركوبها، ولا تقبل له عذراً ولا تغفر له ذنباً))(29).
ونهى صلّى الله عليه وآله الزوجة عن تكليف الزوج فوق طاقته، فقال: ((أيّما امرأة دخلت على زوجها في أمر النفقة وكلّفته ما لا يطيق لا يقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً إلاّ أن تتوب وترجع وتطلب منه طاقته))(30).
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وآله عن المنّ على الزوج فقال: ((لو أن جميع ما في الأرض من ذهب وفضة حملته المرأة إلى بيت زوجها، ثم ضربت على رأس زوجها يوماً من الأيام، تقول: من أنت؟ إنّما المال مالي، حبط عملها، ولو كانت من أعبد الناس، إلاّ أن تتوب وترجع وتعتذر إلى زوجها))(31).
وحذّر رسول الله صلّى الله عليه وآله من مواجهة الزوجة زوجها بالكلام اللاذع المثير لأعصابه، فقال: ((أيّما امرأة آذت زوجها بلسانها لم يقبل منها صرفاً ولا عدلاً ولا حسنة من عملها حتى ترضيه...))(32).
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الهجران باعتباره مقدمة للانفصام وانقطاع العلاقات، فقال: ((أيما امرأة هجرت زوجها وهي ظالمة حشرت يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون في الدرك الأسفل من النار إلاّ أن تتوب وترجع))(33).
وهذه التوجيهات إن روعيت رعاية تامة فإنها كفيلة بالحدّ من التوترات والتشنّجات، وإذا لم يستطع الزوجان مراعاتها فالأفضل أن يكون النقاش الحاد والمتشنّج بعيداً عن مسامع الأطفال، وأن يكون تبادل النظرة السلبية وتبادل الاتهامات والإهانات بعيداً عن مسامعهم، وأن يوضّح للأطفال أن الخلافات شيء طبيعي، وأنهما ما زال يحبّ بعضهما بعضاً، ويجب عليهما حسم الخلافات وإنهائها في أسرع وقت.
خامساً: التحذير من الطلاق:
حذّر الإسلام من الطلاق وإنهاء العلاقة الزوجية للآثار السلبية التي يتركها على الزوجين وعلى الأطفال وعلى المجتمع، فالطلاق مصدر للقلق عند الأطفال ومصدر للاضطراب النفسي والعاطفي والسلوكي، حيث أن الطفل بحاجة إلى الحبّ والحنان من كلا الوالدين على حدّ سواء، بل مجرّد التفكير بالطلاق يولّد القلق والاضطراب في أعماقه، فيبقى في دوامة من المخاوف والاضطرابات التي تنعكس سلباً على ثباته العاطفي وعلى شخصيته السويّة، وقد وضع الإسلام منهجاً في العلاقات وإدامتها للحيلولة دون الوصول إلى قرار انفصام العلاقات الزوجية وتهديم الأسرة، فحذّر من الطلاق في مواضع مختلفة، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ((أوصاني جبرئيل عليه السلام بالمرأة حتّى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها إلاّ من فاحشة مبيّنة))(34).
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ((ما من شيء ممّا أحلّه الله عزّ وجلّ أبغض إليه من الطلاق، وأن الله يبغض المطلاق الذوّاق))(35).
والذوّاق هو السريع النكاح، السريع الطلاق.
وقال عليه السلام: ((إن الله عزّ وجلّ يحبّ البيت الذي فيه العرس، ويبغض البيت الذي فيه الطلاق، وما من شيء أبغض إلى الله عزّ وجلّ من الطلاق))(36).
وحثّ الإسلام على اتخاذ التدابير الموضوعية للحيلولة دون وقوع الطلاق، فدعا إلى توثيق رباط المودّة والمحبّة، ودعا إلى حلّ المشاكل والخلافات التي تؤدّي إلى الطلاق، فأمر بالعشرة بالمعروف، قال الله تعالى: (.. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرً)(37).
وحثّ على الإصلاح وإعادة التماسك الأسري، قال الله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ...)(38).
فالصلح أولى من عدمه، وبما أن القلوب تتقلّب، وأن المشاعر تتغيّر من وقت لآخر، ومن طرف لآخر، فإن الإسلام حثّ على إجراء مفاوضات الصلح قبل القرار بالانفصال، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرً)(39).
وإذا لم تنفع كل محاولات الإصلاح وإعادة العلاقات إلى مجاريها، وإذا لم تتوقف التشنّجات والتوتّرات إلاّ بالطلاق، فقد يكون الطلاق سعادة لكلا الزوجين، ولكنّه يؤثّر على نفسية الطفل، وينعكس على سلوكه، ولهذا منح الإسلام فرصة جديدة للعودة إلى الحياة الزوجية، فأعطى الرجل حق العودة أثناء العدّة دون عقد جديد، وبعد العدّة بعقد جديد.
وجعل للرجل حق العودة بعد الطلاق الأول والثاني، فإذا لم تنجح محاولات إعادة العلاقة الزوجية، وتمّ انفصالهما يجب على الوالدين مراعاة مشاعر الطفل ومنحه الحنان والحبّ، ويجب عليهما توفير كل الظروف التي تساعده على الإيمان بسلامة أخلاق والده أو والدته، حيث حرّم الإسلام البهتان والغيبة وكشف المساوئ، وبهذا الأسلوب يستطيع الطفل تحمّل صدمة الطلاق، أمّا إذا لم يُتّبع هذا الأسلوب، وحاول كل من الوالدين كشف مساوئ الآخر أمام الطفل، فإن الطفل سوف يبغض الحياة، ويحتقر نفسه، وتنعكس على عواطفه تجاه والديه، فهو يحبّهما ويبغضهما في آن واحد بعد اطلاعه على مساوئهما، فيبقى يعيش في دوامة من القلق والاضطراب وتزداد همومه يوماً بعد يوم، وتنعكس سلباً على علاقاته الاجتماعية، وعلاقاته الأسرية في المستقبل.
ـــــــــــــــ
(1) سورة الروم: 21.
(2) مشاكل الآباء في تربية الأبناء، د. سبوك، المؤسسة العربية للدراسة
والنشر، ط3، 1980، ص44.
(3) تحف العقول، الحرّاني، المكتبة الحيدرية، النجف، ط5، 1380هـ، ص188.
(4) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج3، دار صعب، بيروت 1401هـ، ص281.
(5) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص281.
(6) مستدرك الوسائل، النوري، المكتبة الإسلامية، طهران 1383هـ، ج2، ص550.
(7) مكارم الأخلاق، الطبرسي، منشورات الشريف الرضي، قم، ط2، 1410هـ، ص210.
(8) مكارم الأخلاق، ص200.
(9) مكارم الأخلاق، ص200.
(10) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص277.
(11) الكافي، الكليني، دار التعارف، بيروت، ط3، 1401هـ، ج2، ص324.
(12) تحف العقول، ص239.
(13) سورة النساء: 34.
(14) ما يوضع فوق سنام الجمل للركوب.
(15) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص277.
(16) مكارم الأخلاق، ص215.
(17) مكارم الأخلاق، ص215.
(18) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص279.
(19) مكارم الأخلاق، ص218.
(20) مكارم الأخلاق، ص218.
(21) عدة الداعي، أحمد فهد الحلّي، مكتبة الوجداني، قم، ص72.
(22) عدة الداعي، ص72.
(23) عدة الداعي، ص81.
(24) مكارم الأخلاق، 216ـ217.
(25) مكارم الأخلاق، 216.
(26) مكارم الأخلاق، ص213.
(27) مكارم الأخلاق، ص200.
(28) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص277.
(29) مكارم الأخلاق، ص202.
(30) مكارم الأخلاق، ص202.
(31) مكارم الأخلاق، ص202.
(32) مكارم الأخلاق، ص214.
(33) مكارم الأخلاق، ص202.
(34) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص278.
(35) الكافي، ج6، ص54.
(36) الكافي، ج5، ص54.
(37) سورة النساء: 19.
(38) سورة النساء: 128.
(39) سورة النساء: 35.
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .